موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٧ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠
ظاهرة "الحداد" على الميت في المجتمع الفلسطيني: مدينة بيت لحم كنموذج
الباحثة الأستاذة منيرفا قسيس جرايسة

الباحثة الأستاذة منيرفا قسيس جرايسة

الباحثة أ. منيرفا قسيس جرايسة :

 

احتوت الثقافة العربية في مضامينها الاجتماعية كما هو حال معظم الثقافات على العديد من العادات والسلوكيات والممارسات لتشمل مثلا الممارسات المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية المفرحة كالاحتفالات بالزواج وبالنجاح وبالانجاب... كذلك الأمر بالممارسات المرتبطة بحالات الوفاة والمرض كجزء من الثقافة باعتبارها أسلوب حياة ينتهجه أعضاء المجتمع أو جماعات داخل المجتمع الواحد. فهي ترجمة لاسلوب حياة الأفراد والجماعات باتجاهها المادي كالأشياء والتقننة وتجسيد المضمون، والمعنوية كالقيم والأراء والمعتقدات ولغة التعبير عن الذات حيث تحتوي هذه المسلكيات على تعبيرات ورموز مليئه بالمشاعر يعيشها الأفراد والجماعات المختلفة ورثَّت عبر الأجيال وأعيد انتاجها حتى يومنا هذا.

 

في هذه الورقة البحثية، تطَرّقت الباحثة لظاهرة (الحداد على الميت/ة) والممارسات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بها، في محاولة التركيز على الواقع الفلسطيني واستخدام نموذج منطقة بيت لحم، والذي يتضمن احدى هذه الممارسات في إطار ممارسة بعض العائلات المسيحية في محافظة بيت لحم، كعادة لبس الأسود تعبيرًا عن الحداد والحزن على الميت/ة الأمر الذي يشكل احد المظاهر المادية للتعبير عن الهوية الثقافية الموروثة لهذه العائلات في إطار المجتمع.

 

منهجية الدراسة

 

استخدمت الباحثة المقابلات المعمقة كآداة لجمع المعلومات من عينة عشوائية تمثلت في مجموعة من النساء من محافظة بيت لحم بلغت 15 سيدة أعمارهن بين 25 و65 عامًا، بالإضافة إلى كهنة اثنين من المحافظة يمثلان رعية الروم الأرثوذكس ورعية اللاتين، بهدف الاجابة على التساؤل الرئيس لهذه الورقة والمتمثل في: ماهية الأسباب التي تدعو إلى ارتداء النساء للملابس السوداء تعبيرًا عن حالة الحداد على الميت/ة في في العائلة المسيحية؟ بالإضافة إلى تساؤل فرعي يجيب عن: مدى إعتبار الظاهرة ذات بعد ديني أم لا؟ بسبب ارتباط هذه الظاهرة نسبيًا، بالعائلة الفلسطينية المسيحية أكثر من كونها مرتبطة بالمجتمع ككل.Image removed.

 

ظاهرة الحداد في اللغة (تعريف الحداد)

 

يقال "الإحداد" لغة، "أن يترك الإنسان الطيب والزينة والكحل، والدهن، والمطيب وغير المطيب إلا من عُذر"، وفي الجامع الصغير "إلا من وجع". والإحداد: تجنب الزينة في الملابس ونحوها، لا تلبس الملابس الجميلة، ولا تكتحل ولا تمس الطيب ولا تلبس الحلي من الذهب والفضة والماس، ولا الملابس الجميلة حتى تكمل العدة"، والحداد مفهوم بغيض النفس مرتبط بالمواقف المحزنة والمؤلمة، وهو تفسير لمجموع الممارسات الثقافية المرتبطة بالوداع للعزيز/ة.

 

جذور الممارسات واختلافها بين المجتمعات والثقافات المختلفة

 

يتضمن "الحداد" مجموعة من الممارسات الموروثة والمرتبطة باعتقاد وبإيمان كل منا حول "الموت" وما بعد "الموت"، أو تقليدًا لمسلكيات قديمة، بدون حتى التوقف والتساؤل حول جذورها، مثل الاعتقاد إن روح الشخص المتوفي تبحث عن معارفها.

