موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

أحد المجيء الأول

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أحد المجيء الأول، السنة الليتورجية الجديدة: ب

أحد المجيء الأول، السنة الليتورجية الجديدة: ب

 

الإنجيل  لو 21: 25-28 و34-39

 

لو سألنا: من يعرف اول جملة في التوراة؟ فماذا نجيب؟ هي: في البداية خلق الله السّماء والأرض. وهذا صحيح. أما ما هي آخر جملة في كل الكتاب المقدس؟ هي: أنا آتي سريعا. نعم تعال أيها الرّب يسوع! ماراناتا(باللغة الأرامية، أي لغة يسوع)، وقد استعملتها الكنيسة في أول طقوسها في فلسطين. هذا وقد أعجبت هذه الصلاة يوحنا حتى نقلها وختم فيها كتاب الرؤيا. متمنّياً، أن يأتي يسوع من جديد، ويملك على هذا العالم. وهذا كان إيمان الكنيسة، أن الرب يسوع سيأتي في نهاية العالم. من هنا تسمية الآحاد قبل ميلاده، بآحاد المجيء. والمجيء هو تذكير واضح لمجيئه في آخر العالم لأن حقيقة ميلاده، هي بداية ملكه على هذه الأرض، آخرها خلاص العالم، الذي لا يتم على يد إنسان وإنما على يده هو.

 

في كل مطارات العالم لافتات واضحة، الأولى مكتوب عليها الوصول (المجيء) وعلى الأخرى المسافرون. وللتعرّف على المَدخلَيْن، غالبا ما تكون كل لافتة بلون، عادة الأسمر والأحمر. هذه هي لافتات الآحاد الأربعة القادمة. دخول وخروج، من سنة قديمة، إلى سنة حديدة. النظام جيد، إذ عدم النظام يعني فوضى، مثلما ورد في القرآن، حيث نقرأ: إن غضب ربُّك على أُمّةٍ، جعل ليلها نهارا، ونهارها ليلا. هذا ولكلِّ ديانة تقويمُها الخاص، الذي يذكِّرُها بترتيب أعيادها الدينية الخاصة بها، خاصة بميلاد مؤسّسها أو موته. فالديانة اليهودية لها تقويمها الّذي يُذكّرها بتحرير الشعب من عبودية فرعون، ودخوله أرض الميعاد. الديانة الإسلاميّة لها تقويمها الخاص، الذي يُذكِّرها ببداية وحي هذه الدّيانة لمؤسّسها. نحن المسيحيين، لنا تقويمنا الخاص، الّذي يُذكّرنا بميلاد المخلص يسوع ابن الله، وما عمله لخلاصنا.

 

فبابتداءِ المجيء، تنتهي السنة الليتورجية القديمة وتبتدئ سنة كنسية جديدة مُنظّمة، فهي تختلف بمحتواها لا بعدد أيامها، عن السنة العالمية، التي تحدّدها التحرّكات الفلكية فينتج عنها الفصول الأربعة، كل فصل بطابعه الخاص. تبدأ السنة الليتورجية الجديدة بالآحاد التي تسميها الكنيسة آحاد المجيء، التي تُبشرّ بمجيء المسيح المخلّص. في هذه السنة سيرافقنا إنحيل لوقا، المُسمّى بإنجيل الرّحمة. في المجيء نبدأ نسمع صلوات وتراتيل أشواق عميقة قديمة جميلة، تُّذكر بالأوقات الصّعبة التي مرّت بها الشعوب، وهي تنتظر مجيء المخلِّص. وقد أتى فعلا. نحن أيضا تمرُّ علينا نفس الأوقات الصّعبة، عالمنا ميؤوس منه لكثرة مشاكله ومناوشاته السّياسيّة وأزماته الإجتماعية، كالفقر والجوع والمرض، ومن ينسى أننا ما يُقارب السنتين تحت وطأة الكورونا التي لها بداية ولكنَّ نهايتَها غيرُ معروفة. أضف إلى ذلك، مخاوفه من نشوب حروب نووية فتّاكة،  وهمومه الكثيرة من تغيير المناخ، لعدم المساواة والعدالة فيه. هذا ونرى الحقيقة، أنّه لا يمرُّ علينا يوم واحد، دون نكبات ومصائب في عالمنا وحياتنا اليومية، فعالمنا ليس هو الجنة التي خرجت من يد خالقها. فمن لا يتذكر هنا شعاراً يائساً، تأخذه كثيرا من المظاهرات على يافطاتها، وهو: لا مستقبل! هذا مستحيل للمسيحي، الذي يتكل على كلمة يسوع: لا تيأسوا، بل ثقوا فإني قد غلبت العالم. لذا فتشجّعنا الكنيسة وتبشِّرنا بمواعيد الله، إذ الله معنا دائماً ولا يتركنا أبداً. كل هذا يقول لنا، إنّ لنا ولهذا العالم مسقبلا زاهرا. وهذا ما قاله لنا أشعيا: الشعب السالك في الظلمة سيرى نورا. التوراة تصف لنا تعلُّقه بهذا العالم ومحبّته، لذا ولِد فيه وسيموت من أجله. المزمور 7.24 يقول. إرفعي أيّتها الأبواب رؤوسكِ، وارتفعي أيّتها المداخل الأبديّة، فيدخل ملك المجد. (وها أنا يوحنا، سمعت صوتا عظيماً مِن االسماء قائلا: هوذا مسكن الله مع النّاس، وهو يسكن معهم، وهم يكونون له شعباً.. وسيمسح الله كلَّ دمعةٍ من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكولا صراخ ولا وجع ولا حزن، لأنّ الأمور الأُولى قد مضت (رؤيا :3 :21).

