موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

الأحد الخامس من الصوم

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن
هذا ما نالته قدّيسة الله بعد سنين جهادها الطوال. فقد ظلّلتها نعمة الله وسكنها الرّوح القدس

هذا ما نالته قدّيسة الله بعد سنين جهادها الطوال. فقد ظلّلتها نعمة الله وسكنها الرّوح القدس

 

أحد القديسة مريم المصرية

 

الرِّسالة

 

فصل من رِسالةِ الْقِدِّيسِ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ

(عبرانيين 9: 11-14)

 

يا إخوَةُ، إنَّ المسيحَ إذْ قَدْ جاءَ رَئيسَ كَهَنَةٍ للخيراتِ المستقبلةِ، فبمَسْكنٍ أعظَمَ وأكمَلَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بأيدٍ، أيْ ليسَ من هذه الخليقةِ وليسَ بدمِ تُيُوسٍ وعجولٍ بَلْ بدمِ نفسِهِ دَخَلَ الأقْداسَ مرَّة واحدةً فوَجَدَ فِداءً أبَديّا. لأنَّهُ إنْ كانَ دَمُ ثيرانٍ وتيوسٍ ورَمادُ عِجلةٍ يُرَشُّ على المُنجَّسينَ فيُقَدِّسُهُمْ لتطهيرِ الجسدِ، فكَمْ بالأحرى دَمُ المسيح الذي بالرُّوح الأزَليِّ قَرَّبَ نفسَهُ للهِ بلا عيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائرَكُم منَ الأعْمالِ الميتة لِتعْبُدُوا اللهَ الحيَّ.

 

الإنجيل

 

فصل شريف من بشارة القديس مرقس

(مرقس 10: 32–45 )

 

في ذلك الزمان، أخَذَ يسوعُ تلاميذَهُ الإثْنَي عَشَرَ وابْتَدَأ يَقولُ لَهُم ما سيَعْرُضُ لَهُ: هُوذا نَحْنُ صاعِدونَ إلى أورَشليمَ، وابنُ البَشَرِ سَيُسَلَّمُ إلى رؤساء الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ فَيْحكُمونَ عَلَيْهِ بِالموْتِ وَيُسَلِّمونَهُ إلى الأمَم . فَيَهْزَأونَ بِهِ ويَبْصُقونَ عَلَيْهِ وَيَجْلدونَهُ وَيَقْتُلونَهُ وفي اليَوْمِ الثالثِ يَقومُ. فَدَنا إليْهِ يَعْقوبُ ويَوحَنّا ابنا زَبَدى قائلينَ: يا مُعَلِّمُ نريدُ أنْ تَصْنَعَ لَنا مَهْما طَلَبنا. فَقالَ لهُما: ماذا تُريدانِ أنْ أصْنَعَ لَكُما. قالا لَهُ: أعْطِنا أنْ يَجْلِسَ أحَدُنا عَنْ يميِنكَ والآخرُ عَنْ يساركَ في مَجدِكَ. فقالَ لَهُما يسوعُ: إنَّكُما لا تَعْلَمان ما تَطْلُبان. أتستطيعانِ أنْ تشرَبا الكأسَ التي أشرَبُها أنا وأنْ تَصْطَبِغا بالصبْغَةِ التي أصْطَبِعُ بِها أنا. فقالا لَهُ نَسْتَطيع. فقالَ لَهُما يسوعُ: أمَّا الكأسُ التي أشْرَبُها فَتَشْرَبانِها وبِالصبْغةِ التي أصْطَبِغُ بِها فَتَصْطَبِغان. أمَّا جُلوسُكما عَنْ يميني وَعَن يَساري فَلَيسَ لي أنْ أعْطِيَهُ إلاّ للذينَ أُعِدَّ لَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ العَشرَةُ ابْتدَأوا يَغضَبونَ على يعقوبَ ويوحنا. فدَعاهُم يسوعُ وقالَ لَهُم قدْ عَلِمْتُمْ أنَّ الذينَ يُحْسَبونَ رُؤَساءَ الأمَم يَسودونَهَم وَعُظماءَهُم يَتَسلَّطون عَليْهم. وأمَّا أنْتُمْ فَلا يَكونُ فيكمْ هكذا ولكِنْ مَنْ أرادَ أن يكونَ فيكم كبيراً فليَكُنْ لَكُمْ خادِماً وَمَن أراد أن يكونَ فيكمْ أوَّلَ فَلْيَكُنْ للجميع عَبْداً. فإن ابنَ البَشَرِ لَمْ يَأتِ ليُخْدَمَ بَل ليَخْدُمَ وليبذل نفسَهُ فِداءً عَنْ كثيرين.

 

بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين.