 

اما فيما يتعلق ببعض الحضارات القديمة، كان يتم دهن جسد الميت/ة بالأسود، وإستبدل الدهان بالقماش الاسود للف جسد الميت/ة، وبعد ذلك تحول اللون الاسود كلباس رمزاً للحداد على الميت بحسب ما أشار البداوي. (البداوي، 2014).

 

كما وبرزت هذه الممارسات في العديد من الثقافات القديمة، حيث وجدت رسومات ونقوش في بعض المعابد المصرية القديمة والتي تبين استخدام الفراعنة لطقوس الحداد على الميت، حيث تشير العديد من الدراسات أن هذه الممارسات كانت تستمر بالعادة أربعين يومًا لأسباب مرتبطة باجراءات تحنيط الموتى ومن ثم فتح باب العزاء له/ا. أما اللون الأسود في الحضارة المصرية، فقد اعتبر لون يرمز للحياة الخالدة. وفي بعض الحضارات كان يتم دهن جسم المتوفى/ المتوفاه باللون الأسود في الجنازات لطرد الأرواح كما ورد في بعض الروايات القديمة، واستمرت هذه الظاهرة والممارسات حتى يومنا هذا وأصبحت من الطقوس الرسمية في أذهان الناس دون معرفة اصولها.

 

أصولاً، أعتبر المؤرخون أن ظاهرة ارتداء الملابس السوداء قد بدأت أول مرة عندما قام الامبراطور الروماني (ديوكلتيانوس) في القرن الثالث الميلادي (سنة 285) بذبح أكثر من 180000 مسيحي قبطي في مصر خلال يوم واحد، حيث ارتدى المصريين الملابس السوداء حدادًا على ضحايا هذه المجزرة. وفي المقابل، إعتبرت بعض الدول اللون الأبيض رمز للحداد، كاليابان والصين والسودان مثلاً، في حين اعتبر الأصفر في الفلبين وكمبوديا وبعض دول جنوب شرق أسيا. أما على المستوى الرسمي فيعتبر تنكيس الأعلام هو دلالة حداد في الدولة والذي يتم بأمر من رئيس الدولة.

 

أما في يومنا هذا، فيتضمن "الحداد" ممارسات مختلفة تقوم بها النساء بشكل خاص، مثل لبس اللون الأسود لفترة قد تمتد من يوم لسنة أو أكثر، اللطم على الوجه، البكاء، عدم التزين، عدم الخروج والمشاركة في المناسبات الاجتماعية التي تعبر عن الفرح أو التي يتضمنها الرقص والغناء، أو حتى التمتع في أكل بعض المأكولات التي أحبها الميت/ة، وبشكل خاص الحلويات منها، وفي بعض الحالات المتطرفة المرتبطة بعدم الاستحمام لفترة قد تصل لمدة أربعين يوماً أو إطالة المرأة لشعرها وعدم قصه خلال فترة الحداد وذلك تعبيراً عن حزنها.

 

إذن، هل يمكن اعتبار ظاهرة الحداد عُرف اجتماعي أم طقس ديني؟

 

عند النظر للأديان السماوية، نلاحظ العديد من الفتاوي الاسلامية والتي تعتبر الحداد تقليد وليس جزء من الدين، فقد اعتبر الاسلام الحداد بدعة ابتدعها البشر، وفي نفس الوقت يرتبط مفهوم (الحداد) لدى المسلمين بمفهوم "العدة" التي تُفرض على المرأة خصوصًا بعد وفاة زوجها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام للمرأة غير الحامل، وللمرأة الحامل تنتهى بانتهاء فترة النفاس بعد الوضع، وتفرض خلالها شروط تتعلق بعدم خروج المرأة من البيت وعدم التزين والتعطر الاّ في الحالات الضرورية، وبحسب المذهب الحنفي تستطيع المرأة أن تلبس الملابس السوداء لثلاثة أيام فقط، أما المذهب المالكي، فلا يسمح لها بلبس الملابس السوداء إذا كانت الزوجة ناصعة البياض ويظهر الأسود كزينة لها. واول من لبس الأسود العباسيون بعد مقتل إمام الدعوة العباسية وزعيمها إبراهيم بن محمد (ابراهيم الإمام) على يد الخليفة الأموي مروان الثاني سنة 749م واعتبر الأسود شعاراً لهم ، كما ولا يوجد نص يحث على لبسه.

