موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٤ يوليو / تموز ٢٠٢٠
أ. منيرفا قسيس جرايسة تكتب من بيت لحم: الاختيار الزواجي ما بين الحب والعائلة
محاضرة في قسم العلوم الاجتماعيّة بجامعة بيت لحم، أخصائية في الإرشاد الأسري، وإستشارية في قضايا الجندر والشباب

محاضرة في قسم العلوم الاجتماعيّة بجامعة بيت لحم، أخصائية في الإرشاد الأسري، وإستشارية في قضايا الجندر والشباب

أ. منيرفا قسيس جرايسة :

 

تعتبر العائلة أساس المجتمع وهي البناء الاساسي لتلبية إحتياجات أفرادها المادية والعاطفية كباراً وصغاراً ، فبحسب طرح أوغست كونت الذي اعتبرها "الخلية الأولى في جسم المجتمع والنقطة التي يبدأ منها التطور والتقدم"، حيث يكمن جوهر رؤيتنا لمعني العائلة وتشكيلها من خلال رابطة الزواج . وتعتبر عملية الاختيار الزواجي ما بين الرجل والمرأة من أعقد وأبسط الأمور التي يمر بها الأنسان، سواء كانت هذه العملية تقليدية؛ بمعنى بعض الترتيبات العائلية، أو بعد المرور في علاقة عاطفية "حب".

 

إن العديد من المتوجهين نحو الارتباط الزواجي لا يُدركون عمق المعنى الذي يكمن في بناء هذه العائلة، والمسؤوليات المرتبطة بالأزواج نحو بعضهم البعض ونحو أبنائهم في المستقبل وكلذك نحو المجتمع، فنجد بدايةً؛ النظرة السطحية للأمور والتي تركز على المظاهر والشكليات ما بين الطرفان مثل المظهر الخارجي للرجل والمرأة، فينجذبون لبعضهم بطريقة يعتقد كل منهما أنه يمر بتجربة حب أفلاطونية، وقد لا يشعر أي من الطرفين انه قد بدأ بإهمال رسائل العقل له حول الشخصية الحقيقية للشريك/ة المستقبلي/ة في أدق تفاصيل الحياة "الجميلة منها والسيئة"، فهل حقيقةً يوجد توافق نفسي اجتماعي ثقافي بينهم أم لا؟


 

الحب وموضوعية الاختيار...

 

يعتبر "الحب" إثارة فسيولوجية تتمثل بالرغبة في الاتصال المتواصل بالشريك، ووجود مشاعر السعادة في حضوره، وشعوره بالاشتياق للشريك والرغبة بالتواجد بجانبه والحديث معه والتقرب منه، نتيجة الأوامر الصادرة من الدماغ لإفراز كميات وافرة من هرمون السعادة "الدوبامين والأوكسيتوسين" الذي يمد الجسم بالدفء والحيوية والتوهج أثناء حضور الشريك، وفي حال غيابه يقل إفراز هذا الهرمون وبالتالي يعيش الشخص مشاعر الحزن والألم. فبحسب دراسة بريطانية أشارت نتائجها إلى "تعطّل أجزاء معينة من الدماغ (المسؤولة عن التفكير والتقييم الموضوعي) في حالة الشعور بالحب، وتنشط مناطق أخرى مسؤولة عن العاطفة"، الأمر الذي يفسّر عدم القدرة على اتخاذ القرارات بشكل موضوعي في إطار العلاقات العاطفية، بمعنى أن يكون "الحب أعمى" أحيانًا.

 

اعتبر عالم النفس الأمريكي Larry Steinberg,1986 أن الحب يمر "بثلاث مراحل من وجهة نظره: العاطفة والعشق أولاً، ثم يتدرج إلى المودة والألفة ما بين الطرفان ثانيًا، وبعدها يصل الطرفين إلى مرحلة الالتزام واتخاذ القرار. وعليه، فإن أي علاقة حب تبنى فقط على المرحلة الأولى (مرحلة العاطفة والعشق) ستفشل إذا لم ينتقل الشريكان للمراحل الأخرى (المودة والالتزام). وهنا تكمن خطورة الارتباط الزواجي لمجرد "الشعور بمشاعر الانجذاب" التي لا نستطيع تسميتها "حب"، فحتى ولو كان بعض المتوجهين نحو العلاقات الزوجية صغار السن، بمعنى أنهم لم يقفزوا من تبعيات مرحلة المراهقة التي تحمل كل معاني فقدان السيطرة على المشاعر، فإننا نجدهم تارةً يشعرون بمشاعر الحب والفرح والإثارة، وتارة يكون الحزن والانعزال والشعور بالوحدة وقلة الدافعية. وهذا ليس نتاجًا إلا لتخبطات الجسد والتغييرات الفسيولوجية الداخلية التي تعكس نفسها على حالتهم النفسية والعاطفية وتصرفاتهم الخارجية.