 

الصوم مسيرة توبة استعداداً للفصح. ومسيرة التوبة هذه التي تنطلق مستمدّة زخماً واندفاعاً من الجوّ الصياميّ وما يتضمنّه من صلوات خشوعيّة، وأهمّها صلاة النوم الكبرى، وصلاة القدّيس إفرام "أيها الربّ وسيّد حياتي..."، و"قانون التوبة" أو "القانون الكبير" للقديس أنداروس الدمشقيّ أسقف كريت، الذي يُتلى، في الأديرة وبعض الرعايا، في الأسبوع الأوّل على أربع دفعات، ليمنح الصائم اندفاعة قوّية في بداية مسيرته. ثم يُتلى "قانون التوبة" ثانية، بأجزائه الأربعة معًا، في الخميس الخامس من الصوم، كخلاصة للتوبة وتعبير عن بلوغ ذروة من ذرى التوبة والانسحاق أمام الله.

 

يقول الأب الكسندر شميمن: "إن كنّا في البدء قد أصغينا "لقانون التوبة" مجرّد إصغاء، فقد أصبحت كلماته، الآن، كلماتنا، كما أصبح نحيبنا وأملنا وتوبتنا وتقييمنا لجهادنا الصيامي".

 

يلوح الآن على مرمى النظر الفصح المقدس وعيوننا ترقب هذا الحدث، حدث قيامة مخلصنا يسوع المسيح منهضًا أيانا من سباتنا العميق الذي أبتعدنا نحن بمحض أرادتنا عن نعمة المخلص غيرمبالين عما يدور من حولنا في كل جانب من جوانب حياتنا.

 

وأما المقطع الإنجيلي لهذا الأحد المبارك الخامس من الصوم فيدور أيضا عن تنبؤات يسوع المسيح عن الآمه الخلاصية. أخذ يُعدّهم بهذه الأحدات التي ستحصل، من تسليم ومحاكمة وبصاق وجلد وموت وقيامة، والتحدث عن الطريق الصعب والمليء بالألم، أخذ بعض التلاميذ يطلبون الجلوس عن يمينه أو يساره في مرقس 10: 37). فيوحنا ويعقوب ابنا زبدى طلبا أن يحصلا على المجد والمكانة الرفيعة لا الناتجتين عن نعمة الله بواسطة الألم والجهاد الشخصي بل بواسطة المسيح عندما يجلس في مجده.

 

هنا يتضح عدم قدرة التلاميذ على فهم المسيح، ولم تكن هذه المرة الوحيدة، ففي الكتاب المقدس هناك حوادث تؤكد ذلك، كأن يطلب التلاميذ الأولوية أو يطلبون أن يدفنون موتاهم قبل اللحاق بالمسيح أو يتساءلون متعجّبين لماذا لا يستطيعون فعل العجائب…الخ.

 

ويضيف السيد له المجد: "أنَّ الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وعظماءهم يتسلّطون عليهم. أمّا انتم فلا يكون فيكم هكذا." التعابير المستعملة في النصّ الإنجيلي لا تعني مجرّد السيادة او السلطة بل تتجاوزهما إلى مستوى استغلال هذه السلطة من قِبل الرؤساء. والسلطة والسيادة ليست حكرًا على زعماء الأمم أو رؤسائها.

 

فلنقارن هذه الآية عما يحدث وخاصة البيت المسيحي ولا أتكلم بشكل عام بل عما يدور في الأفق القريب منا.

 

فالأب أو الأم، الزوج في البيت قد يستغلّ موقعه ليطغى على الآخر، الأخ الأكبر، مدير العمل، العامل المسؤول عن الذين دونه، أسقفًا، كاهنًا، أفرادًا كنّا أو مؤسسات وجمعيات...إلخ  في كلّ مضمارٍ يتعرّض المرء أن يكون ذا سلطةٍ أو تحت السيادة. وفي كلِّ موقع يتخذه الإنسان معرَّضٌ أن يستغلَّ سلطته لأغراضٍ شخصيّةٍ تهدف أولاً واخيرًا لتغذية مجده الباطل.

 

ما يعلمنا إياه الرّب اليوم، كمسيحيين، إنَّ الرئاسة قبل كلِّ شيءٍ هي خدمة وتواضع. لم يعلِّم الرّبّ إلا ما مارسه بين الناس، لم يتكلّم كباقي المعلمين بل "تكلّم كمن له السلطان وحتى الأرواح كانت تطيعه" ولكنه في الوقت عينه" أخلى ذاته آخذًا صورة عبدٍ " وقَبل طوعًا أن "ابن البشر سيُسلَم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم، فيهزأون به ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه "حبًّا بالبشر كلِّهم دون استثناء.

