موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠
"رسل الملكوت"... كتاب جديد للمطران سليم الصايغ
هذا الكتاب للتأمل ومحاسبة الذات. قد يُعيد إلى ذهنك مسارب روحيّة وراعوية كانت مهملة ومنسيّة، وقد يشجعّك على المزيد من التوبة والصلاة والتضحية، فتسعى إلى الكمال لمجد الله وخلاص النفوس. يسوع المسيح فادينا يدعو جميع أحبائه إلى اتباعه، ويجعل منهم رسلاً، وأنت واحد منهم، يحملون بشرى الخلاص إلى البشر أجمعين. وسّع قلبك وآفاقك المسيحيّة، واكتشف الكرامة العظيمة والمسؤولية الجسيمة بأن تكون رسولاً للمسيح.

أبونا :

 

أصدر المطران سليم الصايغ، المطران السابق للاتين في الأردن، كتابًا جديدًا بعنوان "رسل الملكوت".

 

ويتكون الكتاب الجديد من 250 صفحة، في عشرة فصول، كالآتي: روح الرب عليّ "مسحني وأرسلني لأبشّر"، أبناء الكنيسة رسل المسيح والكنيسة، أنماط الرسالة في الكنيسة، رسول الملكوت رجل الطموح إلى القداسة، رسول الملكوت رجل التوبة والمصالحة، رسول الملكوت "رجل الصلاة" الساعي إلى "روح الصلاة"، رسول الملكوت رجل القربان الأقدس، رسول الملكوت رجل الصليب، رسول الملكوت خادم الليتورجيا، هذه أمك.

 

وفيما يلي نص مقدمة الكتاب:

 

خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وجعله ابنًا له، يتمتّع بحال النعمة والبرارة، كي يكون معه في سعادة أبديّة. ولكن الشيطان أغوى الإنسان منذ بدء التاريخ، فأساء الإنسان استعمال حريته وانتصب لكبريائه وأنانيته في وجه الله. وأراد أن يبني ذاته بذاته. فأفسد على الله خطته، وفقد حال البرارة النعمة والميراث الإلهي، وأورث ذريته من بعده، طبيعته البشرية المجروحة بخطيئته، والمجردة من القداسة والبرارة.

 

"الخطيئة الأصلية" هو الاصطلاح اللاهوتي الكاثوليكي للتعبير عن حالة الحرمان هذه، وعن حالة الضعف والخطيئة التي تنتقل إلى ذريّة آدم بالولادة مع الطبيعة البشرية. بالخطيئة جعل الإنسان بينه وبين الله مسافة غير متناهيّة، مسافة الموت عن الحياة التي يعجز الإنسان بقواه الطبيعية أن يلغيها، وأن يعود إلى ما كان عليه، ليحيا حياة أبدية مع الله. ولكن الله ليس بعاجز عن إصلاح الإنسان وترميم بنيانه، لأن حبّه للإنسان لم ينتقص. فبعد سقوط آدم وحواء، وعدهما بالفداء، وواصل دون انقطاع عنايته بالجنس البشري.

 

وبعد أن تكلّم الله بالأنبياء كلامًا متفرّق الأجزاء، مختلف الأنواع، أرسل ابنه "الكلمة الأزلي" كي يُصلح ما فسد. فتجسّد الابن وأصبح إنسانًا، واحدًا منّا نحن البشر، وسكن بيننا (يو 1/14)، لكي يُعيد للبشر مجد طبيعتهم المهزومة وانتصار الفداء. فالله يريد أن يُخلّص جميع الناس ويبلغوا معرفة الحقّ (1 طيم 2/4). وقد حقّق السيد المسيح الخلاص الذي كلّفه به الله الآب، وذلك بتجسّده، بأقواله وأعماله، بآياته وعجزاته، بموته وقيامته المجيدة من بين الأموات، وأخيرًا بروح الحقّ الذي أرسله. فكان علّة خلاص أبدي، ونال للبشر الصفّح والغفران (المجمع الفاتيكاني الثاني "دستور عقائدي في الوحي الإلهي"، رقم 2-4).

