موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ فبراير / شباط ٢٠٢٠

يسوع والشريعة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
لا يكفي الالتزام بالقوانين والقيام بالواجبات. هناك احتياجات جديدة وطريقة جديدة للحياة وللمحبة والمجانية

لا يكفي الالتزام بالقوانين والقيام بالواجبات. هناك احتياجات جديدة وطريقة جديدة للحياة وللمحبة والمجانية

 

يصف إنجيل متى موقف يسوع من الشريعة القديمة، الشريعة الموسوية (متى 5: 17-37).  وقد اعطى الله هذه الشريعة سنة 1513 ق. م. (خروج 19: 5-6) والتي كانت " مُقَدَّسةٌ عادِلةٌ صالِحة (‏رومة 7: 12)، وهي جوهر الكتاب المقدس، لأنها تعبّر عن إرادة الله وما يطلبه الربّ من الإنسان ليعيش سعيدا ثم يدخل ملكوت الله. ومن هذا المنطلق، أعلن المسيح أنه ليس ضد الشريعة، ولكنه ضد إساءة فهمها وتطبيقها، فأنه تجسَّد ليُكملها فتصبح شريعة الكمال، الشريعة الجديدة الانجيلية، ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 5: 17-37)

 

17 لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل.

 

تشير عبارة "لا تَظُنُّوا" الى زعم الذين يدّعون أنَّ المسيح شرع يرتب شريعة جديدة ويلغي العتيقة. فتوقع الكثيرون التحرر من الطاعة للشريعة الموسوية. امَّا عبارة "جئت" فتشير الى مجيء من نفسه، وليس كالأنبياء أرسلهم الله. وبهذا القول هو أعظم من الأنبياء. جاء يسوع كمعلم من الله كما صرّح له نيقوديموس أحد رؤساء اليهود "نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً" (يوحنا 3: 2). أمَّا عبارة " لأُبْطِل" فتشير الى ينقض او يلغي الشريعة بل جاء يسوع ينقض الخطيئة، امَّا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد كتاب واحد، فان سقط بعضه سقط كله وإذا ثبت البعض ثبت الكل. أمَّا عبارة "الشَّريعَةَ" فتشير الى القسم الأول من الأقسام الثلاثة للأسفار العبرية تتلخص بلفظة תנךبحيث أن التاء (ת) ترمز الى التوراة، والنون (נ) ترمز الى الأنبياء، والكاف (כ) ترمز الى الكتابات؛ والقسم الأول يتكوّن من الاسفار الخمسة من سفر التكوين الى سفر تثنية الاشتراع؛ أمَّا عبارة "الأَنْبِياء" فتشير الى القسم الثاني من الاسفار العبرية، المكوَّن من سفر يشوع الى سفر الملوك الثاني، ومن سفر أشعيا النبي الى سفر ملاخي النبي. لكن استعمال التعبير "الشَّريعَةُ والأَنبِياء " يرجح ان الرب يسوع يشير به الى كل اسفار العهد القديم (متى 7: 12) التي تتضمن كل كلام الله المُعلن بالوحي للناس.  لكن الفريسيُّون أبطلوا الشريعة بتقاليدهم، والصدُّوقيون أبطلوا اقوال الانبياء بإنكارهم ما أوحي إليهم فلم يعترفوا سوى الطاعة للكتب الخمسة الأولى من التوراة. أمَّا عبارة " لأُكْمِل" في النص اليوناني الأصلي πληρῶσαι. (معناه يُحقِّق نبوءة (متى 1: 22) او ملأ (متى 13: 48) فيشير هنا الى المعنى الثاني. فلم يكتفِ يسوع بتحقيق النبوءة، بل أراد ان يبلغ بها الى كمالها بتفسيرها وايضاح معناها الروحي وبتعاليمه وافعاله ومثاله وطاعته (غلاطية 4: 4) وموته عنا. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لقد أكمل يسوع الأنبياء بقدر ما أكّد بأعماله كل ما قيل عنه، فقد اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل حالة: " كانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ (متى 1: 23)"؛ لقد أوصل يسوع الشريعة الى كامل مدلولها، فلم يتوقف عند مستوى اعتراف خارجي وطاعة شكلية للشريعة، بل أعادها الى مبادئها الأساسية وفرائضها. وبذلك أعاد الى الشريعة معناها الحقيقي، فبلغت كمالها الجذري وبساطتها الاصلية (متى 5: 20). وأكمل يسوع الشريعة أيضا في حياته بحفظها الى التمام، وفي تعليمه بنشر مبدأ المحبة الذي يكمّل الشريعة كما جاء في تعليم بولس الرسول "فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة (رومة 13: 10)، كما ان الايمان، كمال الشريعة، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَفَتُبطِلُ الشَّريعةَ بِالإِيمان؟ مَعاذَ الله! بل نُثبِتُ الشَّريعة" (رومة 3: 31). وأكمل المسيح الشريعة اخيرا بموته، إذ بموته استنفذ عقوبة الناموس على البشر "فصارَتِ الشَّريعَةُ لَنا حارِسًا يَقودُنا إِلى المسيح لِنُبَرَّرَ بِالإِيمان" (غلاطية 3: 24) هكذا "غايَةُ الشَّريعةِ هي المسيح، لِتَبْرير ِكُلِّ مُؤمِن" (رومية 10: 4).

 

18 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ حَرْفٌ أَو نُقَطَةٌ مِنَ الشَّريعَة حَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيء، أَو تزولَ السَّماءُ والأَرض.

 

تشير عبارة "الحَقَّ أَقولُ لَكم" الى تعبير ما سيُقال أنَّه شيء مهم، ولم يستعمل هذه العبارة سوى المسيح له المجد، أمَّا الأنبياء فكانوا يقولون "قال الرب"؛ امَّا عبارة " أَقولُ لَكم " فتشير الى ابن الله وابن الانسان الذي يقول الى تلاميذه. أمَّا عبارة " حَرْفٌ" وفي اليونانية ἰῶτα تشير الى الحرف العبري יוֹד (ي) "يا" في العربية وهو أصغر الحروف الابجدية في اللغتين اليونانية والعبرية، وهذا الحرف يدلُّ على أهمية الأمانة لكل شيء حتى للتفاصيل في الكتاب المقدس كما أنه تعبير عن كمال الشريعة؛ أمَّا عبارة "نُقَطَةٌ " في الأصل اليوناني κεραία (معناها في العبرية קוֹץ أي "الخط") فتشير إلى خط صغير يميّز بين حرفين. أذ يُضاف الى الحروف الابجدية العبرية فيحدث فرقا جوهريا بين أحد الحروف والآخر. في العربية، كثيرا ما تميّز النقطة بين حرفين. وفي كلا الحالين فالمعنى واضح وهو وجوب عدم لإهمال أي أمر من أمور الشريعة او أي تفصيل. ويُعلّق القديس أوغسطينوس "لقد أشار يسوع بحرف صغير، لأن حرف (ι) أصغر الحروف ويتكوّن من خط صغير، ثم أشار إلى النقطة التي توضع على الحرف، مظهرًا بذلك أن لأصغر الأجزاء في الشريعة قيمة"؛ أمَّا عبارة "الشَّريعَة" فتشير هنا الى كل اسفار الكتاب المقدس؛ أمَّا عبارة " يَتِمَّ كُلُّ شَيء" فتشير الى كل ما وعُد به وأُشير إليه برموز يتم فعلا. فالشريعة برمَّتها ستبقى كنظام حتى تُكمِّل كل مقاصدها. فالشريعة تحمل معها المكافأة على طاعتها والعقاب على عصيانها؛ لا يبطل من الشريعة شيء قبل ان تكمل غايته. أمَّا عبارة " تزولَ السَّماءُ والأَرض "فتشير الى ثبات نظام الكون الذي اتخذه يسوع مثالا لعدم التغيُّر. والمقصود من هذه الآية أن اية كلمة في الشريعة لن تسقط حتى لو زالت السماء والأرض. فلا يمكن ان يزول حرف الشريعة بدون ان يكون قد تمّ بالروح والحق. فاذا نظرنا الى الشريعة الطقسية باعتبار انه رمز وظل الخيرات، رأينا انها زالت بالمسيح، وامَّا جوهرها فكونها جزء من كلام الله تدوم الى الابد "وأَمَّا كَلِمَةُ اللهِ فتَبْقى لِلأَبَد " (1 بطرس 1: 25). ان الشريعة لا تتغير لأنها إعلان إرادة الله المنزَّهة عن التغير.

 

19 فمَن خالفَ وَصِيَّةً مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في ملكوتِ السَّمَوات.

 

تشير عبارة "فمَن خالفَ" الى من ألغي او أبطل عمدا؛ امَّا عبارة "مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا" فتشير الى ما يراها الناس أنها وصايا صغيرة مثل النظرة أو الغضب في مقابل الوصايا الكبرى كالزنى والقتل التي هي خطايا الفعل؛ قد قسم اليهود الوصايا الى كبرى وصغرى وحسبوا أصغر الكل الوصية المتعلقة بإعشاش الطيور (تثنية الاشتراع 22: 6-7)، لكن السيد المسيح لم يُشر هنا الى وصية كهذه بلا إلى الشريعة الأدبية والى كبح الأفكار والشهوات التي يحسبها الناس صغيرة بالمقارنة مع الاعمال التي هي وحدها لها الاعتبار عندهم. ولكون هذه الخطيئة الصغرى جزءا من الشريعة وجب حتما على الناس الطاعة لها ومن خالفها عمدا فقد أثِم بالكل كما جاء في تعليم يعقوب الرسول " فمَن حَفِظَ الشَّريعَةَ كُلَّها وزَلَّ في أَمْرٍ واحِدٍ مِنها أخطَأَ بِها جَميعًا" (يعقوب 2: 10). اما عبارة "وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه" فتشير الى ذاك الذي يعلم الناس بأقواله او بقدوته ليستخفوا بالشريعة كليا او جزئيا.  أمَّا عبارة " عُدَّ الصَّغير ويُعَدُّ كبيراً" فتشير الى فرق في مقام المُخلصين وجزائهم في الحالة الأخيرة كما صرّح يسوع "فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات" (متى 18: 4)، وهناك معنى آخر يشير الى انه يجب الاَّ نستصغر أتفه الأمور، بل ان نقدّرها ونُعطيها حق قدرها. عندما يأمرنا السيد المسيح القيام بأي عمل مهما كان نوعه، لا يعّده صغيراً، ويُعلق الفيلسوف الفرنسي باسكال بليز "لنعتبر صغار الأمور كبيرة، لان يسوع عهد إلينا حرمتها". وهذا ما طبّقته القديسة تريزا للطفل يسوع عندما دخلت دير الكرمل وكانت تقوم بأعمال صغيرة مثل تكنيس الاروقة، والغسيل، ومساعدة راهبة عجوز... وكانت تنفّذها على أحسن وجه وبمحبة صادقة. وهذه الإعمال الصغيرة تافهة في نظرنا، لكنها عظيمة في عيني الرب؛ وأمَّا عبارة "الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها" فتشير الى تشديد يسوع على الاعمال وتطبيق الوصايا. يعتبر عظيما عند المسيح من يقرن علمه وعمله ولا يكتفي بالتعليم، فالتعليم والعمل وضعهما الله لإصلاح العالم.  فالدين الحق ليس مجرّد مجموعة معارف دينية نظرية، وإنما يكمن في الحياة اليومية كما جاء في القران "الدين المعاملة "(سورة ال عمران، آية: 19)؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "من لا يقدر أن يُعلّم نفسه ويحاول إصلاح الآخرين يسخر به الكثيرون، أو بالأحرى مثل هذا لا يكون له أي قوّة للتعليم نهائيًا، لأن أعماله تجعل كلماته ضدًا له". وهذه الآية دعوة من الرب يسوع لنا جميعا كي نلتزم بإكمال الشريعة في حياتنا العملية. فالتعليم بغير عمل يُحسب كنقض للشريعة، والتعليم يفقد فاعليته بدون أن يكون المعلم قدوة. لنتمسك بروح الشريعة وليس بقشورها، ولا نستصغر أصغر الوصايا، بل ان نقدّرها حق قدرها كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "فمَن حَفِظَ الشَّريعَةَ كُلَّها وزَلَّ في أَمْرٍ واحِدٍ مِنها أخطَأَ بِها جَميعًا" (يعقوب 2: 10).