 

أما فيما يتعلق بوجهة نظر الدين المسيحي حول هذا الموضوع فقط اشار الأب بولس العلم معبرًا عن رأي الكنيسة الأرثوذكسية "بأنه لا يوجد حداد في الكنيسة"،، بمعنى آخر "لا حزن في المسيحية" لأن الحزن على الميت هو بمثابة "انقطاع الرجاء بالقيامة"، فقد حزن المسيحيين على موت المسيح اليوم الأول والثاني، أما اليوم الثالث فقد جاءت القيامة. الأمر الذي أكده أيضًا الأب الدكتور عزيز حلاوة معبرًا عن وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية حيث اعتبر "الحداد طريقة اجتماعية لا بُعد لاهوتي أو ديني لها، وورثت من  الجذور اليهودية والوثنية"، وغالبًا ما استمدت فكرة الحداد لثلاثة أيام من المعنى الانجيلي لحياة السيد المسيح حيث الموت والقيامة في اليوم الثالث".

 

اما فيما يتعلق بلبس الأسود، فيلبس الكهنة الملابس السوداء مثلاً، تعبيرًا عن إطفاء كل معاني الملذات والملفتات الدنوية والشهوات والالتفات الى الرسالة التي أنذروا أنفسهم لأجلها، كما وأكد الأب بولس الى أن ما نلاحظه اليوم من ممارسات في المجتمع المسيحي (لبس الأسود) على سبيل المثال هو تناقل لتقاليد ما قبل المسيحية ومرتبط بالأزمنة الوثنية. وعلى الرغم من محاولات الكنيسة الدائمة للتخفيف من هذه المظاهر باعتبارها مسلكيات اجتماعية موروثة فقط، ولا علاقة لها بالدين، والحل لإنهاء هذه الظاهرة من وجهة نظره هي من خلال الاجيال الجديدة والتي ستقضي على هذه الظاهرة من خلال تحديها.

 

أما على المستوى الاجتماعي والثقافي، تتفاوت هذه الممارسات في مجتمعنا الفلسطيني بين عائلة وأخرى ومن موقع لآخر. فنلاحظ اختلاف درجة التشدد اعتمادًا على البُعد الطبقي والمكانة الاقتصادية والاجتماعية للعائلة، فتعتبر بعض العائلات أنه من الضرورة أن تذهب المرأة إلى صالون التجميل لترتيب شعرها ووجهها وتلبس حُلة سوداء مرتبطة بيوم الدفن. وفي المقابل هناك الكثير من العائلات التي تعتبر هذا التصرف (عيب) وغير مقبول كون العائلة بحالة حزن لا فرح وأن الحزينة على فقيدها/تها بغض النظر عن درجة القرابة (زوجها/ ابنها/تها، اخيها/اختها... قريبها...)، لا يجب أن تكون في حالة تسمح بذلك، فكلما ظهر عليها الحزن من بكاءٍ وصراخٍ وارتداء ملابس سوداء، وشعرٍ غير مرتب "المنكوش" وانتفاخ في العينين، كانت هذه المرأة أكثر حزنًا على فقيدها (من وجه نظر البعض)، وارتبطت درجة التفاوت بالتشدد بالخلفية التي تندرج منها هذه المرأة أو هذه العائلة وبدرجة التزامها بالسلوكيات والطقوس الاجتماعية المرتبطة بالحداد في داخل هذه الأسرة أو في هذا المجتمع الذي قام بتطوير هذه القيم والمنتجاب الثقافية من خلال عملية التغيير الاجتماعي على مر العصور لينتج هذه المنظومة الثقافية.