 

لقد أعطى السيد المسيح الإنجيل منبع كل حقيقة خلاصيّة، ومصدر كلّ نظام خُلُقي، وأمر رُسله بأن يبشّروا به الناس أجمعين. فبشّروا، وسفكوا دماءهم في سبيل البشارة، وهم بدورهم، قلّدوا الأساقفة خلفاءهم ما كانوا يضطلعون به، من مسؤوليّة التعليم، وإعلان بشرى الخلاص، والمحافظة بأمانة على وديعة الوحي والإيمان. إنّ وحي الآب عن ذاته، بكلمته يسوع المسيح، وبالرّوح القدس، يُكّون وديعة الإيمان المحتواه في التّقليد المقدس وفي الكتاب المقدس. ولا يزال الروح القدس حاضرًا وفاعلاً في الكنيسة، شعب الله المقدّس، في اتحاد الشعب برعاته خلفاء بطرس الرسول والرسل الكرام، وفي أمانته لتعليم الرسل وللشركة الأخويّة، ولكسر الخبز والصلوات.

 

جواب الإنسان على وحي الله الذي يخاطب جماعة البشر هو الإيمان. والإيمان هو هبة من الله، وهو في نفس الوقت قبول حرّ، شخصي من الإنسان، ولكنّه ليس قبولاً منعزلاً، إذ ما من أحد يستطيع أن يؤمن منفردًا، كما أنّه لا يستطيع أن يعيش منفردًا. وما من أحد أعطى نفسه الإيمان، تمامًا كما لم يُعطِ أحد نفسه الحياة. فالإنسان الفرد يتقبّل الإيمان من الله، عن طريق غيره. وهو بدوره ينقله إلى غيره. محبّته ليسوع المسيح وللبشر تحمله على أن يُحدّث غيره بإيمانه، فكلّ مؤمن هو حلقة في سلسلة المؤمنين الطويلة (التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 166).

 

من أساسيّات الرّسالة المسيحيّة أن يعيش المسيحيّون بمقتضى ما يؤمنون به، كي لا يفقدوا مصداقيّتهم أمام الله والناس، وكي لا يكونوا سبب عثرة لغيرهم. فهم لا يعتمدون على مواهبهم الطّبيعية، وعلى ضعفهم وذلّهم، بل على قدرة المسيح والرّوح القدس. قال بولس الرّسول بهذا الشأن: "بشارتنا لم تصل إليكم بالكلام وحده، بل بعمل القوّة، وبالروح القدس، وبكمال اليقين" (1 قو 2/4). هذا التّبشير بقوة الروح، يُسبغ على المبشّر قدرة الإقناع والثّقة والجرأة والحريّة، بالاستناد إلى القوّة الكامنة في "كلمة الله". قال بولس أيضًا: "إني لا استحي بالبشارة، فهي قدرة الله لخلاص كلّ مؤمن" (رو 1/16). لقد كانت مهمّة الرّسالة لديه تسمو فوق كلّ مهمّة، وهذا ما يجب أن يكون لنا أيضًا.

 

في هذه الكتاب، نحاول أن نضع القارىء المسيحي وجهًا لوجه أمام رسالته المسيحية ومتطلّباتها الرّوحيّة والعمليّة، لعلّه يكتشف عمق المسؤوليّة الروحيّة الملقاة على عاتقه لتمجيد الله، وللعمل الجادّ لخلاص نفسه وخلاص غيره. قليلون من المسيحيين يُدركون عمق هذه المسؤوليّة  ويعيشون حياة إنجيليّة، ويحقّقون اتّحادهم الذّاتي بالله الذي يجعل رسالتهم مُثمرة، ليس خارجًا عن كيانهم، بل في ذاتهم وباشتراك حقيقيّ في حياة الله. إنهم يدركون ويعيشون ويتنفّسون حُبّ الله لخلاصهم وخلاص النّفوس. قال القديس يوحنا الصليبي: "إن كانت النفس تطلب الله حقًا، فالله يطلب النفس بقوة أشدّ".