 

20 فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات.

 

تشير عبارة "يَزِدْ" إلى شيء يفيض، يذهب إلى ما هو أبعد، ولا يقتصر على ما هو مطلوب. إن الشريعة الانجيلية لا تتطلب طاعة دقيقة لكل الوصايا والتعليمات، بل تعتمد على التبنّي الحر لنمط حياة أساسه المحبة. ولذلك، فان تلاميذ يسوع عليهم ان يتفوّقوا على الكتبة والفريسيين بالبرَّ والتقوى لا من الناحية الكمية، بل من الناحية النوعية أي الطاعة بمحبة. لا يوجد بِرّ بلا محبة؛ لقد كان اهتمام الفريسيين بالطاعة الخارجية الشكلية وإتباع الشريعة حرفيا، لكن المسيح يطلب شيئاً أعمق من هذا، فهو لا يكتفي بالشكليات. فالبر الذي يرضي الله هو البر الداخلي. بر الفكر والدوافع، لأن الرب ينظر إلى القلب. أمَّا عبارة "بِرُّكُم " فتشير الى أمانة التلاميذ لشريعة الله، وهي أمانة جديدة أصبحت ممكنة وماسًّة بفضل نعمة الروح القدس وتفسير يسوع لهذه الشريعة "لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَه سُلطان، لا مِثلَ كَتَبَتِهم" (متى 7: 29). لا يتكلم يسوع ضد ممارسة الشريعة، بل يرفض التعلق الاعمى بالشريعة، والرِّياء والمُراءة والتهرُّب الكاذب ومنطق الكتبة معلمي الشريعة والفريسيين. ورفض يسوع أيضا تفسيرهم ونظرتهم الى البر بأعمال الشريعة، مُشدِّداً على البرِّ الذي يأتي من خلال الايمان به وعمال المحبة، وعلى ضرورة أصالة الحياة الروحية وصحتها؛ اما عبارة "بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين" فتشير الى البر عن طريق الاعمال وليس عن طريق الايمان كما جاء في تعليم بولس الرسول "في حينِ أَنَّ إِسرائيلَ الَّذي كانَ يَسْعى إِلى شَريعةِ بِرٍّ لم يُدرِكْ هذه الشَّريعة. ولِماذا؟ لأَنَّه لم يَنتَظِرِ البِرَّ مِنَ الإِيمان، بل ظَنَّ إِدْراكَه بِالأَعمال، فصَدَمَ حَجَرَ صَدْم" (رومة 9: 31-32) " انهم جَهِلوا بِرَّ الله وحاوَلوا إِقامةَ بِرِّهم فَلم يَخضَعوا لِبرِّ الله" (رومة 10: 3)، حيث الزم الكتبة والفريسيين الناس بحفظ حرف الشريعة وابتعدوا عن روحها، وخاصة في تسع قضايا: القتل، والزنى والطلاق، والقسم، والانتقام، والمحبة والصدقة والصلاة والصوم. (متى 5: 20-6:4).  وأكَّد بولس الرسول ذلك بقوله "اليَهودِيُّ هو بِما في الباطِن، والخِتانُ خِتانُ القَلْبِ العائِدُ إِلى الرُّوح، لا إِلى حَرْفِ الشَّريعة. ذاكَ هو الرَّجُلُ الَّذي يَنالُ الثَّناءَ مِنَ الله، لا مِنَ النَّاس (رومة 2: 29).  أمَّا عبارة "الكَتَبَةِ" فتشير الى علماء الناموس المخوّلين على تعليم الشريعة للشعب؛ أمَّا عبارة "الفريسيين " الكلمة من الآرامية הַסּוֹפְרִים (معناها المنعزل) فتشير الى إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث التي كانت تناهض الفئتين الأخريين فئتي الصدوقيين والأسينيين، وكانت أضيقها رأياً وتعليماً (أعمال الرسل 26: 5). أما من حيث العقيدة فكانوا يقولون بالقدر ويجمعون بينه وبين إرادة الإنسان الحرّة. وكانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح (أعمال الرسل 23: 8) ومكافأة الإنسان ومعاقبته في الآخرة بحسب صلاح حياته الأرضية أو فسادها غير أنهم حصروا الصلاح في طاعة الشريعة فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية.  وبالتالي فهم متظاهرون بالتقوى وقالوا بوجود تقليد شفوي عن موسى تناقله الخلف عن السلف. وزعموا أنه معادل لشريعته المكتوبة سلطة أو أهمّ منها. فجاء تصريح المسيح بأن الإنسان ليس ملزماً بهذا التقليد (متى15: 2 و 3 و 6). واشتهر معظمهم بالرياء والعجب. فتعرضوا عن استحقاق للانتقاد اللاذع والتوبيخ القاسي. فيوحنا المعمدان دعاهم " أولاد الأفاعي" كما وبَّخهم السيد المسيح بشدة على ريائهم وادعائهم البرّ كذباً وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الشريعة (متى 16: 6 و11 و12 و23: 1ـ 39). ومع هذا فكان في صفوفهم دوماً أفراد مخلصون أخلاقهم سامية، منهم بولس في حياته الأولى (أعمال الرسل 23: 6) ومعلمه جمالائيل (أعمال الرسل 5: 34). أمَّا عبارة "لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات" فتشير الى عدم تملكهم الحياة الأبدية التي وعد بها يسوع المسيح لعدم إيمانهم "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16).

 

21 سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: لا تَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء.

 

تشير عبارة "سـَمِعْتُمْ" الى التعارض الذي يُلمِّح إليه يسوع بين تقليد خارجي لتفسير الشريعة حسب الكتبة والفريسيين، وبين تفسيره، وقد تمّ تكرار هذه العبارة ست مرات (متى 5: 21، 27، 31، 33، 38، 43). لكن لا يكمن التعارض بين تعليم العهد القديم والعهد الجديد نما بالتفسير؛ أمَّا عبارة "لِلأَوَّلين" في الأصل اليوناني ἀρχαίοις (معناها "الذين سبقونا") فتشير الى آباء الامة اليهودية الذين قبلوا الشريعة على يد موسى والأجداد الذين صدرت عنهم السُنن، ولا تشير الى الشيوخ πρεσβύτερος, (متى 16: 21) أي أعيان الشعب. أمَّا عبارة "لا تَقْتُلْ" في اللغة اليونانية φονεύσεις  (معناها نزع الحياة البشرية) فتشير الى القتل المُتعمّد والانتقام الشخصي، وهذا أمر تحرّمه الوصية السادسة من الوصايا العشر (خروج 20: 13)؛ اما عبارة "مَن يَقْتُلُ" فتشير الى شرح الكتبة والفريسيين الذين يحدُّوا من تطبيقات الوصية بالقول بأن المقصود هو القتل الفعلي، بمعني سفك دم الضحية بقتل الآخرين بأي دافع من الدوافع او بقتل الذات بالانتحار. اقتصروا الوصية على القتل عمدا وفعلا الذي هو وحده المستوجب الحكم.  أمَّا عبارة "حُكْمَ القَضـاء" فتشير الى محكمة بشرية والهيَّة، محكمة الله كما أوضّح بولس الرسول الى أهل روما "ومع أَنَّهم يَعرِفونَ قضاءَ اللهِ بِأنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمالِ يَستَوجِبونَ المَوت، فهُم لا يَفعَلوَنها فحَسبُ، بل يَرضَونَ عنِ الَّذينَ يَعمَلوَنها" (رومة 1: 32). فالقاتل يستحق دينونة الله وعقابه.

 

22 أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، وَمَن قالَ لأَخيهِ: ((جاهِل)) اِستَوجَبَ حُكمَ المَجلِس، ومَن قالَ لَه: ((يا أَحمَق)) اِستَوجَبَ نارَ جَهنَّم.

 

لا تشير عبارة "أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم" الى يسوع الذي نًـقـَضَ الشريعة او أضاف اليها آراءه الشخصية، بل تشير الى مفهوم اشمل من مفهوم الكتبة والفريسيين وهو غرض الله من هذه الوصية في المكان الأول. ولم يجرؤ نبي أن يقول "أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم"، إنما يقول النبي "هكذا يقول الرب". هذه الآية وحدها تُثبت لاهوت المسيح. فهل يوجد إنسان يمكنه أن يُغيِّر أو ينقص أو يزيد حرفا على ما قاله الله، إلا لو كان هو الله؛ أمَّا عبارة "غَضِبَ" في أصل النص اليوناني ὀργιζόμενος فتشير الى ظُهُورُ عَلاَمَاتِ الانْفِعَالِ وَالتَّشَنُّجِ والْمَيْلِ إِلَى الاعْتِدَاءِ والعنف، وغير ذلك من النتائج المدمِّرة مما يؤدي الى القتل، وبذلك يكون المرء الغضوب قد ارتكب القتل في قلبه.  فعند الله الانفعال الداخلي هو كالعمل الخارجي. ويقصد الرب يسوع ان الخطيئة الحقيقية يقترفها القلب قبل وصولها الى العمل الخارجي. ويُعتبر هذا الإنسان في نظر الله مُذنباً كالذي يقتل فعلا. وليس بوسع الشريعة الموسوية الاّ ان تكبح الاعمال الخارجية، أمَّا يسوع فيعالج القلب الشرير في الانسان ويغيّره كما أوضح ذلك بولس الرسول "فالَّذي لم تَستَطِعْهُ الشَّريعة، والجَسَدُ قد أَعيْاها، حَقَّقَه اللهُ بإِرسالِ ابِنه في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد لِيَتِمَّ فِينا ما تَقتَضيهِ الشَّريعةُ مِنَ البِرّ، نَحنُ الَّذينَ لا يَسلكُونَ سَبيلَ الجَسَد، بل سَبيلَ الرُّوح" (رومة 8: 3-4). وبهذا المعنى تُكمل مبادئ يسوع الشريعة، لأنها تعنى بأصل الموضوع وتُمكن من تحقيق أهداف الشريعة؛ أمَّا عبارة " أَخيهِ " فتشير الى أحد البشر كون الجميع من انسان واحد وجميعهم خليقة الله. فبناء عليه يجب ان نعتبر جميع الناس اخوتنا ونعاملهم كذلك.  أمَّا عبارة "حُكْمَ القَضاء" فتشير الى العقوبات التي يصدرها محاكم اليهود، وهي مؤلفة من سبعة أعضاء كما جاء في التوراة " أَقِمْ لَكَ قُضاةً وكَتَبَةً في جَميعِ مُدُنِكَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّب إِيَّاها لأَسْباطِكَ، فيَحكُمونَ فيما بَينَ الشَّعبِ حُكْمًا عادِلاً" (تثنية الاشتراع 19: 18).  ذكر يسوع هنا الحكم على انفعال البغض؛ أمَّا عبارة "يا جاهِل" في الأصل اليونانية Ῥακά, وفي الأصل العبري רֵקָא ( معناها رأس فارغ ، بلا دماغ، صاحب تصرف ارعن، وهو تعبير عبري " הָרֵקִים أي لا خَيرَ فيهم! " (2صموئيل 6: 20) فتشير الى كلام الغضب، يمتهن بها الشخص على سبيل الاحتقار. وقد سأل القديس أوغسطينوس رجلًا عبرانيًا عن كلمة "رقا רֵקָאفأجابه أنها لا تعني سوى مجرّد تعبير عن انفعال الغضب يصعب ترجمته إلى لغة أخرى. وأمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فرأى أن هذه الكلمة سريانية كانت مستخدمًة في الحديث مع الخدم والأشخاص الذين من الطبقات الدنيا كتعبير عن عدم الاحترام للشخص الموجّه إليه الحديث. أمَّا عبارة "حُكمَ المَجلِس " في الأصل اليوناني συνεδρίῳ  ( السنهدريم او المجمع) فتشير الى المجلس الأعلى الذي يتألف من 71 عضواً، ويعقد جلساته في اورشليم، وهو غير المحاكم الصغرى المؤلفة من 23 عضواً والمنتشرة في أنحاء البلاد "فسَيُسلِمونَكم إِلى المَجالس" (متى 10: 17). في المحاكم الصغرى يكون الاتهام مشكوكًا فيه، فيبحث القاضي في الاتهام ليتأكّد من صحّته، أمَّا المجلس الأعلى فيحمل نوعًا من التأكّد أن الاتهام ثابتٌ على المُتَّهم، فيُحدّد القضاة الجزاء الذي يسقط تحته. وكان حكم محاكم القرى يمكن نقضه أمَّام المجلس الأعلى، ولكن حُكم المجلس الأعلى لا يُنقض. ويستعمل الرب يسوع التدرج القضائي ليوضِّح مدى جسامة الذنب، انطلاقاً من حكم القضاء الى الحكم المجلس الى محاكم القرى. أمَّا عبارة "يا أَحمَق" في أصل النص اليوناني Μωρέ (تعبّر عن الغضب بكلمة ذم وكلمات جارحة للإدانة) فتشير الى شتيمة مألوفة، تتضمن كراهية قاتلة، فإن من يلفظها يستحق عقابًا أعظم. وكانت هذه اللفظة تتضمن عند اليهود معنى جسيما يهدف الى التمرّد على الله كما جاء في كلام موسى النبي "أَبهذا تُكافِئُ الرَّبَّ أَيُّها الشَّعبُ الأَحمَقُ الخالي مِنَ الحِكمَة؟ (تثنية الاشتراع 32: 6) لهذا جُعلت على مستوى القتل. ومن هنا ربط يوحنا الرسول البغض مع القتل " كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه"(1يوحنا 3: 15)؛ لهذا يوصينا بولس قائلا: "لا تَخرُجْ كَلِمَةُ شرٍّ مِنْ أفواهِكُم، بَل كُلُّ كَلِمَةٍ صالِحَةٍ لِلبُنيانِ عِندَ الحاجَةِ وتُفيدُ السَّامعينَ. لا تُحزنوا رُوحَ الله القُدُّوسَ الذي بِه خُتِمتُم ليَومِ الفِداءِ" (أفسس 5: 29-30). أمَّا عبارة "جَهنَّم " في الأصل اليوناني γέεννα مشتقة من العبرية גֵּיהִנּם وهي مركّبة من كلمتين عبريّتين أي "داخل هنوم". وهِنُّوم هو وادٍ هنّوم في اورشليم كانت تُقرَّب فيه مُحرقات أولاد إكراما للإله مولك (2 أخبار 28: 21). وفي هذا الوادي أجاز أحاز الملك (2 ملوك 16: 3) ومنسي الملك (2 أيام 33: 6) أولادهما بالنار، ونزع يوشيَّا الملك حرمة هذا الوادي (2 ملوك 23: 10)، فتحوّل الى مزبلة دائمة الاشتعال لحرق نفايات المدينة. وأصبح الوادي صورة للهلاك الأخير ورمز لعنة (ارميا 7: 31)، بل لعنة أبدية استعمله إنجيل متى عشر مرّات ليدل بها على الهلاك والعذاب الأبدي. وأراد يسوع في هذه الآية ان يُشدِّد على ما تتضمنه وصية القتل كما يوضحه يوحنا الرسول " كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه" (1 يوحنا 3: 15). نرى ان الديانة المسيحية تأمر باللطف والرقة والإنسانية نحو الجميع وتعلم ان خلاصة جميع الوصايا هي المحبة. لا يقول يسوع إن فلانا يستوجب الموت، بل يعلن أنه يخضع لحكم إلهي "مع أَنَّهم يَعرِفونَ قضاءَ اللهِ بِأنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمالِ يَستَوجِبونَ المَوت، فهُم لا يَفعَلوَنها فحَسبُ، بل يَرضَونَ عنِ الَّذينَ يَعمَلوَنها" (رومة 1: 32).