 

أما بالنسبة للرجل فيُنظر له في مثل هذه المناسبات على أنه كتوم، يكبت حزنه على أحبائه، ومتماسك. فإن عبر عن حزنه بالبكاء، يقابله المحيطين بضرورة عدم القيام بذلك لأنها ليست من صفات الرجل الشرقي، وهي علامة ضعف مرتبطة فقط بالنساء. فالرجل صلب حتى لو كان طفلاً، وإن صمت، يُعبر عن حزنه بالصمت، يُحاط بالاهتمام الكبير، كون الصمت والكبت لا يلائم الرجال. والرجال، وبحسب ما هو متداول إجتماعياً، هم أكثر عُرضه للأزمات القلبية الناتجة عن تعرضهم للازمات الاجتماعية المختلفة، والموت واحداً منها، باعتبار أن الرجل هو السند والقوة لاسرته ولمجتمعه، وسلوكياته يجب أن لا تعكس أي مظهر من مظاهر الضعف كالبكاء والحزن في العلن. وفي حالتنا هنا، فإن المجتمع لا يحاسب الرجل على خروجه من البيت ومشاركته في أية فعاليات (عدا الاعراس)....، وهو يستطيع ارتداء الالوان والتحرك بحرية في إطار مجتمعه وعمله.

 

ومع كل التغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تستمر هذه الظاهرة في التغلغل رغم كل الانتقادات ومحاولات التحدي والتغير فيها، وهنا يأتي التساؤل حول القصد من فكرة عدم التغيير في قيم ومعايير ثقافية كان يحملها الناس سابقاً بالرغم من أن السياق الاجتماعي والثقافي تغير واختلف ، فنجد أن التقاليد الميته تتحكم بالأحياء وتجبرهم على الانصياع لها والالتزام بها، ويجد الافراد انفسهم منقادين وغير قادرين على مواجهتها بكل معانيها الاجتماعية والرمزية. وحتى مواجهة التمييز الذي يربط هذه الظاهرة بالنساء فقط وليس بالرجال، حيث ارتبطت معظم تفسيرات الحزن الاجتماعية والانفعالات فقط بالمرأة كونها واجهة المجتمع والمعبره عن حاله، والتي تضع النساء في تحديات اضافية على المستوى النفسي والاجتماعي إلى جانب التحديات الأخرى التي تعيشها المرأة الفلسطينية.

 

وقد تكون الاجابة على هذا التساؤل مرتبطة بقوة ترسخ هذه القيم في نفوسنا كبشر واعتبارها في مرحلة ما جزء من هويتنا التي تم انتاجها من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، الأمر الذي أشار له "دوركهايم" بمفهوم "الوقائع والحقائق الاجتماعية" المتمثلة بالتقاليد والعادات الموروثة والدين والتي تمارس سلطة إرغامية خفية على حياة الافراد، فيشعرون بقوتها من خلال سيطرتها وهيمنتها عليهم، ويقومون بتطبيقها وكأنهم أصحاب القرار ولا يشعرون بأنهم مرغمين على تبنيهان، عاجزين عن تغييرها أو مواجهتها، حيث تتأصل في حياتهم من خلال عملية التنشئة الاجتماعية.

 

ويعتبر تحديها والتخلص منها صعب أو شبه مستحيل، فالبعض يعتبرها جزء من الهوية الجمعية المتعلقة بتصوراتنا نحو انفسنا وبما تعتقد أنه مهم في حياتنا وأولوياتنا انطلاقًا من مصادر متعددة  منها العضوية في الجماعة التي من خلالها نصنف انفسنا كأعضاء وفق العديد من الموافق بالاعتماد على الأفكار والصور الذهنية والميول كرموز عن الجماعات المختلفة التي نعرفها، حيث نصنف علاقتنا بالجماعات ودرجة قربنا أو بعدنا عنها وفق عملية التصنيف للأفكار والاتجاهات وتصبح عملية الانتماء للجماعة أولوية وبالتالي تصبح أفكارنا ومسلكياتنا أكثر امتثالاً للجماعة.