 

الشعوب القديمة كانت تعتبر يوم زيارة ملوكها من أهمّ| وأجمل الأيام في حياتها. فكان جميع السّكان يقفون على حافّة الطّريق، حتّى عندما كانوا يشاهدون مرورهم، يصفقون ويهلّلون، وتنطلق من أفواههم وحناجرهم أغاني المديح والتّرحيب، إذ زيارتُهم كانت تعني   التفاف الشعب حول ملكه، وتشجيعُه على التّكاتف وحمايةُ الوطن من الأعداء.

 

في أوّل أحد من المجيء، تُذكِّرنا الكنيسة بفترة انتظار الشعب للمُخلِّص الموعود، بعد خطيئة آدم وحوّاء، والّتي  ستدوم طويلا، أي حتى دخول الشعب أورشليم وأرض الميعاد. يتبعها عبوديتهم من جديد في بابيلون، لكن الله لم يُهمل شعبه. حتى في الغربة أرسل له أنبياءَ، ليُعزّوه: عزّوا، عزّوا شعبي!

 

آحاد المجيء هي أربعة، وهي رمز للأربعين سنة في البرّية. لا أحد ينكر، أنّها كانت حقبة صعبة للشعب، الذي اضطرّ في الأربعين سنة أن يخوض معارك، يمينا ويسارا، حتى قدر أن يدخل أرض الميعاد، وكلُّه أمل أن يأتي المخلِّص، فيعمَّ السّلام والأمان. "في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم آمنة" (إرميا 33:16). وبهذا المعنى تأتي نصوص قراآت هذه الآحاد، خاصة القراآت الأُولى، المأخوذة من العهد القديم. فكلُّها تتكلّم عن مخاوف البشر، ويأسهم عند الجوع والعطش في الصحراء: "ليتنا مُتنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنّا جالسين عند قدور الّلحم، نأكل خبزا للشّبع. فإنّكُما أخْرَجتُمانا إلى هذا القفر، كي تُميتا كلَّ هذا الجمهور بالجوع" (خروج 3:16).

 

في هذه الآحاد تُخبرُنا الكنيسة من خلال نصوصها، بأن الرّبَّ سيأتي، سيزورنا، لأنّه يُحبُّنا وسيسلم نفسه من أجلنا: "هكذا قال الرّب: لا ينقطع لداؤد إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل" (إرم. 17:33). نحن لا نريد أن نُصدِّق، كيف أن الله قد تواضع بهذا الشكل، ليبرهن على أنه مُغرمٌ في محبّتنا. " ليس أنّنا نحن أحببنا الله، بل هو أحبّنا" (1 يو 10:4). نعم في ظهور يسذوع على أرضنا بشكل إنسان مثلنا، تجلّت محبّة الله ووفاؤه لوعده. وهذه رسالة حيّة، حتّى لأيّامنا، المليئة بالمشاكل والتوتر واليأس وحتى الخوف من الأوقات الحاضرة والمستقبليّة. وعن هذه التخوّفات يتحدث إنجيل اليوم، الذي، رغم التهدبدات فيه بنهاية العالم، إلاّ أنّه يَعِدُ عالما جديدا بنظام جديد. وهذا رمز لما يذكره العهد القديم مراراً وتكراراً، أن حالة الشعب، ولو كانت تعيسة، وفي المنفى، إلا أنه يعده، بواسطة الأنبياء، أن يأتيهم زمان أفضل، عندما يحين الوقت ويأتي المخلِّص. ومعه يبدأ زمان جديد. وهذا ليس فقط لذلك الزّمان، بل ولكلِّ الأزمان والأحوال التي تمرّ على العالم. فهو لا ينسى لا المظلومين ولا اللاجئين، ولا المهضومة حقوقهم. وهو سند لمثل هؤلاء الناس، كما قال صاحب المزامير: في الضيق دعوتُكَ فاستجبتَ لي.