 

23 فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً،

 

تشير عبارة "كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ" الى صيغة المفرد وتشكل طريقة عملية لممارسة الوصية العامة، وهي تقديم ذبيحة لله بمقتضى الشريعة الموسوية؛ أمَّا عبارة " المَذبَح" הַמִּזְבֵּח فتشير الى المصالحة مع الله؛ الصليب الذي عليه مات المسيح قد شُبِّه بمذبح (عبرانيين 13 :10). فما معنى مصالحة مع الله لا تسبقها مصالحة مع القريب؟ كما ان المحبة القريب هي علامة محبة الله، كذلك لا تكون المصالحة مع الله صادقة إن لم تجد نتيجتها في مصالحة مع القريب. اما عبارة " ذكَرتَ" فتشير الى كل من يهيئ قلبه لتقديم عبادة مقبولة يتذكر ما عليه من الواجبات. اما عبارة " لأَخيكَ " فتشير الى صاحبك او أخيك حقا. اما عبارة " هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً" فتشير الى واجبك تجاه اخيك وليس ان كان لك شيء على اخيك" كما يؤكده مرقس الإنجيلي "وإِذا قُمتُم لِلصَّلاة، وكانَ لكم شَيءٌ على أَحَدٍ فاغفِروا لَه، لِكَي يَغِفرَ لَكم أَيضاً أَبوكُمُ الَّذي في السَّمواتِ زَلاَّتِكم" (مرقس 11: 25). ومضمون الكلام انه إذا شهد علينا ضميرنا باننا أسَأنا الى أخينا بشيء الا نتأخر حتى يأتي هو ويعاتبنا بل يجب ان نعمل بكل ما يأمرنا به الضمير ولا ندع البغض يدخل في قلبه.

 

24 فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك.

 

تشير عبارة "قُربانَكَ" الى كل ما كان يُقدَّم على المذبح سواء كان ذبيحة للكفارة او تقدمة للشكر. اما عبارة "اذهَبْ أَوَّلاً" فتشير الى اخذ المبادرة انت في المصالحة ولا تتوقع مجيء اخيك إليك. اما عبارة "فصالِحْ " فتشير الى طلب المسامحة او منحها وبذل كل طاقتك لإزالة سبب الاختلاف. ان الله لا ينظر الى القربان فقط بل الى روح من يُقدّمه. لذلك إن الله لا يمكن ان يتقبل عبادة أمرئ لا يكون في علاقة قويمة مع الآخرين. فهو أتى ليجمع الإخوة، وهو يريدنا أن نتصالح مع بعضنا البعض وأن نعيش الأخوة الحقيقية لنكون حقيقة أبناءً لله. لذلك يرفض الله أعمال المحبة التي نُبديها تجاهه تعالى، ونحن نحقد ونضمر الشرّ تجاه إخوتنا. وفي هذا الصدد يقول يوحنا الرسول" إِذا قالَ أَحَد: (إِنِّي أُحِبُّ الله) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). فالمحبة للناس هي أعظم ذبيحة لله، وهي دليل حُبّنا لله، وبدونها لا تُقبل أي ذبيحة. لأنه بدون المحبّة لا يُمكن أن تقوم الشركة، ولا تُقبل تقدمة. ويُعلق القديس ايرونيموس "لا أعرف سلامًا بغير حب، ولا شركة بدون سلام". يريد يسوع منا ان نسرع الى مبادرة خصمنا ونذهب للقائه لمصالحته، ولا نكتفي ان نكون على أهبة الاستعداد للمصالحة عندما يمدّ خصمنا يده لمصالحتنا. ويُعلق القديس أوغسطينوس "إن كنت في عداوة فصالح. إن جاءتك الفرصة للوصول إلى مصالحة، لا تترك نفسك في نزاع". ونفهم من قول الرب أن الخصومة تمنعنا من الصلاة والتناول وتقديم الذبيحة. أمَّا عبارة "ثُمَّ عُد" فتشير الى المصالحة التي لا تجعل تقديم العبادة غير ضروري لان القيام بواجباتنا للناس لا يعفينا من القيام بواجباتنا لله.  ونستنتج من ذلك، انه بعد المصالحة يقبل الله قربان العابد لكونه تعالى راضيا عنه.

 

25 سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق، لِئَلاَّ يُسلِمَكَ الخَصمُ إِلى القاضي والقاضي إِلى الشُّرطِيّ، فتُلْقى في السِّجْن.

 

تشير عبارة "سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق" إلى ضرورة المصالحة كما جاء في سفر الامثال "لا تبرِزه عاجِلاً إِلى الدَّعْوى وإِلاَّ فماذا تَصنَعُ في آخِرِ الأَمْر حينَ يُخْزيكَ قَريبُكَ؟ " (أمثال 25: 8)؛ ومن الناحية الروحية يدل الاستعجال في التوبة قبل فوات الأوان على أن الإنسان يجب ألاَّ يكون على مخاصمة مع أحد عند مثوله أمام الله الدّيان، لئلا يتعرّض للهلاك الابدي (لوقا 12: 57-59)؛ أمَّا عبارة "إرضاءِ خَصمِكَ" فتشير الى شرح الوصية السادسة "لا تقتل" (خروج 20: 13)؛ لان اللجوء الى المحاكم هو مخالف لروح هذه الوصية، لان الدعاوي الطفيفة تتجسم كلما طالت مُدَّتها.  اما عبارة " في الطَّريق " فتشير الى اغتنام الفرصة الأخيرة للاتفاق والمصالحة قبل المحاكمة.  اما عبارة " يُسلِمَكَ الخَصمُ " فتشير الى الخصم الذي يسلمك الى القاضي إمَّا بالشكاية او بطلب إصدار الحكم. أمَّا عبارة "الخَصمُ" فتشير الى الوصيّة الإلهيّة، فإنها تدخل كطرفٍ في الخصومة مع الإنسان، مُحب الخطيئة، ويُعلق القديس أوغسطينوس " أي شيء سيكون خصمًا لمحبي الخطيّئة مثل وصايا الله، أي شريعته المدوّنة في الكتاب المقدّس، ذلك الكتاب الذي وُهب لنا ليكون معنا في الطريق، أي في الحياة الحاضرة، لكي ننفذ تعاليمه سريعًا ولا نخالفها. حتى لا يسلّمنا إلى القاضي؟"؛ أمَّا عبارة " القاضي " فتشير الى الديَّان، أي السيّد المسيح (يوحنا 5: 22)؛ وأمَّا عبارة "الشُّرطِيّ" فتشير الى الملائكة؛ وعبارة " السِّجْن " تشير الى "الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة " (متى 8: 12). ولا يجوز ان نقف أمام القاضي الدَّيَّان الذي هو الرب ونحن في حالة خصومة. حينئذ، يكون مصيرنا الحكم الابدي. لكن ينبغي ان يُظهر الانسان المحبة والصفح بسخاء للجميع (متى 18: 32-35) خاصة ان الرغبة اليوم في سحق الآخر كسبيل لحل النزاعات في ازدياد مطرد. ومن هنا نستنتج انه على الانسان ان يفضل إبعاد البغض في قلبك وقلب خصمك وإيجاد طريقة للاتفاق مع خصمه ولو بترك بعض حقوقك على انتظار نتيجة المحاكمة المجهولة. ينادي الرب يسوع بالمصالحة، ويوصي ان نُصلح امورنا مع الآخرين قبل ان نُدعى للمثول أمام الله لكيلا يصل ظلمنا الى الدَّيان فنلقى في السجن الابدي. هذه هي جِدّة الإنجيل.

 

26 الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس.

 

تشير عبارة "لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس" الى طريق الحكمة في الأمور الدنيوية. فاذا كان الاتفاق في هذه الحياة مع الأخ الذي أسانا إليه ضروريا فبالأولى ان يكون ضروريا قبل ان نقف امام القاضي العظيم في السماء والحكم علينا بالعقاب الابدي. أمَّا عبارة "حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس" فتشير الى إيفاء الدين كله. فإذا كان ممكن الإيفاء في الديون المالية، لكن يتعذر الإيفاء عن الخطايا سوى بوساطة يسوع الحامل خطايا العالم.  أمَّا عبارة " فَلْس " في الأصل اليوناني κοδράντην (معناها " رُبع آس") فتشير إلى عملة رومانية يُشترى بها عصفوران (متى 10: 29)؛ أمَّا عبارة "لن تَخرُجَ مِنه" فتشير الى المرء الذي لا يخرج من الظلمة البرانية حيث لا يقدر أن يفي العدل الإلهي حقّه. لذلك إذا حدث غضب وتهور وانتقام، المصالحة مع الآخرين خيرٌ من تطوُّر الأمور حتى السجن. فمن الأفضل أن تصالح أخاك هنا وأنت في حياتك على الأرض، قبل أن تُلقى بسبب ذلك في سجن الظلمة البرانية الذي لن تخرج منه. وتبيِّن هذه الآية النتائج الجسيمة من الابطاء في فَضِّ الدعاوي.

