موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

"آنيّة المُلك الإلهي" بين كاتبي سفر صموئيل الثاني والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (2صم 5: 1- 3؛ لو 23: 35- 43)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (2صم 5: 1- 3؛ لو 23: 35- 43)

 

مقدّمة

 

يشير الطقس هذه الأيام، مع ألوان الخريف الناعمة، إلى شيء قديم. يعلن على وشك انتهاء هذا الموسم واقتراب موسم الشتاء. في هذا الأسبوع نختتم السنة الطقسية الّتي تعلن السرّ الّذي يكشف ما وراء هذا الزمن. ترشدنا قرائتنا اليوم إلى التطلع نحو أفق لا يمكن تجاوزه، بل تعلن النقطة التي من خلالها ننظر إلى تاريخنا بعيون مختلفة. بدءًا من النهاية، من المقال القادم سندخل في زمن المجيء، وسنهيأ لاستقبال نورًا جديدًا. إن النظر بعيدًا في الماضي يمكن أن يعجزنا ويزيل نظرتنا إلى الحياة بثقة. في هذه الأجواء الخريفيّة، نستكمل أيها القراء الأفاضل، مسيرتنا الكتابية فيما بين العهدين، لاكتشاف الكثير عن "سر الله الكامن في الكلمة الإلهية".

 

نصوص اليوم تحمل مضمون كتابي مُعاصر ويساعدنا لنتعرف على سيادة الرّبّ على حياتنا وآنيّة ملكه الإلهي أيّ "الرّبّ ملك الآن". سنتعمق اليوم في أحد نصوص العهد الأول من خلال سفر صموئيل الثاني (5: 1- 3) الّذي يشير إلى نشأة فترة الملوكيّة داود على بني إسرائيل. أما بالعهد الثاني من خلال إنجيل لُوقا (23: 35- 43) ستتجسد الملوكية بمعنى جديد إذ لا يسود الفكر الملكي البشري بل يفتحنا يسوع ابن الله على نوع ملكي جديد وهو "الملكوت" وتصير آنيّة ملكه متجسدة في شخص يسوع ويصير هو فقط الملك الحقيقي، دون سواه، بعالمنا البشري. تدعونا نصوص مقالنا إلى التأمل في سيادة المسيح الملك على تاريخ البشرية. إنّ عالمنا هذا، ليس مغلقًا في "هنا والآن" ولكنه يسكنه الأمل، لأن شخصًا ما قد عبر بالفعل حدوده. تعودنا الحديث عما يمكن أن نختبره. فكيف تخبرنا ليتورجيا اليوم عن المستقبل؟ إنها تفعل ذلك بالطريقة المناسبة للاهوت المسيحي للتحدث عن المستقبل. نعم، تخبرنا نصوص اليوم عن المستقبل بدءًا من تاريخ إسرائيل مع داود أيّ بدءًا من ماضي يسوع ومستقبله.

 

 

1. مُلك داود بالجنوب (2صم 5: 1- 3)

 

المملكة الداوديّة التي ثبتت مملكة إسرائيل بشعبها من الشمال إلى الجنوب وأظهرت نوع من السيادة الإلهية على الشعب مختلف تمامًا عن الـمُلك البشري الّذي كان سائد في هذا العصر. إذّ إنّه بعد أن مسح صموئيل داود ملكًا، للمرة الأولى، على مملكة يهوذا بالجنوب (سبطين فقط) أي أقليّة، وبعد دوام مُلكه سبعة سنوات بها (راج 1صم 16: 1- 10). إذ صار داود الملك خلقة وصل جيدة بين الله وشعبه فصار الرّبّ هو الملك الحقيقي على شعبه بسبب مشورة داود لله في كل الأمور الّتي تخص الشعب.  لهذا السبب تم تحقيق الكثير من التقدم والازدهار على كل المستويات في مملكة بني إسرائيل بالجنوب.

 

حينما لاحظ بني إسرائيل بالشمال وهم (عشر أسباط) الأغلبيّة هذا التغيير على ذويهم بمملكة الجنوب، يروي كاتب سفر صموئيل الثاني بهذا النص، إنه بعد مراقبتهم سبعة سنوات لحالة بنيهم بالجنوب، قاموا باتخاذ قرار هام لكل مملكة الشمال. فتقدموا هؤلاء الشيوخ من الملك داود ودعوه بمملكة الشمال بحبرون وقاموا بطلب أنّ يملك على مملكتهم بالشمال قائلين: «هُوَذا نَحنُ عَظمُكَ ولَحمُكَ. [...] وقد قالَ لَكَ الرَّبّ: "أَنَّتَ تَرْعى شَعْبي إِسْرائيل، وأَنَّتَ تَكونُ قائِدًا لإِسْرائيل"» (2صم 5: 2).

