موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٣ فبراير / شباط ٢٠٢٠

ما جئت لأنقض الشريعة بل لأتممها

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
ما أتيت لأنقض بل لأتمم. فشريعة يسوع الجديدة، تختلف عن شريعة الغاب، لأنها تتميم لإرادة الله

ما أتيت لأنقض بل لأتمم. فشريعة يسوع الجديدة، تختلف عن شريعة الغاب، لأنها تتميم لإرادة الله

 

الأحد السادس (متى 5: 17-37)

 

تعليم يسوع كان منذ البداية يختلف عن تعليم الكتبة والفريسيين، ليس فقط بأسلوبه، بل وأيضًا بمضمونه: "سمعتم أنه قيل لكم... أما أنا، فأقول لكم". كلُّ أقواله ومواعظه، حتى انتقاداتُه الشديدة، كان يقصد منها تفهيم البشر ما هو الحلُّ والموقف السليم العقلاني، وغير المغرض، وما هي مقومات الحياة المسيحية لنا، نحن المستمعين أو المؤمنين به وبمحبته. المسيحي يجب أن يكون كالسمك، فهو لكي يتغذى، يجب أن يسبح بعكس مجرى الماء. يجب أن يخلق له محيطًا غير محيط باقي الناس. أن نكون مسالمين مع كل البشر. وألّا نتعامل مع الناس، بنفس أسلوبهم الشرير، بل كما قال هو: انتصروا على الشرّ بالخير. الفريسيون والكتبة، كانوا فقط يهددون، ليبقى الناس يهابونهم وخاضعين لهم، لئلا يفلت النظام من أيديهم. لذا كان الناس في قلق متواصل، لئلا يَمْسِكُهم هؤلاء الرؤساء في مخالفة ما، ويقاصصونهم بأبشع أنواع الحرمان والعقاب الإستبدادي، من هذه القصاصات، منع المذنب من  الدخول إلى الهيكل، ما تسميه الكنيسة بالحرمان، إذ لكل مخالفة من وصاياهم الـ614 كان هناك قصاص مختلف. فبهذا الوضع، كان المستمعون ينتظرون لغةً غير لغة التهديد. مع هذه الفئة من رؤساء الشعب، حدثت أكثر جدالات وانتقادات يسوع، إذ هم كانوا كقبور مُبْيَضَّة، تظهر من خارج ٍجميلة، أمّا من داخل فمملوءةٌ عظامَ أموات وكلَّ نجاسة (متى 23: 27). لذا أسمع تلاميذه هذا الكلام الجديد: إن لم يزد برّكم على برّ الفريسيين، فلن تخلصوا، وكلام أخر مشجع ومفيد نسمعه منه في التوراة.

 

لذا فالإنجيل هو كتاب، لا للرفوف، بل للقراءة اليومية، لاكتشاف نوايا وأعمال وأقوال الله لنا نحن البشر، وكيف أنه من الممكن لنا، أن نتقابل مع الله وجهًا لوجه في كلمته، التي تقول لنا، كيف يمكن لنا، أن نكون مسيحيين. لكن للأسف، قليلون هم الذين يقرأون الإنجيل. فهذا مثل تأكيد واقعي: اكتشفت حركة السلام قبل سنوات أنَّ كلمات التطويبات هي حقًا أساس السلام، لذا نشرتها في الجرائد، فكثيرون ما كانوا عرفوا أن هذا النص هو على صفحات الإنجيل، لذا فهم تهافتوا على شراء الجرائد لكي يقصوا هذا النص منها ويحملونه في جيوبهم. هذه العبارات الثمانية هي قِمَّةُ ما نجده في الإنجيل. هي كهرم سنبل في مصر، تراه من أين ما درت وتحركت ونظرت، فهو لا يغيب عن وجهك. فهي ليست في مقطع واحد من الإنجيل بل أينما قرأت، تتذكر، أنها تفسير لمحتوى التطويبات. أما إنجيل اليوم، فما هو، لا كرزة واحدة ولا هو تطرّق لموضوع كامل، وإنما هي تجميع ومختصر لكرزات مختلفة الأزمان والأوقات والسامعين أيضًا، جمّعها متى وربطها ببعضها البعض، لئلا تضيع. فمن يسمعها وليس في عقله هذه المعلومة، يفتكر أن يسوع ضيق التفكير، وقاسي في جداله، ولا يسمح بأيِّ حزب معارضة. كسياسة الدكتاتوريين الذين لا يسمحون بوجود أي حزب معارضة، إلى جانب حزبهم أو ديانتهم. أما من كان عارفا بأرضية هذا التجميع، فهو شاكر للإنجيلي، وخاصة لكلمات يسوع، التي لم تَتْرُك موضوعا إلاّ وتطرّقت له.