 

فزماننا هو دائما زمان الله وعالمنا هو دائما عالم الله، فما كنا لحظةً وحدنا، بدون إلله. هو حاضر بحياتنا ليس كشرطيِّ مُراقبة، فهذه ليست من صفاتِه، إذ هو لا يريد أن يُحدِّد من حرِّيتنا، بل يريد من كلِّ واحدٍ منّا أن يكتب قصّة حياته بنفسه.

 

هناك نقاط  ومستنقعات سوداء كثيرة في العالم، وهذا لا يعني، أن الله نفسه سبّبها، بل حرِّيتُنا نحن، هي الّتي سبّبت هذه المستنقعات السوداء فينا وفي عالمنا. وإن وقوعنا في الخطيئة الأصلي هو خير برهان، فما هو الله الّذي أوقع آدم وحوّاء في الفخ، إنما اختيارهما الحر، هو الذي أوقعهما قي الفخ. وأمّا الله نفسه فهو الّذي تقدّم، ليُصلِح خطأ الإنسان. فهما حقيقتان ثابتتان، لا اعتراض عليهما: الإنسان يُخطئ، لكن الله بل يُصلح، إذ هو حمل الله، الذي يجمل خطايا العالم. هذه قصّة الله مع الإنسان. فهو لا يفكِّر بالسّوء لنا، بل بالعكس، هو يفتِّش عن قُربِنا، لذا أرسل ابنه، الّذي سكن بيننا. وهناك ترنيمة دينية تسمي يسوع السُّلّم الّذي نزل إلينا وصار جسرا يصل الأرض بالسّماء. فيا ليتنا ندرك ذلك.

 

فكما ذكرت، تبتدئ الكنيسة اليوم سنة جديدة، إذ تقويمها هو غير التقويم العالمي، فهي تتبع حياة يسوع. يبدأ هذا التقويم كما هو في التوراة. بعد خطيئة أدم وحواء، يأتي الوعد بالمُخلّص، ثم اشتياق الإنسان لهذا المخلّص، وهو الّذي يذكِّرنا به زمن المجيء الآن، والّذي يتكلّل بميلاد المخلّص. يلحقه زمان ظهور المخلّص بتبشيره، فيلحقه غضب الشعب عليه لأنه لم يتطرّق لثورة سياسيّة وطرد المستعمر من البلاد، فيموت فداء عن البشر ويقوم ويصعد إلى السماء فيرسل الرّوح القدس، الذي يتولّى تتميم ما ابتدأ يسوع في إصلاحه حتى يصل العالم إلى كماله. هذا بالمختصر هو محتوى السنة الليتورجية الجديدة، التي تتكرّر كل سنة أمام عيوننا، بثراءة إنجيلي جديد.

 

لكن ما يحب معرفته، أنَّ سَرْدَ محتوى السّنة الليتورجية، هو ليس فقط قصّة سلبية، كحضور فيلم، يجلس الإنسان أمام الشاشة، كمشاهد أو مستمعٍ فقط، ويتابع سير الفيلم، دون أن يكون له أيُّ دورٌ فيه، بل قصّة سرد حياة يسوع، هي مشاركة واشتراك شخصي، من خلالها نكتشف لماذا قام يسوع بكل ذلك؟ والجواب هو أبسط ممّا نفتكر: لأنّه يُحبّنا ويريد أن يفدينا ويخلِّصنا ويُرجِعنا إلى فردوسنا المفقود.

 

هذا ولكي تبقى محبّة الله حاضرة وعالقة في ذهننا، فقد أعلن البابا فرنسيس يوم الأحد 2020.12.06 كأحد الرّحمة، وهذا مناسب جدّا، لأنه إن لم يكن الله رحيما، لما تجسّد وولد ومات من أجلنا. من هذه التسمية، قصد البابا، أن يسلك الناس طريقا حديداً، طريق التوبة والرّجوع عن طريق الفساد والخطيئة، وخاصة عن الحروب والمظالم، المسؤول عنها الإنسان نفسه. ومن جهتها قصدت الكنيسة أيضا، أن تذكّرنا بمحبّة الله لنا وبرحمته الواسعة، التي صارت محسوسة بواسطة إبنه، الذي صار إنسانا من أجلنا. هذا وليظهر رحمته ومحبته لنا، فهو أراد أن نجسّدها بأعمال الرحمة والمحبة المذكورة في آخر فصول متى. إطعام الجائع، زيارة المساجين والوقوف إلى جانب المرضى والمظلومين.. هذه أحسن تحضيرات عملية، نقوم بها لاستقبال صاحب المجيء. فدعونا نضع هذه السّنة الجديدة بيد الله وحمايته، هذا وأملنا كبير، أنّ مَن الله معه، فسيعيش سنة مباركة مليئة بالخير ماراناتا! تعال يا رب! آمين