موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٦ أغسطس / آب ٢٠٢١

أبونا فراس، المليء من مار فرنسيس، ومن شيوخ العشائر.. ما أجمل هالخلطة!

أبونا فراس، المليء من مار فرنسيس، ومن شيوخ العشائر.. ما أجمل هالخلطة!

أبونا فراس، المليء من مار فرنسيس، ومن شيوخ العشائر.. ما أجمل هالخلطة!

الأب د. رفعــت بدر :

 

فراس النشمي، أردني المنشأ، فلسطيني الهوا، إنساني الشعور، روحانيّ الصلاة، الشاب دائمًا مع الشباب، وشو بدنا نحكي تنحكي عن هذه الشخصيّة الرائعة التي تبيّن حقًا -وعاشت حقًا- المقولة المسيحيّة القديمة والجديدة: "المسيحي الحزين، ليس مسيحيًا".

 

هي إذًا سمة الفرح والبساطة اللتان تميّز بهما قلب فرنسيس الأسيزي، وكأنها تسري كالدم من جيل إلى جيل، إلى أن وصلت إلى الجيل الفرنسسكاني الحديث، ومسّت قلب فراس. وكم وكم لدينا من القصص الرائعة والمواقف المثيرة للبساطة حين تجتمع مع الفرح، فيكون الغناء والرقص والدبكات الشعبيّة بالخبرة المؤابيّة والكركية! وقبل ذلك وبعده، طبعًا وطبعًا وطبعًا الصلاة والروحانيّة العميقة. فكان أن صار أول كاهن أردني في الرهبنة الفرنسسكانيّة، التابعة لخطى "فقير أسيزي" مار فرنسيس، وأول كاهن من عشيرة الحجازين الخصبة بالدعوات الكهنوتية والرهبانية في رحاب الرهبنة الفرنسسكانية.

 

في عام 1994 جاءت والدتي –رحمها الله- لحضور رسامتي الشماسيّة في بيت جالا، وقام أبونا فراس –الراهب وقتها- بإطلاق الزغاريد وقيادة الدبكة. ترسّخت منذ ذلك الحين أسباب مَحبّة الوالدة له: "اللي زغرد في رسامتك". فكانت الصداقة الدائمة عنوانًا للسنوات الماضيّة، وتقوّت طبعًا أثناء خدمتي في جنوب الأردن، مع فراس وأهله الأكارم والكرماء إلى حد الجنون. وصرت أعرف أنّه حيث وجد فراس، تكون الأجواء مختلفة تمامًا.

 

وفي دبلن عام 2012، اجتمعنا كوفدٍ أردني وفلسطيني، ممثلين عن فرقة الأخوية المريميّة الليجوماريا، فعشنا معًا أسبوعين من الصلاة والتعبّد القرباني –في المؤتمر الإفخارستي- وكان لأبونا فراس، كالعادة، بصماته الخاصة التي دوّت في أرجاء العاصمة الإيرلنديّة.

 

وفي وسط نوبات الفرح والرقص والدبكات والزغاريد والصلوات، والصولات والجولات، كانت أيضًا نوبات الألم تعصف بهذا الجسم المارد، فصار لديه سجل وHistory صحي معقّد نوعًا ما، بسبب داء السكري، الذي يحاول الإنسان أن "يتعايش" معه، إلا أنّه يغدر وينهك الجسم.

 

وحين قيل لنا أن أبونا فراس مصاب بالكورونا في سورية الحبيبة، قمت مع أشخاص كثيرين بإجراءات دخوله إلى الأردن للعلاج. وكانت أيامه في الأردن تتأرجح بين الأمل حينًا، والألم والاستعداد للأصعب. فهاتفني من المستشفى مستفسرًا عن إمكانيّة النقل، وقلتُ له بأننا نحاول. فقال متنهدًا: يبدو أنني لن أخرج من هنا. ومن بين مئات التلفونات التي كنت أجريها أو أتلقاها، إذا واحد يقول: رحل فراس. فكان الخبر كالصاعقة وأبكانا جميعًا. واقترحت على الرهبنة الفرنسيسكانيّة أن تكون مراسم الدفن على جبل نيبو، حيث الدير الفرنسيسكاني العتيق والعريق. وقد تمكنا والحمد لله من وضع البطرشيل الكهنوتي والمسبحة الوردية والماء المقدس، مع جثمانه الطاهر، ليتمكن من قرع باب الملكوت بها، بكرامة كهنوتية وتعبد مريمي.

 

فكان كذلك! ووافقت الجهات الرسميّة الأردنيّة على هذا استثناء الدفن، ذلك أن "شهداء كورونا" لهم مناطق مخصّصة لهم. وقال الآباء ليكن رأسه متوجهًا في رقاده الأخير نحو القدس، مثل موسى النبي الذي كان يحدّث الله وجهًا إلى وجه، وكان ينظر إلى أورشليم الأرضيّة التي خدم في دير المخلص فيها سنوات ميّزته بكاهن الرعية المواظب والمبادل رعيته المحبة والاحترام والسهر والعناية، بينما رب السماء والأرض، يخطط لنقله إلى أورشليم السماويّة، حيث لا بكاء ولا ألم، وحيث يكفكف كل دمعة من عيوننا.

 

في النهاية، أشكر الله الرحيم على نعمة حياة هذه الشخصية الراقدة والرائعة، التي تميّزت بالفرح والبساطة، وأحبّ الناس بكل أطيافهم بدون تمييز. وأسهم بإيقاد شعلة مسيرة القديس فرنسيس في الأردن، لعدة سنوات، ولبس الكوفية الحمراء والعباءة على قمة جبل الموجب، وعلّم أجيالاً كثيرة من الشباب "زفّة العذراء" التي تعبّر عن حبّ الشعب الفطري للام البتول مريم. وحين كانت الديار مغلقة بسبب كورونا: صنع من الدار والديرة ديرًا، ومن البيت كنيسة، وطاف بأهله بين شجرات الزيتون في أدر، محتفلاً بأحد الشعانين وبالأسبوع المقدس، وصولاً إلى فصح القيامة السعيد، الذي احتفل به بعدها بأقل من أربعة أشهر، أمام الحمل الذبيح في الملكوت.

 

رحمك الله أيها الصديق العزيز، رحمك الله يا فراس،

المليء من مار فرنسيس، ومن شيوخ العشائر، ومن القديسين. ما أجمل خلطتك!