موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٦ ابريل / نيسان ٢٠٢٠
أمام الأحداث التي يعاني منها العالم، الأب سامر حداد يكتب: ثورة
الأب سامر حداد، من كهنة البطريركية اللاتينية في القدس

الأب سامر حداد، من كهنة البطريركية اللاتينية في القدس

الأب سامر حداد :

 

مِن الجميلِ أن نتأمل في جميعِ الأحداث التي يُعاني مِنها العالم في ظلِ وباء كورونا لينكشفَ الواقع المؤلم الذي نعيشه. ما نعيشه اليوم هو مِقياس لحرارةِ الإيمان ونضوجهِ عندنا جميعاً. ما نعيشه هو فُرصة للثورة على أنفسنا وعلى جميعِ ممارساتنا في العلاقة معَ الله عِبرَ الإيمان وممارساتِ العِبادة وعلى تنشئةِ الجميع مِن أفراد جماعاتنا والقائمينَ عليها. فكلمة ثورة باللغة الإنجليزية (revolution) التي أتت مِن الكلمة اللاتينية (revolvere) أي التَدحرُج إلى الوراء. ما سنتحدثُ عنهُ هو ثورة بمعنى الرجوع الى الوراء وقراءة الطريقة التي عشنا فيها حياتنا الليتورجية، وقراءة وتأمل لما آلت إليهِ أمورنا وماذا كنَّا نفعل بشيء اسمه مسيرة نضوح الإيمان. لماذا نقول هذا؟ لأنَّ كُل ردود الفعل منَّا جميعاً ومِن تعليقات وردود فعْل على التعليقات وفيدوهات وممارسات تشوه مسيرة نضوج الإيمان هي لمزيد مِن التضليل ووقوع في شرك العادات الوثنية لا مِن أجلِ نضوج الإيمان.

 

المواقف والردود لم ترقى ولا تدل على أنَنا كُنَّا نسير على طريق نضوج الإيمان، فالكل يدعو الى الصلاة ورفع الصلاوات والمسابح وتحويل البيوت إلى كنائس ونوعية الصلوات التي نتوجه بها إلى الله يشوبها تشوه وهو أن أحدا لم يقول لنا كيف أنَّ هذه الصلاوات والتعبدات وكنائسنا البيتية ستكون فاعلة، فهل الدعوة إلى الله ومريم العذراء والقديسين والكنائس البيتية ليوقفوا هذا الوباء ستكون فاعلة كمفعول السحر؟ وهنا لا ننكر قدرة الله على فعل أي شيء ولكن الصلاة والممارسات اللليتورجية بهذا المفهوم هي كممارسة الوثنين لطقوسهم والذين لم يلبثوا إلا أن صمموا إله لكل مناسبة وإله لكل احتياج بشري، وهذا التشويه يوقعنا في شرك الوثنية.

 

إنَّ الصلاة بمفهومها وجوهرها هي الصِلَة والتواصل مع الله مصدر كُلِّ شيء وغاية كُلِّ شيء وغير ذلك هي عادات وثنية. الله لم يخلقنا لنكون عبيد لنمارس طقوس تُرضيه وتغذي اولوهيته بل خلقنا لِننعَم بالحضور الحي معهُ ونفرح بذلك الحضور الى الأبد.

 

ما نقوم به من عِبادت وممارساتنا للأسرار المقدسة في الليتورجية والممارسات التقوية في حياتنا المسيحية ليست هدف بحدِ ذاته وإنما وسيلة مميزة للحضور أمام الله الذي سينعكس على نوعية حياتنا بارتباط الله والآخرين. إنَّ الله في سفر صموئيل الثاني (7: 1- 17) نبوءة ناتان الذي كَذَب على داؤد لبناء بيت لله بعدما استقر الأخير في بيت، فكان جواب الله بالرفض لانَّهُ يرغب في أن يَبقى حاضراً يتجول بين شعبه، ولانَّ الله يُريد لحضورهِ أن لا يُحصر في المكان (المميز الهيكل الكنيسة اليوم)، لكنَّ الله عاد فقَبِلَ بأن يسكُن في بيت بسبب ضعف البشر وقبل بشرط التركيز على الرسالة وهي بأنْ ياتي الإنسان ليحضُر أمامَ الله في المكانِ المميز (الكنيسة) ليَتَقدَس الإنسان بحضور الله وصِلَتِهِ معهُ ومِن ثُم يخرج لينقل قداسة الله وحضوره وتواصله الى كل العالم. هُنا يكمن جوهر العبادة بكل ممارساتها التقوية كما في كامل سفر الأحبار( أو اللاويين أي الكهنة) الذي يُركز على طقوس مِن تقديس والمتمثل في الطاهر والنجس، وتقديم ذبائح مِن أجل الحضور في حضرة الله والتي شأنها خلق بيئة ووعي عِبرَ الممارسات الممنظورة المادية مِن أجل أن يتبلور ويُهيَئَ الإنسان للحضور الإلهي الذي يغمرنا بالنِعم. فالاتجاه الصحيح ليس بالتوجه مِن العالم الى الكنيسة بل مِن الكنيسة الى العالم، فمن منَّا يُدرك في نهاية القداس أنه يجب أن ينقل معه الى الخارج المسيح الذي اتحد به تحت شكل الخبز والخمر.