 

27 سَمِعْتُم أَنَّه قيل: لا تَزْنِ.

 

تشير عبارة "لا تَزْنِ" الى كل اتصال جنسي غير شرعي. كأن يضاجع رجل امرأة غيره، أو فتاة مخطوبة لرجل آخر، أو فتاة حرَّة غير مخطوبة الخ. وكان عقاب هذه الخطيئة الرجم والموت (الاحبار 20: 10 وتثنية الاشتراع 22: 22-29). وهي الوصية السابعة من الوصايا العشر (خروج 20: 14).

 

28 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إِلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه.

 

تشير عبارة "مَن نظَرَ إِلى امرأَةٍ" الى نظرة شهوانية المتعمِّدة التي فيها رغبة شديدة وميل إلى فِعْل الملذّات الجسدية. ويصف بطرس الرسول أصحاب هذه النظرة بقوله " لَهم عُيونٌ مَملوءةٌ فِسْقًا مَنْهومَةٌ بِالخَطيئَة، يَفتِنونَ النُّفوسَ الَّتي لا ثَباتَ لَها" (2 بطرس 2: 14). وخير مثال على هذه النطرة هو أثم داود الملك الذي قادته النظرة الى الزنى والقتل (2 صموئيل 11)، ويُعلق القديس اوغسطينوس "يجب أن نلاحظ أنه لم يقل "من اشتهى امرأة"، بل "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها" أي ينظر إليها بهذه النيّة، فهذه النظرة ليست إثارة للذّة الجسديّة بل تنفيذًا لها، لأنه بالرغم من ضبطها فستتم لو سمحت الظروف بذلك"؛ أمَّا عبارة "بِشَهْوَة" فتشير الى الشهوة التي تحاول استلاب المرأة من زوجها. النظرة بما فيها من شهوة هي زنى، والزنى يبدأ بالعين، ويتوصل في القلب. ويعلق القديس اكليمنضوس الاسكندري "الزنى هو ثمرة الشهوة الذي جذورها الشرّير". اما عبارة "زَنى" فتشير في المعنى المسيحي الى كل نجاسة في الفكر والكلام والأعمال. وكل ما يشتم منه شيء من ذلك ولعلَّ هذا المعنى مأخوذ من الوصية السابعة (خروج 20: 14 وتثنية الاشتراع 5: 18) بتفسير المسيح في موعظته على الجبل. أمَّا عبارة "في قَلبِه" فتشير الى مركز الخطيئة، لان القلب مركز الحياة ومحور العواطف المُنحرفة. وزناه يدنِّس هيكل الروح القدس. ان العمل الشرير هو نتيجة القلب الشرير. تعالج الشريعة الموسوية الاعمال الخارجية بينما يسوع يُركز على البواعث الداخلية. إن اشتهاء ممارسة الجنس مع أي شخص آخر غير شريك الحياة هو زنى فكري، وبذلك فهو خطيئة. لذلك الأمانة مع شريك الحياة بالجسد، ولكن دون الأمانة بالفكر هي خيانة لثقة الزواج السليم. إن الله يحكم على قلوبنا كما على افعالنا، لان الولاء الحقيقي يكمن في القلب. وبموجبه نكون ابرارا في مواقفنا التي يراها الناس، كما في افعالنا التي يراها الجميع. يقابل يسوع هنا تعليمه مع تعليم الفرِّيسيين، لأنهم علموا انه لا يُحسب متعدياً على الوصيَّة الاَّ من زنى فعلا. واما هو فيقول ان معنى الوصية هو ان الطهارة الداخلية واجبة كالخارجية. فالشريعة لا تقتصر على عملنا بل تصل الى خفايا قلوبنا.

 

29 فإِذا كانت عينُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقلَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم.

 

تشير عبارة "عينُكَ" الى صيغة المفرد وتشكل مثلا على طريقة عملية لممارسة الوصية العامة، وهي "لا تزن"؛ والعين تدلّ على وسيلة إغواء بالنظر بلذة وشهوة إلى منظر محبوب؛ ويعلق القديس أوغسطينوس "يقصد يسوع بالعين شيئًا محبوبًا، فلقد اعتاد الراغب في التعبير عن محبّته لآخر أن يقول: "إنّني أحبّه كعينيّ أو حتى أكثر من عينيّ" اما عبارة " اليُمنى "  فتشير الى العين الفضلى عند الناس,  ليس هناك تفسير للعين اليُمنى أكثر ملاءمة من أن يقصد بها الصديق المحبوب حبًا شديدًا، الذي تصبح علاقته كعلاقة العضو بالجسد"؛ أمَّا عبارة "حَجَرَ عَثْرَةٍ" فلا تشير إلى قدوة سيئة بل الى عائق او فخ (مزمور 124: 7) سبب سقوط (أشعيا 8: 14-15). والعالم قد يكون حجرة عثرة (متى 13: 41)؛ أمَّا عبارة " فاقلَعْها" فلا تشير الى المعنى الحرفي ولكن الى ضرورة الأخذ بالوسائل الكبيرة لمقاومة الخطيئة وإنكار الذات والتخلُّص من اية شهوة خاطئة باي ثمن وقطع أسباب ارتكاب الخطيئة؛ أمَّا عبارة " أَلْقِها عنك" فتشير الى أعضاء الجسم التي تصبح أدوات في خدمة الخطيئة حينئذ نستغني عنها. وأمَّا الخير والشر هما في قلب الانسان أي في عمق أعماق الانسان كما جاء في قول يسوع " فَمِن فَيضِ القَلْبِ يتكلَّمُ اللِّسان"(متى 12: 34). أمَّا عبارة " فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم" فتشير الى خسارة عضو من اعضائنا برضانا خير من خسارة الجسد كله على الرغم منا الى الابدي. ان انكار النفس ينتج عنه خير روحي وجسدي وزمني وأبدي. ان لغة هذه الآية هي لغة مجازية استعارية ويجب الاّ نخذها بالمعنى الحرفي. فالمطلوب هو التخلص من عاداتنا السيئة وعدم السماح للخطيئة ان تجلب علينا عقابا او دينونة.

 

30 وإِذا كانت يَدُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقطَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضوٌ مِن أَعضائِكَ خَيرٌ لكَ مِن أَن يَذهَبَ جسدُكَ كُلُّه إِلى جَهنَّم.

 

تشير عبارة "يَدُكَ" الى معنى مجازي وهي مصدر تجربة واستعمالها للعصيان والخطيئة (2 صم 20: 21). امَّا "فاقطَعْها وأَلْقِها عنك" فتشير الى لغة مجازية استعارية تعني تخلص من اية شهوة خاطئة باي ثمن، ويجب ان لا نخذها بالمعنى الحرفي. لا يقصد السيد المسيح قطع اليد أو قلع العين فعلًا، لكن المقصود أن نضبط نظراتنا وشهواتنا وأفعالنا، وقطع يد الظلم والانتقام ونحيا كأموات أمام الخطيئة وهذا ما قاله بولس الرسول "أحسَبوا أَنتُم أَنَّكم أَمواتٌ عنِ الخَطيئَة أَحْياءٌ للهِ في يسوعَ المسيح" (رومه 11:6) وأيضًا "أَميتوا إِذًا أَعضاءَكمُ الَّتي في الأَرض بما فيها مِن زِنًى وفَحْشاءَ وهَوىً وشَهوةٍ فاسِدَةٍ وطَمَعٍ وهو عِبادَةُ الأَوْثان" (قولسي 5:3). ومن هذا المنطلق، فان الدين المسيحي لا يدعو الى احتقار الجسد، لكن الجسد يُشكل مصدر تجربة فعلينا ضبط شهواته. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "الجَسَدَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الرُّوح، والرُّوحَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الجَسَد: كِلاهُما يُقاوِمُ الآخَرَ حتَّى إِنَّكم تَعمَلونَ ما لا تُريدون " (غلاطية 5: 17).

 

31 وقد قيل: مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق.

 

تشير عبارة "كِتابَ طَلاق" الى شهادة بطهارة الزوجة المطلقة حتى لا تُرجم (عدد 5: 31)، وبهذه الشهادة يُمكنها أن تتزوَّج رجلًا أخر. ولذلك يكون كتاب الطلاق وسيلة لتهدئة مشاعر الزوج ورجوعه عن الطلاق، إذ يشعر الرجل حين يكتب هذا الكتاب إن امرأته ستصير لآخر فيرجع عن نيته بطلاقها. وكتاب الطلاق عبارة عن خلاصة الوصايا المدوّنة في سفر تثنية الاشتراع "إذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته " (تثنية اشتراع 24: 1). امر موسى بكتاب طلاق لمنع الطلاق على الفور ودفعا للشر الأعظم " مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة (مرقس 10: 5).  ان الشريعة الموسوية تكيّفت مع طبيعة الانسان الفاسدة. وبما ان يسوع جاء يعالج هذه الطبيعة الشريرة رفض هذا التكيُّيف واستعاد المستوى الأصلي فحرّم الرب الطلاق بتاتاً. لان الطلاق امر ضار ومُدمِّر الآن كما كان في أيام يسوع المسيح، فقد قصد الله ان يكون الزواج التزاما يستمر طيلة العمر "يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا"(التكوين 2: 24). وفي الواقع كان الطلاق مكروهًا لدى اليهود كما يقول ملاخي النبي "لا تَغدُرْ بِامرَأَةِ صِباك لِأَنَّه إِذا طَلَّقَ أَحَدٌ عن بُغْض، قالَ الربُّ إِلهُ إِسْرائيل. غَطَّى لِباسَه عُنفاً " (ملاخي 2: 15-16). ومن أمثال الربيين "يفيض المذبح دموعًا عندما يطلق إنسان امرأة شبابه ". وفي الحديث الشريف يقول " إِنَّ أبغضَ الحَلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ" (رواه ابن عدي، في الكامل في الضعفاء، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 5/521).

 

32 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى.

 

تشير عبارة "حالةِ الفَحْشاء" في الأصل اليوناني πορνεία الى ثلاثة معاني: المعنى الأول الى عيب او أمر مشين (تثنية الاشتراع 24: 1)، وفي هذه الحالة يُحلل نص التثنية صرف المرأة لأسباب شتّى ولكل علة. والمعنى الثاني تشير الى الزنى أي خيانة المرأة لزوجها، والمعنى الثالث هو الجماع بالحرام أي عدم الأمانة من جانب امرأة قبل الزواج. فاذا اكتشف هذا الامر عقب الزواج تُلزم كلمات الرب الزوج ان يطلق المرأة لأنه في نظر الله لم يحصل الزواج (احبار 18: 6-8). وقد اختلفت مدارس التفسير اليهوديّة في تقديم الأسباب التي تبيح الطلاق. فمدرسة شمعي تميل إلى التضييق، فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة فقدان العفّة. أمّا مدرسة هليل فكانت متحرّرة للغاية. يمكن للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب مهما كان تافهًا مثل إفسادها الطعام أو خروجها برأس عارية، بل ويستطيع أن يطلقها بلا سبب إن جذبته إنسانة أخرى. اما عبارة "عرَّضَها لِلزِّنى" فتشير الى جعل الزوجة تحت تجريه التزوج ثانية بآخر، وهي لا تزال مرتبطة بالأول بحسب شريعة الله.  اما عبارة "مَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى" فتشير الى زنى لأنه تزوَّج امرأة غيره. ويؤكد ذلك لوقا الإنجيلي " كُلُّ مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى، ومَن تَزَوَّجَ الَّتي طَلَّقَها زَوجُها فقَد زَنى". (لوقا 16: 18).  تقوم أهمية هذه الآية على التذكير بعدم انفساخيه الاتحاد الزوجي، علما بان التقليد الارثوذكسي يجد في هذه الآية أساس للتحقّق في حالة الزنى من وجود طلاق.

