موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
كثيرا ما يغرق الإنسان في تيّارات العالم وسرعة الحياة، حتّى يغدو ضحيّة ما يجهل، وتبلغ الظّلمة بصيرته لتعميها، من عوامل ومسبّبات شتّى، حتّى يفقد الإتّجاه والبوصلة صوب طريق الحقّ والحياة. في خضمّ الصّراع اليوميّ يدعونا الرّب إلى وقفة صمت وتأمّل وارتقاء، لأنّ ضجيج هذا العالم كثيرا ما يعكّر الأنفس ويجفّف القلوب ويلوّث العقول، بل وحتّى العميقة والفذّة منها، لأنّ الجرف عظيم عظيم! إنّ نداء المسيح لنا أن "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم"، ما زال يدوّي ويصرخ، أمام عالم أسَرَه الفكر المُعوجّ، وقتلته أمواج التّفاهة، واستهلكته فلسفات الإستهلاك الأنانيّ، فبات يحيا للمَوت، ويُحيي الموت، ويموت وهو في الحياة. أمام واقع المجتمع وآفاق التّاريخ الرّحب، يطرح علينا الضّمير الإنسانيّ أسئلة ورشةِ عمل.. أين أنت؟ ماذا أنت؟ إلى أين أنت سائر؟ وكيف؟ هل من نور في الأفق؟ أم ظلمة وراء الأنوار؟ أيّها الإخوة إنّ المسيح الرّب قد دعانا لنكون راشدين في الفكر وناضجين في العطاء وحكماء في التّصرّف، لأنّ تشييد الخير العام وقداسة النّفس، لا يمكن حوزهما بثمن أقلّ. كثيرين توجّهوا للمسيح طالبين اتّباعه.. وكانت كلمة الرّب دوما بليغة قويّة زخمة وشافية.. لنتأمّل معا بآيات الإنجيليّ لوقا 9، 57-69 حول مفهوم اتّباع الرّب: 1) أتاه واحد ليقول له "يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي" وكأنّ اتّباع الرّب يتوقّف على الإلتزام الجغرافيّ، والملازمة الوقتيّة اللاّصقة لدرحة فقدان فن الإتّباع عن بُعد.. فكان جواب الرّب «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ»، وهذا هو حالنا عندما نريد ضمانات كثيرة لحياتنا وعطائنا ولقرب الرّب منّا بشكل حسّي، فنستحلف السّماء والأرض بإعطاء الكلّ "لو تحقّق لنا أن.." و"بشرط أن.." وتسري في دمائنا حضارة الإستهلاك والتملّك، والرّب في هذا كلّه يقول لنا إنعتقوا من ذواتكم،إنطلقوا، أبحروا، تعلّموا التّجرّد عن المكان والزّمان والضّمانات المبالغة، واتبعوني بحرّيّة القلب وحكمة الفكر وقوّة الإرادة، هكذا تتبعونني حقّا.. 2) ثمّ قال له آخر قبْل أن يتبعه بصيغة استئذان: «يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي»، ولنا نحن مشاغل كثيرة نريد أن نقوم بها قبل، وقد تستعبدنا وتأسرنا عن القيام بالرّسالة، ونستأذن ونستأذن ونستأذن، وهنا يقول لنا الرّب ما قال له «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ»، وهي كلمة قويّة جدّا، نعم أمام حضارة التّعلّق المفرط والغرق بفنجان، يقول الرّب تحرّر، قم، إنهض من جرف العالم، لا تكن إبن الموت، واذهب وناد بملكوت الله، هذا الملكوت الّذي يجمع ويبني وينشر المحبّة والحقيقة والعدالة وقيم الإنسان، ويعطي مساحة الخلاص، تلك الّتي بها يكون ويحيا كلّ منّا ذاته لا لذاته بل لخير الذّوات أجمع. 3) ثمّ قال له آخر «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ»، وهذا ما نختبره في قطاع كثيرة من مجتمعات الأرض، نريد أوّلا الأنا، نختلق الأعذار، نريد العودة للوراء، نريد إيضاع الوقت بأمور غير مجدية تحلو لنا، نريد كلّ شيء عدى الهدف والتّحدّي والصّعوبة وقبول الألم في سبيل الرّسالة الإنسانيّة والمسيحيّة، وهنا الرّب يشدّد ويندّد، وضعتَ يدك على المحراث، محراث العطاء، فواصل بعطائك ، ولا تتقهقر، فأبنائي ليسوا أبناء التّقهقهر، بل امتدّ للأمام، جابه، قاوم، وابتكر الطّرق والحلول، فالحصاد كبير، والإمكانيّات كثيرة، والحاجات واسعة والهدف واحد. نعم إخوتي بالرّب، إنّ المسيح يدعوني ويدعوك أمام الحضارة الجارفة أن نقوم ونكون رسل حقيقة وباعثي حضارة حقّ وحياة وقيمة ومعنى، أن نكون شهود لمن شهد للحقّ وهو الحقّ وله مجدُنا وحياتنا، تبارك إسمه الآن وإلى الأبد، آمين