 

طالبونا بتحويل بيوتنا إلى كنائس وسارع الكثيرين لتحضير البيوت وخلق جو كالكنيسة شمعدانات وصور وشموع بدل عيش وترجمة كُل ما كُنَّا نعيشه في الكنيسة. أن ندعوا لتحويل بيوتنا الى كنائس (العائلة كنيسة بيتية) لا يعني نقل الحياة الليتورجية الى البيت، بل عيش ما كُنَّا نعيشة في حياتنا الليتورجية في غمرة حياتنا اليومية. القداس الإلهي هو لقاء مع المسيح القائم مِن بين الأموات في لقاء الحب والتضامن والسلام، وما يجب نقله إلى البيت ليس الليتورجية بل عيش ثمرة اللقاء بالمسيح مع بقية افراد العائلة والمجتمع مِن حياة محبة وتضامن فيما بينهم. ورش الماء المقدس في الليتورجية هو للتذكير بغسل المعمودية لعيش ثمرة البنوة الإلهية وغسل الخطايا، وأمَّا رش الشوارع والابنية بالماء المقدس دون بشر فهو تشويه لأشباه الأسرار ومعاملتها كأدوات سحرية.

 

إنَّ الأزمة التي نعيشها جراء توقف أكثر طقوس العبادة يُشير إلى أننا بعيدين عن جوهر رسالة الكنيسة وروح الأسرار المقدسة وشوهناها وتَوَقَفْنَا عِندَها وعند موادِها بَدَل أن تُربينا على علاقةِ الحب مع الله والمنفتحة على الزمن والمنزهة عن المكان والمادة، لقد توقفنا عند مستوى القيام بممارسات وشرائع وتنفيذ عادات لإرضاء الله وارضاء ضميرنا بأننا نخدمه ونقوم بواجباتنا.

 

ردود الفعل على الأزمة يشير إلى أنهُ ليس لدينا ادراك بانَّ يسوع حاضر فينا، وبانقطاع القداديس وتسكير الكنائس كأنَنا لم نتناول جسد المسيح في حياتنا، وبأنَّ الله لا يحضر إلاّ في الكنيسة، وهذا خطأ كبير نتج عن تشوه لمفهومنا عن العلاقة مع الله وانتقل الى عبودية الأوثان، فالله المبادر للقاء الانسان وليس العكس وخصوصاً أننا في ظروف استثنائية.

 

الخطأ الذي ارتكبناه هو في آلية التفكير في التعاطي مع الأزمة والحدث. فالموضوع ليس فيما نفكر فيه نحن عن العلاقة مع الله والديانة بل فيما يفكر به الله عن هذه العلاقة عبر الدين، فمثلا أنا أفضل أن نصلي لله في ظل هذه الظروف أن يهبنا نعمة الحكمة والصبر والسلام والقوة والحب لمحاربة الأحداث المؤلمة والمميتة بدل أن يوقف الله الوباء ليسَ لأنَّ الله لايستطيع ذلك ولا أنني لا أومن بقدرته بل لاننا يجب أن نتبنى فِكرَ الله، فالله لا يعمل بطريقة السحر، كأن نقول أنا لا أخاف مِن المرض ولا أتخذ الإجراءات اللازمة للوقاية وأقول أن الله يحميني وفي هذا تجربة لله.

 

التركيز كُله في هذه الفترة يجب أن يكون على ترسيخ الوعي لحضور الله إلى جانبنا ونضوج العلاقة معه بكل الطرق المناسبة وغير التقليدية التي توقفت بسبب الأزمة مع الحذر أنَّ كل الممارسات الليتورجية ليست هدف بحد ذاتها بل هي وسائل على اختلاف أهميتها مِن أجل الحضور في حضرة الله الذي يَنْعَم به علينا بكل ما نحتاجة لتخطي الأزمة، ولنتذكر بأنْ نُفَكر كيفما يُفَكر الله وليس كما نحنُ نُريد أنْ نفكر.

 

اليوم نحن نتجَرَد مِن كُل الطقوس الليتورجية وكل ما اعتدنا عليه كفرصة لنضوج الإيمان وتحرره مِن التعلق بالوسائل والتحرر مِن التعلق بممارسات الطقوس الليتورجية والوقوف عندها والتي لا نُنكر أهميتها وضرورتها ولكن مِن أجل أن نسمو إلى روح العلاقة مع الله بعلاقة الحب وفرح الحب معه بدل ألم العبودية. لا يجب أن يمر ما تعيشه الكنيسة من أزمة فهي فارغة، وما يعيشه القائمون عليها حيث انقطع الكثير مما اعتدنا عليه، والارتباك الذي يعيشه الاكليروس وارتباك الشعب المؤمن الذي تعلق بصور العبادة، دون أن يحاكي إيماننا الظروف والخبرة التي نعيشها والخروج بآليات وفكر لاهوتي لاعادة النظر في الخدمة التي نقوم بها والتي تعودنا عليها وتوقفنا عند ظاهرها وموادها.

 

غدًا سينتهي الوباء، فالله سيُلهم عقول العلماء مِن أجل اللقاح، وهل ستعود حليمه الى عادتها القديمة في ممارسة طقوس وليتورجية أم سندرك أننا يجب أن نعيش روح الديانة لا ممارساتها وفرح الحب لا ألم العبادة نضوج الإيمان لا وسائله وتعابيره. أرجوا أن لا يكونوا كثيرون هم الذين يجلسون في بيت الله، وقليلون هم الذين يجلسون في حضرة الله، فالعبادة صورة حضور الله فينا، والعبودية جمود هذه الصورة فينا (كتاب حضور الله بين العابدة والحب). إنَّ الازمة التي نعيشها هي فرصة لانتقال مِن ألم العبادة الى فرح الحب والعطاء والتضامن والسلام.