 

33 سَمِعتُم أَيضاً أَنَّه قِيلَ لِلأَوَّلين: لا تَحْنَثْ، بل أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ

 

تشير عبارة "لا تَحْنَثْ" Οὐκ ἐπιορκήσεις (معناه حلف اليمين او القسم) الى امر الشريعة القديمة وهي "لا تَحلِفوا بِاَسْمي كَذِباً" (أحبار 19: 12)، فكانت الشريعة القديمة تحرص على ان يقول الانسان الصدق دائما، لذا كانت تمنع شهادة الزور، أي اتخاذ الله شاهداً على أشياء كاذبة؛ أمَّا عبارة " أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ " فتشير الى امر الرب في الشريعة القديمة "وإِذا لم تَنذِرْ نَذْرًا، فلا خَطيئَةَ علَيكَ" (تثنية الاشتراع 23: 23). الرب أحيانًا كان يأمر اليهود أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به (خروج 20: 7). فاليهود فسروا هذه الأوامر بطريقة اضاعوا فيها معناها لزعمهم ان نكث القسم او النذر الذي لم يُذكر فيها اسم الله ليس بمحرَّم.  اما عبارة "أَيْمانِكَ" في الأصل اليوناني ὅρκους σου (نذورك) الى التعهد بفعل شيء ما ان تحقق امر ما. ولِما كان تحقيق ذلك الامر بيد الله، فالنذر تعهد امام الله. وللناذر الحرية في انتقاء نذوه، وهو يعين ذلك، ولكن عليه ان يحقق تعهده والا يغش الله. وفي الكتاب المقدس ذكر لنذور كثيرة. اولها نذر يعقوب الذي تعهد به عندما هرب الى فدان ارام (التكوين 28: 20-22) وآخرها نذر بولس على نفسه بان يقص شعر رأسه (اعمال الرسل 18: 18).

 

34 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً، لا بِالسَّماءِ فهِيَ عَرشُ الله

 

تشير عبارة "لا تَحلِفوا أَبداً" الى عدم القسم اليمين إطلاقا، بل الاكتفاء بالكلام وحده بدون قسم باسم الله كما جاء في تعليم بعقوب الرسول " لا تَحلِفوا بِالسَّماءِ ولا بِالأَرضِ ولا يَمينًا أُخرى. لِتَكُنْ نَعَمُكم نَعَم ولاؤُكم لا، لِئَلاَّ تَقَعوا تَحتَ وَطأَةِ الدَّينونة"(يعقوب 5: 12). فإن كلام الانسان إذا كان صادقا له قيمة في حد ذاته. فالحقيقة الموضوعية المتضمنة في كلامه هي التي تشهد على كلامه. لكن الشريعة الموسوية سمحت بالحلف كحماية من عدم امانة القلب البشري. قد جاء الرب يعالج القلب البشري، لذا فان الحلف لم يبق له ضرورة، وهو قادر ان يعيد المستوى الأصلي؛ أمَّا عبارة "لا بِالسَّماءِ" فتشير الى اقتباس من أشعيا النبي (66: 1). يؤكد يسوع هنا أهمية الصدق. إذا كنا نقول الصدق دائما، فإننا لا نشعر بالحاجة الى تأييد كلامنا بقسم او وعد. ويُندِّد يسوع بعقلية خاطئة تهتم بمراعاة الشريعة مراعاة شكلية وهي عدم الحلفان اليهود باسم الله، لكن كانوا يحلفون بالسماء، وبالأرض وبأورشليم. لا ينهي المسيح من القسم الشرعي كواسطة لإظهار الحق (عدد 5: 19) بل يُنهي من القسم المستعمل في المحادثات العادية لغير مقتضى (خروج 22: 11)، لان المسيح لم ياتِ لينقض الشريعة الموسوية. امَّا عبارة "لا بِالسَّماءِ فهِيَ عَرشُ الله" فتشير الى الحلف بالسماء هو كالحلف بالله ذاته لان السماء مقامة ومحل عرشه، لذلك يرتبط الانسان بهذا القسم كما يرتبط بقسمه باسم الجلالة. وخير مثال على ذلك ما حدث مع بولس الرسول " فاللهُ الَّذي أَعبُدُ في رُوحي، مُبَشِّرًا بِاَبنِه، يَشهَدُ لي أَنِّي لا أَنفَكُّ أَذكُرُكُم" (رومة 1: 9) وما أَكتُبُه إِلَيكم فاللهُ شاهِدٌ على أَنِّي لا أَكذِبُ فيه (غلاطية 1: 20).

 

35 ولا بِالأَرضِ فهيَ مَوْطِئُ قدَمَيْه، ولا بِأُورَشليم فهيَ مَدينةُ المَلِكِ العَظيم.

 

تشير عبارة "ولا بِالأَرضِ" الى اقتباس من اشعيا "هكذا قالَ الرَّبّ: السَّمَاءُ عَرْشي والأَرضُ مَوطِئُ قَدَمَيَّ (اشعيا 6: 1)، فلذلك من يحلف بالأرض فكأنه حلف بالله لان نسبتها اليه تجعل الحلف ذا قيمة. اما عبارة "مَوْطِئُ قدَمَيْه" فتشير الى عظمة الله بالنسبة الى الأرض؛ أمَّا عبارة "ولا بِأُورَشليم" فتشير الى عاصمة الله في هذا الانجيل، إذ كانت عادة اليهود ان يصلوا مُتَّجهين نحو تلك المدينة (1ملوك 8: 38)، وهي عادة قديمة لذلك كان لتلك المدينة الوقار في القسم.  أمَّا عبارة "مَدينةُ المَلِكِ العَظيم" فتشير الى اقتباس من سفر المزامير "الرَّبُّ عَظيمٌ وجَديرٌ بِالتَّسبيحِ الكَثير في مَدينةِ إِلهِنا، جَبَلِ قُدسِه" (مزمور 48: 2). كانت اورشليم مركز الهيكل وعاصمة الله، ملك الشعب المقدس. فنسبتها لله تعالى جعلت للحلف بها معنى ووقار.  وظلت اورشليم محتفظة بهذا الامتياز الى موت المسيح وقيامته. أمَّا الآن فتوجد اورشليم الجديدة "أمَّا أُورَشَليمُ العُلْيا فحُرَّةٌ وهي أُمُّنا" (غلاطية 4: 26).

 

36 ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ فأَنتَ لا تَقدِرُ أَن تَجعَلَ شَعرةً واحِدَةً مِنه بَيضاءَ أَو سَوداء.

 

تشير "ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ" الى توصية السيد المسيح الذي لا يسمح ان نحلف بالرأس لان كل جزء من الانسان هو من خليقة الله. فلا داعي إذًا لأن يقسم أحد بالله، خصوصًا أن اسم الله أسمى من أن نتعامل به في الأمور المادية، بل يجب ان يُذكر اسم الله في العبادة فقط.  لان من يحلف بالرأس يدّعي السلطان عليه ولله وحده السلطان. في حين سمح للكتبة والفريسيُّون بالقسم بالسماء وبالأرض وبأورشليم وبرأس الإنسان واعتبروا أن هذه الأشياء لا علاقة لها بالله. ولكن السيد المسيح هنا يعلمنا أن كل خليقة الله لها علاقة بالله. ويعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم أن عدم الحلف هو العلامة التي تميّز المسيحي ولغته الخاصة فيقول "لنتقبّل هذا كختم من السماء، فيُنظر إلينا في كل موضع أننا قطيع الملك. ليتنا نعرف من نحن خلال فَمنا ولغتنا".

 

37 فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير

 

تشير عبارة "فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا" الى توصية يسوع ان نكون مثله، ويسوع "لم يَكنْ نَعَم ولا، بل ((نَعَم)) هو الَّذي تمَّ فيه" (2 قورنتس 1: 19) بل كان كله "نعم" لمجد الله ، ولذلك يوصي بولس الرسول المؤمنين "لِيَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنساان" ( قولسي 4: 6 )؛ أمَّا عبارة "كانَ مِنَ الشِّرِّير" فتشير الى الشيطان مصدر الشر ومُحرّكه  ( 1 يوحنا 2: 13)  اوالى طبيعة الانسان الشريرة ( رومة 12: 9 ) التي كانت الشريعة عاجزة عن معالجتها كما صرّح بولس الرسول "الَّذي لم تَستَطِعْهُ الشَّريعة، والجَسَدُ قد أَعيْاها، حَقَّقَه اللهُ بإِرسالِ ابِنه في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد" (رومة 8: 3).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي وتحليله (متى 5: 13-16)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 5: 13-16)، نستنتج انه يتمحور حول الشريعة خاصة الوصايا العشر وموقف يسوع منها. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم الشريعة في الكتاب المقدس؟ وما هو موقف يسوع من الشريعة الموسوية (اليهودية)؟ وما هي ميزات الشريعة الإنجيلية؟

 

1 . ما هو مفهوم الشريعة في الكاب المقدس؟

 

هناك الشريعة الطبيعية والشريعة الدينية. للوثنيين شريعة طبيعية، تظهر لهم عن طريق ضميرهم كما جاء في تعليم بولس الرسول "فالوَثنِيُّونَ الَّذينَ بِلا شَريعة، إذا عَمِلوا بِحَسَبِ الطَّبيعَةِ ما تَأمُرُ بِه الشَّريعة، كانوا شَريعةً لأَنْفُسِهم، همُ الَّذينَ لا شَريعةَ لَهم، فَيدُلُّونَ على أَنَّ ما تَأمُرُ بِه الشَّريعةُ مِنَ الأَعمالِ مَكتوبٌ في قُلوبِهِم، وتَشهَدُ لَهم ضَمائِرُهم وأَفكارُهم، فهي تارةً تَشكوهُم وتارةً تُدافع ُعنهُم" (رومة 2: 14-15). وتدعى هذه الشريعة طبيعية لان العقل الذي يأمر بها من خصائص الطبيعة البشرية. ويعلق القديس توما الاكويني "نور العقل الذي وضعه الله فينا؛ بها نعلم ما يجب عمله وما يجب تجنبه. والله هو الذي أعطى الخليقة هذا النور أو تلك الشريعة"، و"الشريعة الطبيعية تعلن الوصايا الاولى والاساسية التي تُهيمن على الحياة الاخلاقية. ومحورها التوق الى الله والخضوع له، هو مصدر كل خير وديانة، وكذلك الاحساس بالآخر مساويا للذات". (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1955).

 

أمَّا الشريعة الدينية، فهي شريعة العهد القديم، وفي التعبير العبري הַתּוֹרָה "توراه" وفي التعبير اليونانَي νόμος "ناموس" الذي يحمل مدلول قانوني تعني "تعليماً" أعطاه الله للبشر لتنظيم سلوكهم. وينطبق هذا التعليم على المجموعة التشريعية التي ينسبها تقليد العهد القديم إلى موسى النبي. وتشمل الشريعة الوصايا العشر (خروج 2: 2-17)، وهي توصيات خلقية تذكِّر بمطالب الضمير البشري الاساسيّة، فتشكل أوامر مباشرة، بها يعرّف الله مشيئته لشعبه، ولها صبغة إلزامية باسم الله نفسه. وهي تَنْهَى عمّا هو مخالف لمحبة الله والقريب، وتأمر بما هو اساسيٌّ لها" التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1962).

 

وبالإضافة للوصايا العشر تشمل الشريعة ايضا قواعد قانونية تنظم الشؤون المدنية: الاسرية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، وأخيرا تشمل الشريعة قوانين خاصة بالعبادة: طقوسها، وخدامها وشروطها وخاصة قواعد التطهير. ولذا أطلقت على الشريعة في العهد القديم تسميات مختلفة: تعليم (توراة)، وشهادة، وأمر، ووصية، وحكم أو قضاء، وكلمة، ومشيئة، وطريق الله (مزمور 19: 8-11: 119)، وحكمة (يشوع بن سيراخ 24: 23).

 

والوصايا هي متطلبات تدرِّب شعب الله على السير في طريق القداسة التي دعوهم الله اليها. وإن الوصايا العشر (خروج 20: 1-17) وكتاب العهد (خروج 20: 22-23:33). وقد أعاد جمعها كتاب تثنية الاشتراع مع التوسع حتى تتلاءم وضرورات الزمن ومتطلباته (تثنية الاشتراع 5: 2-21، 12-28).