 

فحتى ولو كان الشخص في عمرٍ يعتبرُ مناسبًا لاتخاذ القرار من الناحية النظرية، بمعنى أنه تجاوز عمر الخامسة والعشرون مثلاً وظهرت معالم شخصيته وحدد اتجاهاته في الحياة نحو المجتمع والمهنة والزواج، إلاّ أننا لا يجب أن نعتمد على ذلك كضمانة لنضوجه الإنساني. فغالبًا ما يرتبط هذا النضوج والاستقرار العاطفي وقدرته على فهم وإدارة الاختلافات في علاقاته وعلى نقاش المشكلات والتحديات وإدارة الأزمات وعدم الهروب منها وفي نفس الوقت اتخاذ القرارات الموضوعية. وبمعنى آخر، أن يكون الشخص قد حدد كيانه وذاته وشخصيته واستقلاله من خلال عملية النمو والتطور المستمر غير المرتبط بمكانته الاجتماعية أو إنتماءه العائلي، ولا بدرجةٍ علميةٍ أو اقتصادية.


 

كيف يمكن تحقيق هذا النضج؟

 

يكمن الخطر هنا باللجوء والاستناد إلى توجهات أفراد وأزواج لديهم تجارب عائلية فاشلة نوعا ما، وبُنيت علاقاتهم و/أو زيجاتهم على شكليات ومسائل سطحية أو تقليدية (زيجات مدبرة)، بمعنى ينظرون للزواج وبناء العائلة "بجسد جميل وقوام متناسق رشيق، وتربية أطفال وبيت نظيف...الخ". هؤلاء لا شك لا يبحثون عن السعادة المرتبطة بالشراكة الحقيقية في الحب. حيث أثبتت العديد من الدراسات والتجارب العملية أنه إذا تم بناء الزواج على هذه الأمور وبدون الادراك الحقيقي لمفهوم المسؤولية والشراكة في الحب والتفاهم والتكاملية والصبر، فلا شكّ سيكون الفشل والألم من نصيبهم، ولا يجب أن ننظر إلى العلاقات التي صمدت في الماضي جميعها على أنها علاقات حقيقية وناجحة، بل إن صمود معظمها كان نتيجة "ثقافة الصبر" التي عززتها الثقافة العربية والتربية تجاه أفرادها وبشكل خاص النساء منهن.

 

وبهدف تحقيق هذه النضج، يجب أن يتوفر بعض الشروط الأساسية، كالاستقلالية في إختيار الشريك/ة دون التأثر بأيٍ من المثيرات والأراء الاجتماعية المحيطة به، ويستطيع الفرد مناقشة أفكاره ومشاعره مع نماذج جيدة ويستتند إلى التجارب الإيجابية التي سوف تساعده/ا في فحص قدراته/ا على مواجهة التحديات المرتبطة بهذا الزواج وليس إلى الزيجات "الشكلية والسطحية والمدبرة".

 

إن هذا النقاش يقودنا إلى حجم المفاهيم السلبية المتكدسة أذهان الشباب والشابات حول مفهوم الزواج أو العائلة والتي قد تظهر في شخصياتهم وتفاعلاتهم الاجتماعية والعائلية والأسرية، الأمر الذي يفسر الأعداد المتزايدة يوميًا لحالات الأزواج المتجهين إلى المحاكم الشرعية والكنسيّة لإنهاء عقود زواجهم بعد مرورهم بصراعات زواجية وعنف وأذى هدد أمن وسلامة أفراد هذه الأسرة كبارًا وصغارًا.


 

الانسجام والمسؤولية والنضج الأسري..

 

لقد كانت وما زالت الأسرة الرافد الاول والأساسي للمجتمع بأعضاءه المستجدين منهم، ويكون المجتمع أكثر تماسكًا عندما يكون أعضاءه قد عايشوا الاستقرار والانسجام بمراحل تنشئتهم الاجتماعية التي تعزز انتمائهم الأسري وتشكل هويتهم الاجتماعية والشخصية بمعزل عن التوترات والصراعات التي قد تحدث بشكل خاص في حالة كون الوالدين/ العائلة غير منسجمة ولا يسود بينهما التفاهم، ويكون الخلاف الزواجي والتوترات ظاهرةً ومنعكسةً على طريقة تعاملهم وتوجهاتهم في عملية تنشئة ابنائهم على المستويات الاجتماعية  النفسية والاخلاقية.

 

إنّ ما تم طرحة من تحديات تواجه الزواج مرتبط وبشكل مباشر بحالة اللامسؤولية التي ينتهجها الشركاء في مؤسسة الزواج ومحاولاتهم الموضوعية عند اختيار الشريك/ة أولاً، ثم العمل على التغيير باتجاه فتح قنوات الحوار عند الخلاف وتقديم البدائل التي من شأنها أن تحدد الأولويات المختلفة وتقديم بعض التنازلات من قبل الطرفين ثانيًا، وفي نفس الوقت إعطاء جهد حقيقي لحماية الأطفال من انعكاسات الخلافات الزوجية على حالتهم النفسية وتوجهاتهم الاجتماعية ثالثًا، كون هذه العائلة وبشكل أكيد ستعيد انتاج زيجات يسودها الفشل منذ بدايتها.

 

إنّ مبدأ الشراكة في الحب والزواج لا بد أن يتم التعامل معه بجدية وموضوعية ومسؤولية، بعيدًا عن التدخلات القائمة على فرض الأراء والتسلط والتي حتمًا ستحد من عملية الإختيار السليم أو حل الخلافات بهدف البناء لا الهدم.