 

الأمر الذي أكدته نتائج المقابلات الاستطلاعية لمجموعة من النساء المبحوثات من ثلاثة مدن من محافظة بيت لحم، وتراوحت اعمارهن بين 25-65 عامًا، وتم الالتقاء بهم بهدف التعرف على ارائهن حول ظاهرة ارتداء الأسود في فترة الحداد.

 

أبدت النساء المشاركات درجة متفاوته من التشدد في لبس الأسود كتعبير عن الحزن على الميت/ة، فقد أصرت 5 نساء على أنه الزامي والخروج عنه عيب اجتماعي خصوصًا وبحسب تعبير إحدى النساء "كيف نخرج عن عاداتنا واصولنا"، في حين أعتبرت أخرى "كيف تستطيع إمرأة فقدت عزيزًا أن تلبس الألوان والعيش وكأن شيئًا لم يحدث"، وفي المقابل عبرت معظم النساء عن عدم معرفتهن بجذور الظاهرة، وانهن تناقلن عادات لاجيال سابقة دون أن يسألن عن جذورها، ولكن يعتبرن أنه من الصعب تحدي التقاليد المجتمعية حتى ولو لم يقتنعن بها، فالأغلبية يرتدين الأسود خوفًا من كلام الناس وبشكل خاص النساء أنفسهن، حيث يعتبرن انفسهن كجزء من المجتمع يتعمق الشعور بالانتماء له كحاجة اساسية لا بد من اشباعها وتعكس هؤلاء النساء عمق الامتثال الذي يلغي الفردية لدرجة عدم التعمق في بعد هذه الممارسات حتى دون محاولة الفهم لجذورها والرمزية التي تحاول اظهارها تعبيرا عن هذه الهوية، حتى وبعد أن أدركت العديد من النساء المبحوثات أن لا جذور دينية لارتداء الملابس السوداء باعتباه ارتبط وبشكل بارز بالأسر المسيحية وجدت هؤلاء النساء صعوبة في فكرة التغيير الأمر الذي يعكس قوة التأثر بالتطبيق الشكلي خوفاً من تداعيات تتطلب منهم الخروج عن هذه القواعد المتوارثة، فهناك طريق ينفرد فيه الفرد بحيث لا يشاركه مع الآخرين رغم تماثلة وتشابهه مع الجماعة. فقد اشارتLessing 1972  والتي اشارت أن معرفتنا لغيرنا مرتبطة بتشابهنا وتماثلنا الناجم عن العالم الخارجي المشترك.

 

كما أن بعض النساء المتشددات هن ذوات مكانة اجتماعية عالية من حيث التعليم والثقافة، فقد لوحظ أيضاً التمسك بلبس الأسود أكثر لدى النساء المنحدرات من عائلات تقليدية جداً، وارتبطت الظاهرة أكثر بالأكبر عمراً مما هي لدى الشابات. هذا بالإضافة إلى أن درجة التشدد في ممارسة طقوس الحداد وخصوصا ارتداء الملابس السوداء عند النساء في مدينة بيت ساحور كانت الأقل من حيث التشدد وظهر ذلك في مشاهدة ارتداء النساء لألوان مختلفة (ليس شرطا الأسود) داخل المآتم وعدم وجود انزعاج من عائلة المتوفي/ة وقد يكون ذلك مرتبط بالتطور الثقافي والعلاقات الاجتماعية لدى ابناء المدينة باعتبار عائلات المدينة مترابطة أصلا بعلاقات الزواج والقرابة وعدد السكان في إزدياد واتفاق أهل المدينة على تقليص عدد أيام الحداد تسهيلا للالتزامات الاجتماعية لدى العائلات الأخرى هذا بالاضافة إلى التطورات السياسية الخاص التي مر بها أبناء المدينة خلال سنوات نضالها ضد الاحتلال الاسرائيلي والذي ادى إلى تقليل الالتزام بمعتقدات جذورها غير واضحة.

