موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٧ أغسطس / آب ٢٠١٨
كتب بشار جرار: التجلي متاح وسره مباح

واشنطن - بشار جرار :

 

عديدة هي المعجزات الواردة في الكتب المقدسة لدى أبناء نبي الله إبراهيم التي تتحدث عن المعاني التي اجتمعت في عيد تجلي الربّ وفقا للإيمان المسيحي. من تلك المعاني والدلالات: اختيار السيد المسيح لصفوة من تلامذته وأحبابه – أكثرهم دلالة هو بطرس. الارتقاء بهم للصلاة في منطقة معزولة ومرتفعة (جبل الطور). ظهور اثنين من أنبياء الله من أولي العزم في العهد القديم من الكتاب المقدس وهما موسى (كليم الله) وإيليا (الذي حبس المطر عمن عبدوا الإله بعل حتى يعودوا إلى رشدهم). ظهور النور في وجه المسيح منبعثًا مشعًا لا منعكسًا، بل وطاغيًا على ملابسه التي ابيضّت نورا وضياء. وأخيرا وهو الأهم -في نظري- هو الترتيب الزمني لهذه المعجزة من حيث أسبقيتها على الصلب والقيامة، شريطة التكتم عليها لحين قيامة السيد المسيح وعودته وظهوره أمام توما "الشكاك" الذي تطلّب إيمانه حد الحس المادي لمواضع الصلب والطعن.

 

في الأديان كلها بما فيها الرسالات غير السماوية وغير التوحيدية، عادة ما تسبق الأحداث الجسام معجزات تعزي النفوس وتقوي الإيمان حتى إن هبّت ريح التجارب وعصفت بالأفئدة (العقول) المحن، ثبت الراسخون. والراسخون هم من عرفوا الحق وخبروه.

 

لكن الصورة الصارخة في التحدي لكل يائس من محبة الله ورحمته وبركاته، هي صورة بطرس.. هذه الصخرة التي اختار السيد المسيح أن يبني كنيسته عليها. فبطرس الذي رأى ما رأى وسمع ما سمع يوم التجلي وتفاعل مع كل شيء مصدقا ومبادرا بعرض إقامة ثلاث مظالّ فوق المسيح وموسى وإيليا، هو نفسه الذي أنكر المسيح ثلاثا قبل صياح الديك، مؤذنا لانبلاج الفجر. فما نقول في حال "غلابى" هذا الزمان الذي نعيش فيه؟ إن كان الذي رأى تجلي الرب قد ضعف أمام تجربة بطش روما فأنكر من قال له على مائدة العشاء الأخير أنه أحب إليه من نفسه ولم ولن يتركه أبدا.

 

إن بكاء بطرس نادما بعد لقائه السيد المسيح وفرحه من بعد تكليفه مهمة "إطعام خرافي"، بمثابة تجلي وعزاء أبدي يذكرنا يوما بعد يوم وتجربة تلو الأخرى أن الإيمان لا يقهر، قد يضعف أو يفتر، لكنه دائم التجدد ولا يخرج من تجربة إلا وهو أقوى مما كان عليه قبل التجربة. معمودية النار صنو لمعمودية الماء فيهما يكتمل الخلاص ويختمر الإيمان.

 

وككل عيد وككل مناسبة دينية تحفل بها روزنامة المؤمنين، تكمن دعوة للصلاة والتأمل فيما كان وفيما حضر وفيما سيكون. فمن الغريب مثلا أن تكون تجليات وبركات عظات الأعياد سواء، لا بد من اختلاف وتباين، بل ولا بد أن تنمو باضطراد فترتقي بأنفسنا "جبل الطور" عاما بعد عام في حياتنا على هذه المعمورة.

 

ومن الأسرار غير المكتومة للعلاقة بين الحدثين اللذين مرّ بهما بطرس الرسول، هو الردّ الآتي للشهادة له وعليه على نحو سمعي لا بصري. فالرد على اقتراحه إقامة "المظال" يوم التجلي جاء برد إلهي مسموع بأن "هذا ابني الحبيب فاسمعوا له ولا تخافوا". لكنه رغم التنبيه غير المباشر من السيد المسيح على مائدة العشاء الأخير، أنكر ثلاثا حتى سماع صياح الديك للمرة الثالثة والأخيرة.

 

أشهد كإنسان –وبالتجرد التام عن أي اعتقاد ديني أو طائفي– أنني "واحد من الناس" الذين يتاح أمام ناظريهم التجلي مرات ومرات دونما الاعتبار في كثير من الأحيان لغاياته. إن الناظر من حوله لمعجزات الله التي لا تحصى ولا تنقضي، لا يمكن أن يعمى –وإن كان بإمكانه التعامي– عن وعوده الصادقة الخالدة. فالذي لم يشهد التجلي والنور المنبعث المشع، لا بد وأنه شهد يوما انبلاج الفجر. الموضوع لا يستدعي التجلي كل يوم.. فليس سرا أن النور يبدد العتمة ويقهر الظلم والظلمات. وليس سرا –كما يعرف الكثير من أقاربي وأصدقائي- أن إيماني الشخصي اليقيني القطعي الذي "لا ريب فيه" بوجود الله لم يتحقق إلا عند "سماعي" ومن ثم مشاهدتي نبضات قلب أول أطفالي ينبض لأول مرة عبر الألترا "ساوند" قبل نحو ربع قرن.

 

إن كنا جميعا "عيال الله" و"خرافه" فإنه لن يتركنا تائهين أو حزانى أو حيارى، فهو دائم التجلي وسره الصوت والكلمة لا الصورة، فصورة السراب لن تروي أحدا لأن لا ماء فيه، أما الكلمة ففيها السر كله.