 

 

2. سر نجاح داود بإسرائيل (2صم 5: 3)

 

«فقَطعً المَلِكُ داوُدُ معَهم عَهدًا في حَبْرونَ أمام الرَّبّ، ومَسَحوا داوُدَ مَلِكًا على إِسْرائيل» (2صم 5: 3). في كلمات الكاتب نتلّمس سرّ نجاح الملك داود بعد اختيار الله له كملك بالجنوب، الآن هو يملك بإرادة الشيوخ وباختيارهم الحرّ على شعبه بسبب تواصله التامّ بالرّبّ في كل شيء يخص شعب الله. أدرك داود رسالته كملك أنّ يضع مُلك وآنية الله في المركز، فالله هو الّذي يختاره كملك أرضي على شعبه وهو كوكيل الملك الإلهي وضع الله في مركز رسالته الملكيّة فوضع كل شيء أمام الرّبّ والأهم أنّ الشعب أدرك أهميّة العلاقة والعهد بالرّبّ في عصر داود الملك أكثر من شاول الملك السابق له. "قطع داود العهد أمام الرّبّ ومع الشيوخ، هو طاعة للرّبّ في اختياره ملك على كل شعبه ومن الجنوب إلى الشمال.

 

من خلال سفري صموئيل وحتى موت داود بسفر ملوك الأوّل (1صم 16- 1مل 2) إذ ترك داود العلاقة بالرّبّ كميراث لابنه سليمان في وصيته قبل موته فقال: «أَنا ذاهِبٌ في طَريقِ أَهلِ الأَرضَ كُلِّهم، فتَشَدَّدْ وكنْ رَجُلاً. واحفَظْ أَوامر الرَّبَ إِلهِكَ لِتَسيرَ في طَريقِه وتَحفَظَ فَرائِضَه ووَصاياه وأَحْكامَه وشَهادَتَه [...] ان حَفِظَ بَنوكَ طَريقَهم وساروا أمامَي بِالحَقِّ مِن كُلِّ قُلوبِهم كلَ نُفوسِهم، لا يَنقَطعُ لَكَ رَجُلٌ عن عَرشِ إسْرائيل» (2مل 2" 1- 4). نجح داود بالقرن العاشر ق.م.، في الاستمرار في آنيّة الـُملك الإلهي لمدة أربعين عامًا مَلَكَ فيها وبثها ليسود الملك الإلهي من بعده. نتابع كمؤمنين الآن، براعة لوقا في دوام الـمُلك الداوديّ الّذي قدّ وجد حينما سادّ هذا الـمُلك لمدة ألف عام وهي الّتي نُطلق عليها الألفية العظيمة لأنها بدأت مع داود الملك ووجدت ذروتها في مُلك يسوع. وهذا ما سنتعمق فيه من خلال النص بالعهد الثاني.

 

 

3. سُخرية محيطين يسوع (لو 23: 35- 36)

 

رأينا شفافيّة شيوخ بني إسرائيل وطلبهم مسح داود ملكًا على الشمال. هذا يتناقض مع ردّ فعل مُعاصري يسوع مِن يهود ورومان، إذ يكشف الإنجيلي في سرده قائلاً: «ووقَفَ الشَّعْبُ هُناكَ يَنظُر، والرُّؤَساءُ يَهزَأُونَ [...] وسَخِرَ مِنه الجُنودُ أَيضًا» (23: 35- 36). نعم، يتحدث الإنجيلي بشكل مفاجئ عن صلب يسوع وموته على الصليب. بالفعل تمّ اختيارنا لهذا المقطع لأنه يتحدث عن مُلكه بشكل مختلف تمامًا عن إعلان داود. وهو ما يبرزه أيضًا المقطع الّذي قمنا بتفسيره سابقًا، من سفر صموئيل الثاني (5: 1-3) عند سرد مسح داود ملكًا على مملكة الشمال بإسرائيل. ومع ذلك، فهذا النص في حد ذاته مناسب لأنّه يُعبر عن التقارب مع مسح داود بالشمال وهنا من خلال توليّ يسوع مُلكه على عرش الصليب. من خلال التناقض الّذي تشير إليه لحظة مسح داود وصلّب يسوع باختباره الظلم والموت، يحدث إعلان رجاء، من خلال آنيّة الـمُلك الإلهي، الّذي يتعارض مع الـمُلك البشري ويكشف سيادة الـمُلك الإلهي فقط.