 

وأمَّا المؤتمنون على الشريعة والمُتخصِّصون في شرحها فهم الكهنة، بحكم وظيفتهم، (هوشع 5: ا إرميا 18: 18، حزقيال 7: 26): ويجب عليهم أن يعلَموا الشعب أحكام الله وأوامره (تثنية 33: 10). ولذلك تصدر عنهم مجموعة الأحكام التشريعية، وتحت إشرافهم يتم التوسع في التوراة.

 

أمَّا المدافعون عن الشريعة فهم الأنبياء حيث كان الانبياء يعترفون بسلطة هذه التوراة، ويوبّخون الكهنة عن إهمالهم لها (هوشع 4: 6، حزقيال 22: 26)، وقد ندَّد النبي هوشع بمخالفات للوصايا العشر (هوشع 4: 1-2)، ووعظ ارميا النبي بإطاعة كلمات العهد (ارميا 11: 1-12) وعدّد حزقيال النبي بعض الخطايا المأخوذة من كتاب القداسة (حزقيال 22: 1-16). والشريعة مرتبطة بالعهد. فالعهد يتطلب في الواقع التزاما بحفظ الشريعة الإلهية (خروج 19: 7-8). فالشريعة هي عنصر أساسي في وعد الشعب الإسرائيلي في مجيء المخلص، إذ تُهيئ للإنجيل وتُعد الشعب المختار وكل مسيحي للتوبة وللإيمان بالله المُخلص. وهذه الشريعة بحسب التقليد المسيحي مقدسة (رومة 7:12) وروحية (رومة 7:14) وصالحة (رومة (7: 16) ولكنها ناقصة، لأنها لا تعطي بذاتها القوة ولا نعمة الروح القدس.

 

وأمَّا العهد الجديد فيُطلق اسم "الشريعة" على النظام تمييزا عن تدبير النعمة الذي أسسه يسوع حيث يقول بولس الرسول "قَد جاءَتِ الشَّريعةُ لِتَكثُرَ الزَّلَّة، ولكِن حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعمَة" (رومة 5: 20). ففي حين يتمسك الصدّوقيون بالتوراة المكتوبة وفي نظرهم الكهنة وحدهم هم مفسّرو الشريعة الشرعيون؛ فإنَ الفريسيين يعترفون بالتوراة المكتوبة وبالتوراة الشفوية أي بتقليد الأجداد.

 

2. ما هو موقف يسوع من الشريعة القديمة الموسوية (اليهودية)؟

 

إذا لم يكن المسيح قد جاء لينقض الشريعة "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17)، فهل يعني انه ينبغي الآن تطبيق كل شرائع العهد القديم؟  كانت الشريعة في العهد القديم مقسّمة الى ثلاثة أقسام: قسم طقسي، وقسم مدني، وقسم أدبي.

 

  1. الشريعة الطقسية

 

كانت الشريعة الطقسية ترتبط خاصة بعبادة بني إسرائيل (الاحبار 1، 2، 3) وكان الهدف الأساسي منها الإشارة والتلميح الى سيدنا يسوع المسيح، حيث لم تعد هذه الشرائع لازمة بعد موت المسيح وقيامته، ولكن بينما نحن غير مقيّدين بالشرائع الطقسية، لكن المبادئ التي وراءها، أي ان نعبد الله القدوس ونحبه، ما زالت سارية. وقد حاول القديس بولس الرسول ان يدافع عن حرية الوثنيين المهتدين تجاه الترتيبات التي تأمر بها الشريعة الطقسية (غلاطية 2: 14-21). ويعرف صاحب الرسالة الى العبرانيين أن الشريعة الطقسية لم تستطع بلوغ الهدف الذي كانت ترمي إليه، ألا وهو تقديس البشر (العبرانيين 7: 19). فهي لم تشتمل في الواقع إلا على ظل الخيرات المستقبلة (العبرانيين 10: 1)، فهي رمز ناقص لذبيحة يسوع المسيح.

 

وحسب نظام يسوع الجديد هناك الشريعة الانجيلية التي تحتوي حقيقة على الخيرات المستقبلية التي ورد ذكرها في الرسالة الى العبرانيين "ولَمَّا كانَتِ الشَّريعَة تَشتَمِلُ على ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة، لا على تَجْسيدِ الحَقائِق نَفسِه، فهي عاجِزَةٌ أَبَدَ الدُّهور، بِتِلْكَ الذَّبائِحِ الَّتي تُقَرَّبُ كُلَّ سَنَةٍ على مَرِّ الدُّهور، أَن تَجعَلَ الَّذينَ يَتَقَرَّبونَ بها كامِلين" (عبرانيين 10: 1). كانت فرائض الذبائح والختان رمزًا لشيء سيحدث وبحدوثه انتهت هذه الفرائض، لأنه بمجيء المسيح ظهر معنى الطقوس والفرائض. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " إِذا اختَتَنتُمِ، فلَن يُفيدَكُمُ المسيحُ شَيئًا... ففي المسيحِ يسوعَ لا قِيمةَ لِلخِتانِ ولا لِلقَلَف، وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة" (غلاطية 5: 2، 6).

 

  1. الشريعة المدنية

 

لم يحتوي العهد القديم على الشريعة الطقسية بل أيضا على الشريعة المدنية.  كانت الشريعة المدنية تطبيقا لشريعة الله على الحياة اليومية في اسرائيل (تثنية الاشتراع 24: 10-11)، ولانَّ المجتمع العصري والثقافة الحديثة يختلفان اختلافا جذريا، فلا يمكن تطبيق كل هذه التوجيهات بحرفيتها، ولكن المبادئ وراء هذه الوصايا، هي لكل الأزمنة، ويجب ان تقود سلوكنا وقد تمَّمها يسوع كمثال لنا.

 

  1. الشريعة الأدبية

 

يحتوي العهد القديم أيضا على الشريعة الأدبية. والشريعة الأدبية تختصرها الوصايا العشر في امر مباشر من الله يلزم طاعته طاعة كاملة (خروج 20: 13)، حيث اطاع يسوع المسيح الشريعة الأدبية تماما، وهي التي تعلن طبيعة الله ومشيئته، وهي ما زالت ملزمة حتى اليوم. إن موقف يسوع من الشريعة القديمة واضح. فقد قاوم الشريعة الشفوية ولم يبطل الشريعة المكتوبة بل أكملها.

 

 أ) قاوم يسوع الشريعة الشفوية

 

في حين يتمسك الصدّوقيون بالتوراة المكتوبة وفي نظرهم الكهنة وحدهم هم مفسّرو الشريعة الشرعيون؛ فإنَ الفريسيين يعترفون بالتوراة المكتوبة وبالتوراة الشفوية أي بتقليد الأجداد. قاوم يسوع بعنف تقليدّ الشيوخ الذي يتمسك به الكتبة والفريسيون، لان التقليد يقود الناس إلى مخالفة الشريعة وإبطال كلمة الله (مرقس 12: 28-34).

 

أمَّا التشريعات الخارجية الطقسية المادية الكثيرة التي طلبتها الشريعة الموسوية وزاد عليها معلمو الشريعة من عشر وصايا إلى 613، فما أبطلها يسوع بل أخذ معناها ومغزاها وروحها. فقد ألغي يسوع التشريعات الخارجية الطقسية المادّية الموسوية اليهودية التلمودية التي كانت تفصل – وما تزال-اليهود عن غير اليهود، من ختان ووضوء وتنظيمات في المأكل وذبح الحيوانات والطهارة النسائية والذكورية وسواها كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَلغى شَريعةَ الوَصايا وما فيها مِن أَحكام لِيَخلُقَ في شَخْصِه مِن هاتَينِ الجَماعتَين، بَعدَما أَحَلَّ السَّلامَ بَينَهما، إِنسانًا جَديدًا واحِدًا "(أفسس 2: 15).

 

كل تلك التشريعات الخارجية الطقسية نابعة عن أمر الطهارة في العقيدة وفي الأخلاق. أخذ يسوع هذه الطهارة هدفًا وترك للكنيسة وللعقل السليم وللعادات والتقاليد المحلية تعيين الظروف والشروط الحياتية المادية التي تختلف من مكان إلى آخر.

 

وقاوم يسوع ايضا نقطة الضعف عند الفريسيين وعلماء الشريعة الذين اكتفوا بطاعتهم الظاهرية للشريعة ظاهريا دون ان يسمحوا لها تغيير قلوبهم او اتجاهاتهم، لذلك قال السيد المسيح إن نوعية بِرّنا يلزم ان يكون أفضل مما عند الفريسيين. "فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات" (متى 5: 20). ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم "مع أن الكتبة والفريسيين لم يكمِّلوا الناموس، إلا أنهم كانوا يتطلّعون إليه بضمير حيّ عظيم. وبينما كانوا يفسخونه كل يوم بأعمالهم، لكنهم يحافظون على حروفه لتبقى كما هي بلا تغيير، ولا يضيف عليه أحد شيئًا. لكنهم بالحقيقة أضافوا هم ورؤساؤهم إليه لا ما هو أفضل بل ما هو اسوء، إذ اعتادوا أن يتركوا التكريم اللائق بالوالدين جانبًا بإضافات من عندهم".

 

ب) لم يبطل يسوع الشريعة المكتوبة

 

"لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17). والحال أنّ الشريعة، في ملكوت الله، لا ينبغي أن تُلغى، بل أن تُتمَّم حتى آخر ياء أو نقطة (متى 5: 17-19)، ويسوع نفسه حفظها كما جاء في قوله للأبرص "إِيَّاكَ أَن تُخبِرَ أَحداً بِالأَمْر، بلِ اذْهَبْ إِلى الكاهِنِ فَأَرِهِ نَفسَكَ، ثُمَّ قَرِّبْ ما أَمَرَ بِه موسى مِن قُرْبان، شَهادَةً لَدَيهِم" (متى8: 4). ولذلك ما دام الكتبة أمناء على تعاليم موسى، ينبغي الاعتراف بسلطتهم وإن كان لا ينبغي الاقتداء بسيرتهم " إِنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسيِّينَ على كُرسِيِّ موسى جالِسون، فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون:" (متى 23: 2-3). وقد أكمل السيّد المسيح الناموس بخضوعه لوصايا دون أن يكسر وصيّة واحدة. ألم يقل ليوحنا المعمدان: " يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ"(متى 3: 15). وألم يقل لليهود: " مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟" (يوحنا 8: 46).

 

ج) أكمل يسوع الشريعة المكتوبة

 

افتتح يسوع إنجيل الملكوت وبالتالي نظاما دينيا جديدا وبهذا أكمل الشريعة. "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17). فالشريعة والأنبياء أمر أنتهى مع يوحنا المعمدانّ كما صرّح يسوع "دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله"(لوقا 16: 16)، وخمر الإنجيل لا يمكن صبها في آنية عتيقة خاصة في الشريعة الموسوية "ما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في زِقاقٍ عَتيقة، لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ، فَتتلَفَ الخَمرُ والزِّقاقُ معاً. ولكِن لِلخَمرَةِ الجَديدة زِقاقٌ جَديدة" (مرقس2: 22).

 

إن وضع الشريعة الموسوية كل الوصايا الدينية والأخلاقية والمدنية والعبادية على قدم المساواة، دون جعل ترتيب دقيق بينها يشير إلى أيّ منها يجب أن يعتبر دائماً المحور (تثنية الاشتراع 6: 4 -13). وقد تحوّلت الشريعة إلى قواعد متروكة لتفسيرات المُحلِّلين، مما يثقّل العبء على البشر بنير لا يطاق كما أعلن بطرس الرسول في مجمع اورشليم "فلِماذا تُجَرِّبونَ اللهَ الآنَ بِأَن تَجعَلوا على أَعناق التَّلاميذِ نِيرًا لم يَقْوَ آباؤُنا ولا نَحنُ قَوِينا على حَملِه؟"(أعمال 15: 10).

 

أمَّا يسوع فقد أكمل الشريعة بوضع نظامٍ جديدٍ في نظام الملكوت وذلك بترتيب الوصايا وفق سلم الأولويات لتكون في وضعها الصحيح. فالتجديد هنا يقوم على وضع محبة القريب قبل عبادة مقدّمة لله، لا بل تقوم عبادة الله على محبة القريب كما جاء في تعليم يسوع "فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك" (متى 5: 23-24). وهكذا في مفهوم يسوع، المصالحة بين الإخوة هي الذبيحة الحقيقية.