 

إن سيّدنا يسوع المسيح أعلن البشارة إلى الخلق أجمعين دون تمييز. فهو يدعو الكهنة والشّمامسة، والرّهبان والرّاهبات، المكرسين والمكرسات، المتزوجين والعزّاب، الكبار والصّغار، المرضى والمتعافين، المثقّفين والجهال، مهما كان نوع عملهم، وفي أي مكان وزمان وُجِدوا. كثيرون منهم يحتاجون إلى توعيّة، وإلى تصويب مواقفهم الرّوحيّة والرّسوليّة، كي لا يبقوا ضائعين في عالم الوهم والخيال، وكي يحقّقوا، بنعمة الله، الهدف من الرّسالة ومن حياتهم المسيحيّة. كذلك كثيرون منهم لا يكترثون للنّعمة وللرسالة لجهل منهم. وكثيرون غيرهم يتذرّعون بحججٍ واهيّة ويعتبرون أنفسهم غير أهل لهذا العمل الرّسوليّ والروحيّ العسير الذي يتطلّب توجيه كلّ شيء في حياتهم إلى مجد الله وخلاص النّفوس.

 

ولذلك نوجّه هذا الكتاب إلى جميع المسيحيين، وبنوع خاص:

 

1) إلى الكهنة والعلمانيين، إلى المكرّسين والمكرّسات، لتوعيتهم على مسؤولياتهم الرّسوليّة الجسيمة تجاه مجد الله وخلاص نفوسهم ونفوس الكثيرين، كلّ منهم في مكانه وزمانه ودعوته، وضمن مسؤوليّاته الرّوحيّة والرّاعوية، العائليّة والاجتماعيّة. مواقف الكثيرين تحتاج إلى تصويب، لكي تكون أعمالهم الرسوليّة وحياتهم الروحيّة مثمرة ثمار الخلاص الأبدي. مسيحيّون كثيرون يجهلون أنهم رُسُل الملكوت، ويعتقدون بأنّ الكنيسة هي محطّة خدمات روحيّة لهم، ويحصرون مسؤوليتهم الشّخصيّة في حفظ الوصايا، وقلّما يخطر على بالهم بأنهم هم أيضًا يتحمّلون مع كهنتهم ورؤسائهم الكنسييّن مسؤوليّة خلاص النّفوس، وبأنّ خلاصهم الأبدي يمرّ بخلاص الآخرين.

 

2) إلى العاملين في حقل الرّسالة الذي يتوهّمون بأنّ الرسالة المسيحيّة تنحصر في ما يقومون به من أعمال الرّسالة الخارجيّة، وينسون أن الرّوح هو الذي يُحيي. وذلك كثيرًا ما يحصدون في نفوسهم الشّعور بعدم الارتياح الرّوحيّ، لأن أعمالهم الرّسوليّة تبقى على المستوى الإنساني، وقلّما تثمر ثمار الرّوح. فلا بدّ من تحذيرهم من الإنزلاق إلى الاكتفاء بالقيام بالعمل الرّسولي من أجل العمل، وإهمال حياتهم الروحيّة بحجّة كثرة الأعمال، فيبقون في ضيق في قلوبهم (2 قو 6/12). لدى الكثيرين مواقف في الحياة الرّوحيّة والرسوليّة تحتاج إلى إعادة النّظر، لتصويب الأفكار الخاطئة وما ينتج عنها من شذوذ في القيام بمسؤوليّات الرّسالة.

 

3) إلى الكهنة العاملين في الرّسالة الذين يعتقدون أنهم وحدهم مسؤولون في الرّعيّة، ويتجاهلون أن أبناءهم العلمانييّن والمكرّسين والمكرّسات في الرّعيّة، هم أيضًا يشاركون في حمل الرّسالة، وفقًا للقوانين الكنسيّة. كاهن الرّعيّة، على غرار معلّمه يسوع المسيح، جاء ليَخدُم الرّعيّة، فهو راعٍ وأب لأبناء رعيته. وعليه أن يَحتضن جميع أبنائه بصبرٍ ومحبّة، وأن يُصغي إليهم، وأن يعمل على توعيتهم على مسؤوليّاتهم الرّوحيّة والكنسيّة، لكي يتحمّلوا معه قسطهم من أعباء الرّسالة الرّوحيّة والكنسيّة، البيتيّة والاجتماعيّة، في سبيل خلاص نفوسهم ونفوس الكثيرين في رعيتهم وفي الكنيسة جمعاء.

