موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٢٥ فبراير / شباط ٢٠١٨
بشار جرار يكتب من واشنطن: الصوم في زمن الثرثرة والضجيج

واشنطن – بشار جرار :

 

لا تخلو رسالة سماوية أو أرضية من عبادة الصوم. تتفاوت مدته وتختلف شدته وشعائره وطقوسه لكن ثمة ما يجمع عليه الصائمون ألا وهو الرجاء. فلا صيام إلا بامتناع وانقطاع وهو في الحالين خسارة مرحلية ترجو العائد المجزي والدائم والخالد.

 

ولعل من أكثر الصوّام شهرة في التزامهم أولئك الصوفيون أو الروحانيون الذين يتميزون عن سواهم في الأديان والمعتقدات كافة بتركيزهم على الجوهر لا المظهر والخفي لا المعلن. وهم يمعنون في امتناعهم وانقطاعهم الكلي الشمولي. تراهم يؤثرون النأي بأنفسهم في أعالي الجبال وبطونها، في صوامع أو محابس. ومع تقلب الأزمان وتحولها، ترى البقية الباقية من هؤلاء الطهر الأخيار، يختلون بأنفسهم مقلّين بكلامهم إلى حد الانقطاع التام.

 

لا زلت أذكر في طفولتي بهالة من المحبة المقدسة، راهبات كلدان العراق من كرادة مريم ببغداد امتناعهم في أيام الصوم عن الحديث إلا للضرورة القصوى. فما بال الصوم يزداد جلالا في زمن الثرثرة والضوضاء والضجيج. من منا لا يتوق في هذا الزمان المتعب إلى حد الإنهاك إلى جزيرة في وسط المحيط أو مغارة في بطن جبل يلوذ بسكونها إلى هدأة الروح وسكينة النفس وراحة الجسد.

 

لكن عالما بالغ في عدائيته واعتدائه على قيم الخير وأهله، لا ينفع معه الانسحاب وإن كان لغايات الصوم. نحن كما بشرنا السيد المسيح لا ننتمي إلى هذا العالم إلا أننا مدعوون إلى الاشتباك معه والانخراط بميادينه بما يقوم بعمل الملح في الأرض حتى لا تفسد. المهمة الرئيسية واضحة ومحددة مسبقا وهي ملكوت الله الخالد حيث يتقدس اسمه ويتمجد بأعمال البر والخير والإحسان.

 

إن زمننا وعالمنا وبلادنا في أمس الحاجة إلى صوم اقتحام واشتباك لا انعزال وانسحاب. فما تشهده منطقتنا من أعاصير وبراكين وزلازل أخلاقية واقتصادية وأمنية، تدعونا إلى الاستزادة من نور الكلمة، عهدا قديما بمزاميره وعهدا جديدا بآياته المقدسة ورسائله الرسولية، لمواجهة هذا العالم المترنح جوعا وعطشا من الناحية الروحية البحتة.

 

لا حل سواها، وحدها الكلمة التي تحي وتميت. لا السيف ولا حد المرض وحدود الموت تقتل روحا وإنما الكلمة النجسة الباطلة هي ما تميت.

 

يا لعظم مسؤوليتنا نحن من ابتلينا بنعمة أو بلاء التعامل مع الكلمة والصوت والصورة في هذا الزمان "الديجيتال"، حيث الدجل أصبح كأفلام "الساي فاي" الخيال العلمي يطبع على هيئة رقمية، هيئة توحي بالحيادية والموضوعية بأن واحد زائد واحد يساوي اثنين، لكنها في بعض الأمور تخفي قراءة صحيحة مغايرة بعيدة كل البعد عما تظهر ماكينة معادي الحق والحقيقة.

 

إلى الرب نطلب في هذا المقام الذي تتقاطع فيه دوائر الصوم حسب التقويم الشرقي والغربي، أن يلقي في قلوبنا نوره السرمدي المقدس الذي يقويها فلا تخاف ويعزيها فلا تحزن. ويكرمنا بنعمة أشبه ما تكون بمعجزة التكلم بالألسن، وهي أن يجعل في ألستنا صدقا يكشف زيف من يجملون الخطايا والآثام.

 

والميدان يا أحبة رحب زمانيا وأرحب مكانيا. أربعون يوما أمامنا الكثير الكثير لنعمل فعلا لا قولا فحسب. فعندما تقود الكنيسة حملة لمحاربة الإجهاض مثلا، في دول تعاني مجتمعاتها من هذه المأساة/الجريمة، نعمل على تحصين أسرنا ومجتمعاتنا من تسلل هذه الآفة التي لم تكن وليدة لحظة غواية وإنما تراكم تبريرات وذرائع شيطانية بكل معنى الكلمة. ففي الغرب مثلا، تم تزييف وعي الفرد ومن ثم نسبة كبيرة من المجتمع بـ"حق" المرأة في الإجهاض على نحو "حماية حقها بالاختيار". هذا مجرد مثال على خطورة توظيف الكلمة في العقل الجمعي لا بل واللاوعي أيضًا حيث يتم دس السم بالدسم عبر رسائل دعائية معدة بإحكام يتم تسريبها على نحو مبرمج عبر الخبر الإخباري والمادة البرامجية والفيلم السينمائي.

 

في نهاية المطاف كيف لأعمى أن يقود أعمى ويخرجه من الظلمة إلى النور؟ كيف للصائم أن يروي العطشى ويطعم الجوعى ويستر بما يعطي من ثياب عورات البعض ويضمّد جروح البعض الآخر ما لم يعطي ما يلبي الاحتياجات الحقيقية كلها. الكلمة التي لا يكتمل الكلام ولا الصيام إلا بها. كلمة ينبوع ماء الحياة وخبز الحياة. نور هذا العالم ومخلصه ورجاؤه.