 

ويختلف ترتيب يسوع عن جدول القيم الذي حدَّده الكتبة والفريسيون الذين أهملوا فيه ما هو أساسي: العدل والرحمة والنيَة الصالحة، ليهتمُّوا بما هو ثانوي كما يتبيَّن من توبيخ السيد المسيح "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعة: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة. فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك" (متى 23: 23).

 

بالإضافة الى ذلك، ألغى يسوع النقائص التي كانت لاصقة بالشريعة القديمة "بسبب قساوة القلوب" كما جاء في تعليمه "مِن أَجْلِ قساوَةِ قُلوبِكم رَخَّصَ لَكم موسى في طَلاقِ نِسائكم، ولَم يَكُنِ الأَمرُ مُنذُ البَدءِ هكذا" (متى19: 8). فالنقائص لم يعد لها مكان في الملكوت السماوي حيث ان قاعدة السلوك الواجب اتباعها في هذا الملكوت هي شريعة الكمال، اقتداء بكمال الله. عندما أعلن يسوع بوضوح "سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم (متى 5: 21-21)، لم يكن ينقض الشريعة او يضيف اليها آراءه الشخصية، بل كان يقدّم مفهوما أكمل لغرض الله منها، ومثال على ذلك في الوصايا التالية:

 

وصية " لا تقتل" (متى 5: 21)

 

"سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: (لا تَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء). أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، (متى 5: 21-22). عندما تكلم موسى النبي عن القتل أوضح يسوع أنه لا يكفي ان نتجنب القتل إلاّ في حالة الدفاع عن النفس (لوقا 22: 36)، بل يجب ان نتجنب الغضب والحقد، وهو لب القضية، ويُعلق القديس أوغسطينوس" من يعلّمنا عن عدم الغضب لا ينقض الوصيّة الخاصة بعدم القتل، بل بالأحرى يكمّلها، إذ في عدم الغضب نتنقّى، من الداخل في قلوبنا، ومن الخارج أيضًا بعدم القتل". فالمسيحي لا يمتنع عن القتل ولكن عما يوصل الى القتل او ما يتضمن قتلا معنويا. وأكثر من ذلك، وضع يسوع مكان  "لا تقتل"  وصية "محبّة الأعداء".

يقدّم لنا الرب يسوع الجانب السلبي بالامتناع عن الشرّ، لا في التصرّفات الظاهرة فحسب، وإنما باقتلاع الشر من القلب في الداخل، ونزع الخطيئة من جذورها قبل أن تظهر كفعل في الخارج. فالغضب يشير الى شعور بالمرارة ضد أحد الناس، وهو شعور خطير يؤدي الى الشتائم والمخاصمات التي تفسد العلاقات البشرية وتُسمِّمها وتؤدِّي في آخر المطاف الى القتل والعنف وغير ذلك من النتائج المُدمِّرة. وبذلك يكون المرء قد أرتكب القتل في قلبه (متى 5: 21-22). ويُعلق القديس يوحنا كاسيان" تأمرنا كلمة الإنجيل باستئصال جذور سقطاتنا، وليس نزع ثمارها، فعند إزالة جميع الدوافع بلا شك لن تقوم من جديد". وبعبارة أخرى، لم يكتفِ السيد المسيح بوصية " لا تقتل" بل منع جذور القتل وأسبابه أي الغضب والحقد، من ناحية، ومن ناحية أخرى، طوّب الودعاء " طوبى الودعاء "طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض" (متى 5: 4).

 

ان هذه الوصية لا تنحصر في القتل فعلاً بل تفيد فكر البغض هو قتل يستوجب العقاب، بل تُعد التلفظ بكلمة دلالة على حقد المتكلم او انفعال الغضب الشديد يستوجب حكم المجلس او عذاب جهنم. والنتيجة ان خطيئة الانسان تتنوّع بالنظر الى حالة قلبه وهي جميعها تستوجب في عيني الرب الموت.

 

ولكن الجدير بالذكر الإشارة الى غضب حميد قال عنه بولس الرسول "اِغضَبوا، ولَكن لا تَخطَأُوا" (أفسس 4: 26)، انه يليق بالأب أن يغضب على ابنه، والمعلّم على تلميذه، ليس غضب الانتقام، بل غضب التأديب النابع عن الحب كما يقول القديس يوحنا الذهب الفم " فإن رأيت إنسانًا يرتكب خطأ قاتلًا ابسط يدك لتعينه".

 

وصية المصالحة: صالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك (متى 5: 24).

 

عندما طلب تقديم الذبائح بانتظام، أوضح يسوع انه لا يكفي ان نقدم الذبائح بانتظام بل يجب ان نكون على علاقة صحيحة مع الله ومع الآخرين (متى 5: 23-26). فمن الرياء ان نقول إننا في شركة سليمة مع الله، بينما شركتنا مع الآخرين ليست على ما يرام، فشركتنا مع الآخرين تعكس شركتنا مع الله "إِذا قالَ أَحَد: (إِنِّي أُحِبُّ الله) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). ومن هنا جاء تطويب يسوع " طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون" (متى 5: 9). يجب ان تسبق المصالحة كل الواجبات الدينية الخارجية لان تلك شرط للقبول هذه. يُعلمنا سيدنا يسوع المسيح واجب ان نصطلح مع اخينا قبلما نأتي الى مائدة الرب كما جاء في تعليم بولس الرسول "فأُريدُ أَن يُصَلِّيَ الرِّجالُ في كُلِّ مَكانٍ رافِعينَ أَيدِياً طاهرة، مِن غَيرِ غَضَبٍ ولا خِصام" (1 طيموتاوس 2: 8). أن عبادتنا لله ليست مقبولة ان تركنا واجباتنا تجاه الناس وعشنا معهم بخصام.

 

وصية "لا تزن" (متى 5: 27)

 

"سَمِعْتُم أَنَّه قيل: ((لا تَزْنِ)). أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إِلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه. (متى 5: 27-28). عندما قال موسى في الشريعة عن الزنى، أوضح يسوع انه لا يكفي الابتعاد عن الزنى، بل يجب ان نحفظ قلوبنا من الشهوة ونكون أمناء. وهنا اكّد يسوع أنه إذا كان فعل الزنى خطيئة، فالنيَّة في الزنى هي أيضا خطيئة (متى 5: 27-30). ويُعلق القديس أوغسطينوس "إن الخطيّئة تتم على ثلاث مراحل: إثارتها، التلذّذ بها، ثم إرضائها".  إن كانت الشريعة قد حرّمت إرضاء الخطيئة أي تنفيذها، فإن السيّد المسيح جاء ليقتلع جذورها بمنع الخطيئة، وهي في مرحلتها الأولى. إن كانت الخطيئة تبدأ بالإثارة خلال النظرة الشرّيرة، ليتقبّلها الفكر ويتلذذ بها ثم تدخل إلى الإرضاء بالتنفيذ العملي، فإنه يسهل على المؤمن أن يواجهها في مرحلتها الأولى قبل أن يكون لها موضع في الذهن أو لذّة خلال الممارسة للخطأ.

 

ليس الجسد هو الذي يلوّث الإنسان بل الافكار والشهوات. بذلك يُدخل يسوع الى العالم قيمة جديدة، وهي احترام الذات، واحترام الجنس وقدسية الحب. وما هو هام في العلاقات الزوجية بحسب نظر يسوع هو الموقف الباطني الذي يستدعي التسامي وضبط الذات والحواس وصفاء النيّة، وليس مجرّد الامتناع عن أعمال الزنى.

 

ونستنتج ممَّا سبق ان يسوع يقدّم علاقة جديدة، وهي أن نفهم أن الآخر هو جزء منّا، وأننا نشكل معه جسداً واحداً، وبأنّنا شأن واحد. إن الآخر هو شخص وُجِد كي نحبّه. وبعبارة أخرى، لم يكتفى السيد المسيح بوصية "لا تزنِ" بل منع جذور الزنى في النّظرة غير الطاهرة والنيّة غير السليمة من ناحية، ومن ناحية أخرى، طوّب أطهار القلوب "طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله" (متى 5: 4). وأكثر من ذلك وضع يسوع مكان "لا تزن" النظرة الأخويّة.

 

قضية الطلاق (متى 5: 32)

 

"قيل: (مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق). أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى" (متى 5: 32-33). عندما قال موسى في شريعة الطلاق، أوضح يسوع انه لا يكفي ان نتزوج زواجا شرعيا بل يجب ان نحيا بمقتضى التزامات الزواج (متى 5: 31-32).

 

لم يدخل يسوع في موضوع النقاش بين علماء الشريعة حول الحالات التي يجوز فيها الطلاق، بل يطلب تغيير الذهنية والقلب تغييراً جذريا في علاقة الرجل بزوجته. كان سفر تثنية الاشتراع يُجيز الطلاق (تثنية الاشتراع 24: 1)، لكن يسوع عارض هذا القانون واستبدله بقانون زواج غير قابل للانحلال، كما أراده الله منذ البداية “لذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا"(تكوين 2: 24). ان ما أراده الله منذ البدء ولم يستطع الانسان تطبيقه لقساوة قلبه، صار اليوم ممكنا بسبب بدء الملكوت أي بفضل النعمة التي يُسْبِغُها الله على الذين يُقبلون الى حياة بنوّة معه بابنه الوحيد يسوع المسيح. لذلك فيسوع لا يجيز الطلاق الا في حالة الفحشاء يعني حالة الذي يعيش مع امرأة من غير زواج رسمي. وفي هذه الحالة، يجوز ابطال الزواج لأنه ليس ثمة عقد زواج قائم.

 

وصية القسم (متى 5: 34)

 

"سَمِعتُم أَيضاً أَنَّه قِيلَ لِلأَوَّلين: (لا تَحْنَثْ، بل أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ)، أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً، لا بِالسَّماءِ فهِيَ عَرشُ الله، ولا بِالأَرضِ فهيَ مَوْطِئُ قدَمَيْه، ولا بِأُورَشليم فهيَ مَدينةُ المَلِكِ العَظيم. ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ فأَنتَ لا تَقدِرُ أَن تَجعَلَ شَعرةً واحِدَةً مِنه بَيضاءَ أَو سَوداء. فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير" (متى 5: 33-37). عندما تكلم موسى عن النذور، أوضح يسوع بانه لا يكفي بان ننذر، بل يجب ان نتجنب التعهد بطريقة متسرعة وغير مسؤولة امام الله (متى 5: 33-37). وخلاصة القول، المسيحي لا يحنث بقسمه وحسب، بل لا يحلف ابداً.

 

والمسيحي له سمة مميزة، هي أنه لا يُقسم بل يكون كلامه الصدق فقط، لان الكذب هو من إبليس " فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب" (يوحنا 44:8). لم يقتصر يسوع على النهي من القسم الباطل بل نهى عن رفع كل دعوى الى الله بغير لزوم. يريدنا يسوع ان يكون كلامنا بلا قسم، إنما ليكن "نعم" او "لا" كأننا ننطق بها امام الله. وفي هذا الصدد يوصي يعقوب الرسول " وقَبْلَ كُلِّ شَيء، يا إِخوَتي، لا تَحلِفوا بِالسَّماءِ ولا بِالأَرضِ ولا يَمينًا أُخرى. لِتَكُنْ نَعَمُكم نَعَم ولاؤُكم لا، لِئَلاَّ تَقَعوا تَحتَ وَطأَةِ الدَّينونة" (يعقوب 5: 12).

 

3.  ما هي ميزات الشريعة الجديدة الإنجيلية؟

 

توقّع اليهود بأنّ الربّ الإله سوف يعطي شريعة جديدة عن طريق المسّيح (يلكوت شمعوني 2، 296). والشريعة الجديدة ما هي الاّ الشريعة الإنجيلية التي هي كمال الشريعة الطبيعية – الإلهية الموحى بها الى موسى النبي.
لم يُكمل يسوع الشريعة بالتشديد فقط على الوجهة الباطنية وما في قلوبنا بل ركز أيضا على كمال الشريعة وقوتها بالروح القدس واولوية العمل والحرية والمحبة.