 

لقد سمعتم، أنه قيل لكم: العين بالعين، والسن بالسن! أما أنا فأقول لكم، لا تبدلوا الشر بالشر. إن متّى يذكر نص الشريعة القديم، والذي يأمر بالإنتقام أو المعاملة بالمِثِل، فلا مجال في هذا القول للإنسانية بين البشر والتسامح، بل يفتح المجال للإنتقام الذي لا يعرف حدًا. العين بالعين. فالإنتقام يجب أن يكون عاليًا بمستوى الإهانة، فلا مجال، لا للنسيان ولا لغض النظر عن الإهانة، ولو كانت صغيرة. أمّا يسوع فيُحدِثُ تجديدًا غير مشهود، وهو الرمي بالشرائع الظالمة وراء الظهر، وإبدالها بما هو منطقي معقول. وهذه ثورة غير معهودة عند الكهنة وروساء الشعب قبله. ويوثّق ذلك بأعمالٍ وأمثالٍ واقعيةٍ تفوق الوصف، إذ يقول: إن لطمك أحد على خدِّك الأيمن، فأدِر له الأيسر. إن يسوع لا يعني احتمل هذه الإهانة على مضض وأدر الجهة الثانية ليتساوى الألم عندك، إن هذه الإهانة الجديدة وهي علامة ضعف عند المُهين، تعني أكثر من ذلك، أي التنازل عن الإنتقام. وإن سخّرك جندي ميلا فلا تقاومه بل امشِ معه ميلَين، أي قابل قساوته بلطفك المزدوج. وبكلمة بولس: "لا يغلِبْك الشرّ، بل اغلب الشرّ بالخير" (روم 12: 21). من المستحيل انتصار القوة بالقوة، بل بالمحبة الخلّاقة، التي لا تفرح بالإثم، بل بالحق، وتحتمل كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء" (1 كور 13).

 

ما أتيت لأنقض بل لأتمّم. الفريسيون وكتبة بل ورؤساء الشعب جسّدوا الشرّ والضلال بتعليمهم وكرازاتهم، إن صحّ التعبير بتسميتها كرازات، بل هي قوانين وشرائع قاسية، أوجدوها لغيرهم: "إنهم يحزمون أحمالا ثقيلة، عَسْرةَ الحَمْل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يُحرّكوها بإصبعهم" (متى 23: 4). أما أنتم، فإن غفرتم للناس زلاتِهم، يغفر لكم أبوكم السمواي زلاتكم (متى 6: 14 ولوقا 11: 25). إن احتمال الإهانة والتسامح، المستمدّان والمبنيان على تعليم يسوع قد جعلت العالم، يتحاشى ويلات لا تُحصى ولا تُعد، بل جعلت من أعداءٍ كثيرين، أصدقاء مخلصين. بل لنقل إن نص التطويبات قد وفّر على العالم حروباً ودماءً، أشدَّ ضراوة من الحروب التي نسميها العالمية، الأولى والثانية.

 

كلمات يسوع، تُحدث العجائب، حيث تبدو العجائب مستحيلة. إذا كان هناك ابن سلام، فيحلَّ السلام عليه. قراءة وعظة الجبل فريدة، وتُبهر القارئين لها حتى اليوم. ألم يقل عنها ستالين، مؤسس الشيوعية، لو كانت مني لغيّرت فيها العالم كلَّه. إن حيويّتَها، قادرةٌ على أن تليّن القلوب الحجرية الصخرية حتى اليوم، وتجعل منها قلوبًا من لحم ودم. ومن ينسى قوّتها ومفعولها وتأثيرها على محامي حقوق الزنوج في أمريكا، مارتين لوثر كينج، حيث كان يقول: كلماتها تمنعنا من استعمال كلمة العنصرية. نحن لا نريد الإنتصار على أعدائنا. لكننا سنصبح أقوياء إن احببناهم. نحن نشعر بألمهم وظلمهم لنا، لكننا لا نريد أن نضيف عليهم ألاما جديدة. فلا يجوز أن يكون جانب منتصِر وجانب مغلوب، لكن متسامحين من الطرفين". إن تغيّرت شريعة الغاب بشريعة المسيح، شريعة المحبة والرحمة والتسامح، فسيتغيّر وجه الأرض جَذريًا، إذ لن نسمع بعد، إلا عن مُسامح ومتسامح، لا عن حرب وانتقام، بل عن سلام وأُخُوّة. ما أتيت لأنقض بل لأتمم. فشريعة يسوع الجديدة، تختلف عن شريعة الغاب، لأنّها تتميمٌ لإرادة الله. آمين