 

من المهم الإشارة هنا أن العديد من العائلات والحمائل في بيت ساحور قد وقعت اتفاقية خاص بها تتعلق بتحديد أيام الحداد والتي يجب الالتزام بها وترتبط بدرجة القرابة للميت/ة. وحددت في بعض الحالات ب 14 يوم أو 21 يوم وبحد أقصى 40 يوم، وعلى الرغم من تشدد بعض العائلات أو الأفراد المرتبط بارتداء الملابس السوداء أو عدم المشاركة في المناسبات المفرحة بالرغم من درجات القرابة المختلفة ، فإن العديد من المناسبات المفرحة قد تم الاستمرار بها حتى مع وجود مناسبات محزنة لدى نفس العائلة، وفي حالات أخرى تم إعطاء الأولوية للأفراح وتأجيل فتح بيت العزاء لحين الانتهاء من الفرح ، فلا إلزام لأفراد العائلة من الدرجة الثانية أو الثالثة للحداد لمدة طويلة.

 

لقد أشارت نتائج المقابلات أيضاً، إلى عدم المعرفة بجذور الظاهرة والاعتقاد عند البعض بأنها مرتبطة بالدين المسيحي بشكل خاص حيث تمارسها معظم العائلات المسيحية في محافظة بيت لحم وان معظم النساء اللواتي تمت مقابلتهن ابدين صعوبة اجتماعية في تحدي الظاهرة حتى بعد أن علمن أن جذورها ليست دينية، وعلى الرغم من التفاوت في ممارسة الحداد، إلا أن ارتداء الأسوّد ما زال قاتمًا ويظهر التفاوت الاجتماعي من خلال نوعية وجودة الملابس السوداء وتصفيف الشعر لدى العائلات الغنية والبساطة في الأسر متوسطة الدخل، كما وبرز بعض التشدد في لبس الملابس السوداء لدى العائلات متدنية الدخل أكثر مما هو موجود لدى العائلات ذات الدخل المتوسط أو المرتفع.

 

حقيقية أن من فقد عزيز/ةً، لا شك لا يحلو له في الحياة شيئاً، فيجد المرء نفسه لا يميل الى لبس الالوان أو حتى المشاركة في الأفراح والمناسبات. وهذا يعتبر حق طبيعي للإنسان بأن يعبر بطريقته الخاصة عن حزنه وألمه ليس إرضاءً للمجتمع في ظل وجود الكثيرين ممن يعتبرون غير مقتنعين وتجدهم يمارسون ما هو غير مُقنع للمجتمع وللناس. أن قضية الحداد كباقي القضايا التي تحتاج الى تغيير جذري عَبر تحدي منظومة القيم التي تركز على الشكل أكثر من المضمون وعلى المواجهة والمكاشفة أكثر من المجاملة والمخاجلة، حيث التناقض القيمي الذي يعكس نفسه في السلوك الاجتماعي للافراد.

 

نحن هنا بحاجة دائمة الى اشخاص يقبلون على ذاتهم التحدي بكل ما فيه من صعوبات ليكونوا السباقين في عملية التغير في بعض القيم السلبية والممارسات الغير هادفة في هذا المجتمع وتوجيهه نحو الافضل. فالحداد مفهوم اجتماعي موروث لا يحمل إي معنى ديني، وعلى الاقل من يعتبر نفسه مؤمناً بالاتجاه الديني، عليه عدم الدخول في مراضاة الآخر معتقداً أنه يرضي خالقه.

 

بالرغم من التغييرات التي رافقت تشكيل هوية المجتمعات الحديثة التي ركزت على الثبات في اتباع الموروث الآن من المفترض أن يتم انتزاع هذا الثبات للتأثير أكثر بالمفاهيم المرتبطة بالمجتمع الحديث ومتطلباته والخروج من اثار التقاليد الموروثة.

 

هذه دعوة عامة للمجتمع وخاصة لكل من يعتقد بكل هذه الممارسات، أن لها أبعاد اجتماعية ثقافية تؤكد التزامهم وعدم خروجهم عن مسار المجتمع وقيمه، بأن يقفوا وقفة جادة حياة هذه الظاهرة ويعيدوا التفكير في الممارسات التي يقومون بها، فهي مسؤلية مجتمعية تبدأ بالتوعية بضرورة التفكير في جذور سلوكياتنا وتحليلها وفق السياق الاجتماعي لها الذي تعيش به.