 

أ.  شريعة الكمال:

 

لم يأتِ يسوع ليقيم شريعة جديدة عوضاً عن الشريعة القديمة. انه أعطى المعنى الحقيقي للشريعة القديمة.  فالشريعة الانجيلية لا تلغي قيمة الفرائض الاخلاقية الموجودة في الشريعة الموسوية القديمة، بل تظهر كل حقيقتها الالهية والإنسانية، وتذهب إلى حد اصلاح أصل الاعمال، أي القلب، حيث يختار الانسان بين ما هو طاهر وما هو دنس كما جاء في تعليم يسوع المسيح " مِنَ القَلْبِ تَنْبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم " (متى 15: 19).

 

يقود الانجيل الشريعة هكذا إلى كمالها بالاقتداء بكمال الاب السماوي تلبية للرب يسوع "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل. (متى 5: 48)، والمغفرة للأعداء، والصلاة لأجل المضطهدين، كما وصّانا يسوع المسيح " أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم " (متى 5: 44).

 

ب) شريعة الروح القدس:

 

بما ان شريعة يسوع هي شريعة الكمال، وهو هدف صعب المنال بوضع الإنسان الحاضر (متى19: 10)، فإنَ يسوع قدَّم مع هذه الشريعة نفسه مثالاً جذاباً ومنح قوة باطنية سوف تساعد على حفظ الشريعة، وهي قوة الروح "لكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض" (أعمال 1: 8)؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما لم يستطع الناموس أن يتمّمه بالحروف تحقّق بالإيمان، لهذا يقول السيد المسيح “لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل". وقد صرّح بولس الرسول " فغايَةُ الشَّريعةِ هي المسيح، لِتَبْرير ِكُلِّ مُؤمِن" (رومة 10: 4).

 

أوضح لنا يسوع اننا بحاجة الى نوع من البِّر يختلف تماما عن بر الفريسيين "فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات. (متى 5: 20) وكيف يكون ذلك: فان حفظنا الوصايا (برّنا) يجب ان يكون نتيجة لما يفعله الله فينا، وليس ما نستطيع نحن ان نفعله من تلقاء أنفسنا. وان يكون مركز حفظ الوصايا (برنا) الله وليس الذات، وهدف حفظ الوصايا هي مخافة والله وطاعته وليس استحسان الناس. وان يكون حفظ الوصايا ليس مجرد حفظ الشريعة، بل حبّا في المبادئ التي وراءها وهو الله. الشريعة الإنجيلية توجّه صدقتنا وصلاتنا وصومنا نحو الآب السماوي " إِيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، ...لِتكونَ صَدَقَتُكَ (صلاتك، وصومك) في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6: 1-6).

 

ج) شريعة العمل:

 

ظنَّ الفريسيون وعلماء الشريعة ان تعليم الآخرين هو الهدف الأسمى في الحياة. لكن السيد المسيح أوضح ان الطاعة لله هي أعظم هدف، فمن السهل ان تعلّم شريعة الله وتطلب من الآخرين ان يطيعوها، دون ان تمارسها بنفسك، لذا قال يسوع " فمَن خالفَ وَصِيَّةً مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات "(متى 5: 19). فشريعة النظام الجديد هي شريعة الحرية الكاملة "وأَمَّا الَّذي أَكَبَّ على الشَّريعَةِ الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة، ولَزِمَها، لا شَأْنَ مَن يَسمعُ ثُمَّ يَنْسى، بل شأنَ مَن يَعمَل، فذاكَ الَّذي سيَكونُ سَعيدًا في عَمَلِه"(يعقوب 1: 25).

والشريعة الإنجيلية هي شريعة عمل لأنها تقتضي ممارسة كلام الرب " لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) ي َدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات. (متى 7: 21)؛ كما تقتضي هذه الشريعة اختيار حاسم بين الطريقين "أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. فإِنَّ البابَ رَحْبٌ والطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الهَلاكِ واسِع، والَّذينَ يَسلُكونَه كَثيرون. ما أَضْيَقَ البابَ وأَحرَجَ الطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الحَياة، والَّذينَ يَهتَدونَ إِليهِ قَليلون" (متى 7: 13-14). وخلاصة الشريعة الانجيلية هي القاعدة الذهبية "فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء. "(متى 7: 12).

 

د) شريعة الحرية

 

الشريعة الانجيلية هي شريعة الحرِّية (يعقوب 1: 25)، لأنها تحرِّرنا مما في الشريعة القديمة من رسوم طقسيَّة وقانونية، وتميل بنا إلى التصرف تلقائيا بدافع المحبة، كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "تَكلَّموا واعمَلوا مِثْلَ مَن سَيُدانُ بِشَريعَةِ الحُرِّيَّة" (يعقوب 2: 12) من ناحية.

 

ومن ناحية أخرى، لان الشريعة الانجيلية تجعلنا ننتقل من حالة العبد إلى حالة صديق المسيح كما أكّد الرب يسوع "لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، وإلى حالة الابن الوارث أيضا كما جاء في تعليم بولس الرسول "الدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: ((أَبَّا))، ((يا أَبتِ)) فلَستَ بَعدُ عَبْدًا بلِ ابنٌ، وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه"(غلاطية 4: 6-7).

 

ه) شريعة المحبة:

 

أكمل المسيح الشريعة من خلال كشفه عن روح المحبة في وصيته الجديدة "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34). لذلك تدعى الشريعة الانجيلية شريعة محبة، لأنها تحمل على تفضيل التصرف بفعل المحبة التي يبثَّها الروح القدس على التصرف بالخوف؛ فالرب يسوع أعطانا أن نتجاوب مع وصايا الشريعة ولن نتمِّمها عن حب، وذلك بسكب روح المحبة في قلوبنا بالروح القدس كما جاء في تعليم بولس الرسول " لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5:5)، فجعلنا نطيع الشريعة ليس خوفًا من عقاب بل حبًا له. الشريعة الانجيلية كلها موجودة في وصية يسوع الجديدة   "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34).

 

الشريعة الانجيلية الجديدة، هي شريعة الروح القدس. لم تعد الشريعة الانجيلية الجديدة مكتوبة على ألواح من حجر بل محفورة بفعل الروح القدس في قلوب المؤمنين " إِنِّي لأَجعَلُ شَريعَتي في ضَمائِرِهِم وأَكتُبُها في قُلوبِهِم فأَكونُ لَهم إِلهًا وهم يَكونونَ لي شَعْبًا" (عبرانيين 8: 10). والمسيح هو الذي يمنح القوة للعيش بحسب "الحياة الجديدة". الروح القدس الممنوح لنا في العهد الجديد بسكبه روح المحبة في قلوبنا تجعلنا نحفظ الوصية عن حب وليس عن فرض كما جاء في تعليم الرب يسوع "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي." (يوحنا 21:14)، وبهذا كمّل يسوع الناموس فينا، إذ أن هدف الشريعة هو أن نحيا حياة البر.

 

والشريعة الإنجيلية هي شريعة محبة، لأنها تحتوي على المشورات الإنجيلية التي غايتها اقصاء ما يمكنه ان يُعيق نمو المحبة كما يقول العلامة توما الاكويني. والمشورات الانجيلية تتضمن العفة في حياة العزوبة لأجل ملكوت الله، والفقر والطاعة، وهي معروضة على كل واحد من تلاميذ المسيح المدعو لتكريس حياته في كمال المحبة.
وأخيراً فإنَ شريعة الملكوت تتلخَّص في الوصية المزدوجة، التي تلزم الإنسان بأن يحب الله، وأن يحبّ القريب كنفسه "فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ. والثَّانِيَةُ هي: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (مرقس 12: 30-31). ويوكّد بولس الرسول أهمية المحبة الأخوية بقوله "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة، فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: (لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ) وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: (أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ). فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13، 8-10).

 

وكل الأمور تتنظَم من حول هذه الوصية، وكلها مشتقَّة منها. وفي علاقات البشر بعضهم ببعض، هذه الوصية هي القاعدة الذهبية المثلى، وتحوي كل الشريعة والأنبياء" فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء" (متى 7: 12)، والتي قِمّتها شريعة المحبة “فإِذا عَمِلتُم بِالشَّريعَةِ السَّامِيَةِ الَّني نَصَّ عَلَيها الكِتاب، وهي: (أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)، تُحسِنونَ عَمَلاً "(يعقوب 2: 8).

 

وحفظ الوصايا هو علامة الحب الحقيقي كما صرّح يسوع " مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21)، ومن بين هذه الوصايا هي وصية المحبة الاخوية "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34) وهذه الوصية منبثقة من محبة الله " إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا" (1 يوحنا 4: 21). وهكذا ولدت شريعة جديدة ترتبط بيسوع، وهي شريعة جديدة تبقى مدى الدهر قاعدة للحياة المسيحية.

 

الخلاصة
 

لم يأتِ يسوع كي يُبطل أو يهدم، بل أن يبني ويواصل العمل الشريعة التي أعطاها الله ويُكملها. فإن البر القديم لم يعد يكفي. لا يكفي الالتزام بالقوانين والقيام بالواجبات. هناك احتياجات جديدة وطريقة جديدة للحياة وللمحبة والمجانية. وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس "فخلاص الله، بالنسبة للفرِّيسيين والكتبة، هو في "كومة قوانين. بَيد أن الشريعة هي على الدوام الجواب على محبّة الله المجانيّة؛ وعندما ننسى مجانيّة الخلاص هذه نسقط، ونفقد مفتاح حكمة تاريخ الخلاص ونفقد معنى قرب الله" (صوت البابا 19/19/0/2017).

 

والعهد الجديد خير شاهد على التجديد الجذري مع التمسّك بجوهر العهد القديم مع التركيز على القلب والنيّة والامور الداخلية.  والعهد الجديد يُعد استمرارية ً للعهد القديم، ولذلك فإن الدين المسيحي يشكّل في آن واحد استمرار للعهد القديم وتجديدًاً له كما جاء في رسالة العبرانيين "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (عبرانيين 1: 1). لذلك يعلمنا يسوع كيف نفهم الشريعة ونطيعها، أمَّا أولئك الذين لا يطيعون الشريعة ويقلّلون من شأنها ويشككون فيها، فلا يقللون من شأنها فحسب بل من شأن الإنسان، وبذلك من شأن الله نفسه.

 

يحقق الانجيل العهد القديم ويُكمِّله، لا بل إن ظهور يسوع يُنير مراحل العهد القديم. ليس يسوع مؤسس لديانة جديدة، بل هو كلمة الله النهائية، وهو الذي يكشف في النهاية عن إرادة الله الآب التي هي ليست "شريعة" بقدر ما هي مطلب حب. فإذا كان الانسان محبوبا، شعر بمطلب باطني للتشبُّه بالذي يحبّه. ويعُلق أحد المفسّرين على شريعة يسوع بقوله " في صُلب كل عمل نيّة دينية، وفي صلب كل عمل ديني محبة، وفي صلب كل فعل محبة كائن مطلق"؛ فبشريعته يدعونا يسوع نحن أحباء الله الآب، ان نعيش تحت نظر الله والدخول في علاقة الابن مع الآب، ونعلن أولوية حُبّ الله الخلاصيّ ويأتي بعدها ما يتعلّق بالالتزام الأخلاقيّ والدينيّ، وان ننظر الى الآخر نظرة الآب نفسه، وأن نحبَّه بالاحترام نفسه والرغبة نفسها فنكون "كامِلين، كما أَنَّ أَبانا السَّماويَّ كامِل" (متى 5: 48).

 

دعاء
 

أيّها الآب السماوي، يا من أرسلت أبنك الحبيب يسوع المسيح ليُكمل الشريعة ويرفعها الى مستوى الكمال الإنجيلي، امنحنا نعمة الروح القدس بان نقرا الكتاب المقدس في ضوء يسوع وبمفهومه حياته وموته وقيامته، فنطابق حياتنا مع متطلّبات الإنجيل بمحبة وحريّة ومجانية، ونُصبح أبناء الله وورثة الملكوت وشهود لله خاصة في محبّة الآخر بذات قلب الربّ يسوع المسيح.  آمين".