 

 

4. مَلِكَ اليَهود (لو 23: 37- 38)

 

يُلقب يسوع من محيطيه لحظة صلبه بلقب الـملك: «"إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ!" وكانَ أَيضاً فَوقَه كِتابَةٌ خُطَّ فيها: "هذا مَلِكُ اليَهود"» (23: 37- 38). صار الصلّيب بمثابة العرش الملكي الّذي تمّ تتويج يسوع ملك عليه. ردّ فعل المحيطين يتناقض مع ردّ فعل الشيوخ في زمن داود، وهذا لأن المعاصرين كانوا ينتظروا من يسوع مُلك أرضي يحررهم من عبودية الرومان.

 

 

5. ملكوت-مُلك (لو 23: 39- 43)

 

المواجهة بين الحياة والموت، تظهر في مقطعنا في الحوار بين يسوع وأحد المجرمين المصلوبين معه. هذا اللص هو أوّل إنسان يَطّأ أبديّة الملكوت. إنّه بالتأكيّد أوّل مَن تمتع بمُلك يسوع، الّذي بذلَّ حياته من أجل البشرية. إنّه أوّل مَن اجتذبه المسيح لملكه بسبب قوله: «"أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ". فقالَ له: "الحَقَّ أَقولُ لَكَ: "» (لو 23: 42). هذا اللص هو رمز البشرية الخاطئة التي جاء يسوع ليخلصها؛ إنه يمثل كل خاطئ منّا يعرف أنَّ حياته ليست مرتبطة بثقل فقره. يُمثل هذا الرجل رجال ونساء كل العصور، الـُمتطلعين إلى التجديد والجدّة وفي ذات الوقت مُقيدين بالشر الـمُحيط بهم. من خلال ردّ يسوع على اللص «سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس» (لو 23: 43)، من على عرش الصلّيب الّذي يشير إلى آنية الخلاص الإلهي. هذا "اليوم الملكي والخلاصي معًا" له أهمية خاصة بحسب لوقا. إذ يشير الإنجيلي إلى خمسة أيام (راجع لو 2: 11؛ 4: 21؛ 5: 26؛ 5: 19). موضوع اليوم الّذي يتخلل الإنجيل اللُوقاوي ويرى مركزيته في زمن يسوع. هذه التأكيدات تتعلق بتحقيق الخلاص منذ ولادة يسوع، وافتتاح رسالته بالناصرة، والتعبير عن دهشة معاصريه أمام أعماله، واللقاء مع العشّار زكا وأخيراً الكلمات الموجهة للمجرم المصلوب معه. كل هذه التكرارات تشكل إعلانًا بآنيّة الخلاص الّذي يتم يوم سيادة وملوكيّة يسوع من على عرشه.

 

 

الخلّاصة

 

تعمقنا معًا في ملكين الأوّل الأرضي داود (2صم 5: 1- 3) الّذي أبدع في التركيز على مُلك الرّبّ وسيادته من خلال مسحه على بني إسرائيل باختيار الرّبّ له. وفي تحقيق أسمى لهذا المُلك الداوديّ نجد إعلان يسوع الجديد لملكوت الآب الّذي افتتحه الآب في تتويج ابنه ملكًا على الصليب مانحًا الخلاص للبشرية، ثمّ بقبول لص يمثلنا حينما نادى يسوع باسمه مُعترفًا به ملكًا (لو 23: 35- 43). هذا اللص اختبر آنية الخلاص المسياني وسيادة يسوع عليه. ها نحن كمسيحيين نحتتم السنة الطقسية داعيين يسوع ملكًا على حياتنا وقلوبنا في ملكوته الأبدي، ولازال صوت يسوع يجلل لكلاً منا قائلاً: «سَتكونُ/ين اليَومَ مَعي في الفِردَوس». دُمتم في تمتع بملكوت الله، هنا والآن.