 

4) إلى الكهنة والعلمانيّين، إلى المكرّسين والمكرّسات الذين يعتقدون أن الرّسالة في الكنيسة منوطة فقط بالعاملين في حقل الرّسالة، ويجهلون أو يتجاهلون أن الفضل الأكبر للنجاح الرّوحيّ الذي يتمّ عن يدهم، إنما هو ثمرة عرق جبين الكثيرين الذين تركوا العالم، وتخصّصوا بالصلاة والتّضحية، بالصّمت والتّقوى، بالعبادة والتواضع، لمجد الله وخلاص النفوس. إن الرّسول المضحّي بالأكثر ليس ذاك الذي يقوم بأعمال يراها النّاس، بل ذاك الذي يقوم بأعمال كثيرة غير مرئية، ويعرف أن يحتجب، وأن لا يزعج أحدًا، وأن يكون خفيف الظّل على الآخرين. فالأهميّة الكبرى ليست للعمل الذي يقوم به، بل للعمل الذي يترك يسوع يقوم به في داخله. إنّ خلاص النفوس يتطلّب أن يدفع الرّسول الثّمن الرّوحيّ أولاً وقبل كلّ شيء، وأن لا يقتصر على القيام بأعمال يراها ويلمسها كلّ النّاس. كان القديسون في حياتهم قدوة لكل المسيحييّن، فقد كرّسوا حياتهم كلّها لله، ولم يكن لديهم رغبه سوى العمل بمشيئته، فحقّق الله من خلال عطاء ذواتهم الكامل له، الخلاص الأبدي لنفوس كثيرة.

 

5) إلى النفوس الساعيّة إلى القداسة، كي تزداد سخاءً ورسوخًا في الصلاة والتضحية لمجد الله وخلاص النفوس، وكي يقترن قولها بعملها الداخلي الذي يحرّرها من كل همّ، ويجعلها تميل إلى قلب يسوع مثل الرسول يوحنا الحبيب في العشاء الأخير. فيسوع ينتظر هذه الثقة من كلّ نفس، لأن كلّ نفس هي عزيزة على قلبه بنوع فريد. وهو يحبّ أن يُشركها في رسالته.

 

إنّ السيد المسيح هو قلب التّبشير بالإنجيل. ومن قلب الإنجيل يشعّ الخلاص والرّجاء لكلّ البشر. وقد أنعم المسيح بالكثير علينا لكي نكون علامة حيّة له، ودعانا إلى شرف العمل معه، كلّ منا دعوته الخاصة، في مكانه وزمانه، وجعلنا رسلاً يبشّرون بموته وقيامته لخلاص كلّ البشر: "إننا نبشّر بموتك ونعترف بقيامتك إلى أن تأتي يا رب". ويحذرنا بولس الرسول قائلاً: "إن الزمان يتقاصر... وصورة هذا العالم في زوال" (1 قو 7/29-31)، وأما ما لا يزول هو كلام المسيح وكلامه لنا هو روح وحياة (يو 1/16). فكّلما تقدمنا في الحياة الروحيّة سهُل علينا أن نكون رسلاً ورعاة صالحين، نبذل نفوسنا في سبيل خلاص الآخرين. فالمسيح المُرسَل من الآب، فادي البشر أجمعين يشركنا في عمله الخلاصي، ويرسلنا لكي نكون خميرة إنجيليّة في عالم النفوس، ونورًا يرشدها إليه، هو الطريق والحق والحياة. قال القديس أغسطينوس: "المسيح الإله هو الوطن الذي نحن إليه ذاهبون، والمسيح الإنسان هو الطّريق الذي نحن فيه ذاهبون". فمن منّا كان تلميذًا حقيقيًّا للمسيح حمل رسالة الملكوت خاشعًا، نقيَّا، مضحّيًا كما ضحّى وأحبّ المسيح حتى الموت على الصليب في سبيل خلاصنا وخلاص البشر أجمعين.