 

ولكن من نظرة عابرة نجد أن السيد أراد ان يقول لتلاميذه، لمسيحيي اليوم، إن استغلال السلطة ليس وحده غير مرغوب فيه بل حتى استعمال السلطة القانونيّة عند المسيحيين هو أيضًا كذلك، لأن عظمتي كإنسانٍ مسيحي لا تكمن في قوّتي بل بتواضعي وبمقدار خدمتي ومحبتي للآخرين وأن أتمم خدمة البشارة على مثال النهج الذي سلكه ربنا بأن "أَخدُم لا أن أُخدَم"، وأن أبذل نفسي طوعًا وبفرحٍ، كما هو "بذل نفسه فداءً عن كثيرين".

 

وهنا أوجه حديث إلى جميع الخدام الذين يخدمون هياكل الرب وبيشرون بالكلمة عليهم أن لا يطلبوا المجد والمديح. فالمجد الحقيقي يُكتسب من خلال الصليب والشهادة ولا يظن أحد منكم أن الشهادة نفسها تعطي صاحبها الحقّ بالمطالبة بمركز في ملكوت الله فذاك من شأن ربِّك الذي يراك. وإنما نحن عبيدٌ بطّالون.

 

سيرة حياة القديسة مريم المصرية

 

أصلها ونشأتها

 

هي مصريّة الجنسيّة. عاشت في الإسكندريّة، بعد أن تركت والديها وهي في سن الثانية عشرة. أسلمت نفسها للدّعارة. وعاشت حياة إباحيّة عارمة ولم يكن ذلك ابتغاءً للربح، بل عشقاً للفجور. عاشت على الحسنات، وكانت تستعطي، وأحياناً تعمل في غزل الكتّان. كانت ذات رغبة جامحةٍ وشوقٍ لا يكبح للتمرّغ في النجاسة.

 

ابتغاء الفجور في أورشليم

 

ابتغاء امتلاك عشّاق جدد، وإرضاءً للشّهوة، هاجرت مريم إلى أورشليم، مع مجموعةٍ من الحجّاج الذاهبين إلى أورشليم لرفع الصليب المحيي. وفي أثناء الرحلة، أغوت الكثير من الشباب والرجال، فكانوا ضحيّة نجاستها. ولمّا حلَّ اليوم المقدَّس لرفع الصليب، وفيما كانت مريم ناشطة في اصطياد الشبّان، لاحظت أن الجميع يتسارعون إلى الكنيسة فانضمّت إليهم. فلمّا دنت ساعة رفع الصليب المقدّس حاولت أن تشقّ طريقها عبر أبواب الكنيسة إلى الداخل كبقيّة الناس. وبصعوبة تمكّنت من حشر نفسها بينهم حيث كادت أن تبلغ مدخل الكنيسة من حيث كان عود الصليب المحيي يبان للعيون. لكن ما إن وطئت عتبة الباب حتّى شعرت بقوّة حالت دون دخولها. الكلّ كانوا يدخلون إلا هي. حاولت الدخول من جديد لكن عبثاً. بدت غير مرغوب فيها.

 

معرفتها لخطيئتها وتوبتها

 

بعد عدّة محاولات، لم تجد مريم طريقاً يوصلها إلى الدّاخل، فوقفت في إحدى زوايا الرواق. فقط، إذ ذاك، وبصعوبة فائقة، فطنت إلى السبب الذي حال دون السّماح لها برؤية الصليب المحيي. فقد لمست كلمة الخلاص، برفق، عينيّ قلبها وكشفت لها أنّ حياتها الدنسة هي التي منعتها من الدخول. أخذت تبكي وتنتحب وتتنهَّد من أعماق قلبها. وإذ رفعت رأسها قليلاً، وقع نظرها على أيقونة والدة الإله الكليّة القداسة، فتحوّلت إليها قائلةً: "أيّتها السّيّدة، والدة الإله، يا من ولدت بالجسد الإله الكلمة، أنا أعرف، وأعرف جيّداً، إنّه لا يشرِّفك أن يرفع إنسان فاسد، عينيه إلى أيقونتك، يا دائمة البتوليّة، يا من حَفِظَتْ جسدها ونفسها نقيّين. إنّي لَعَنْ حقّ أقرف من نفسي تجاه نقاوتك العذراويّة. لكنّي سمعت أنّ الله الذي ولد منك. إنّما تجسّد ليدعو الخطأة إلى التّوبة. فساعديني، إذاً، فلا معين لي سواك. مُري أن ينفتح مدخل الكنيسة أمامي. إسمحي لي أن أعاين العود الكريم الذي عليه تألّم بالجسد من ولد منك وبذل دمه المقدّس لافتداء الخطأة وإيّاي أنا غير المستحقّة. إشهدي عليّ إنّي لن أُنجِّس جسدي، بعد اليوم، بدنس الدّعارة، بل حالما اسجد لعود الصليب سأنبذ العالم وتجارب العالم وأتوجّه إلى حيث تقوديني". هكذا خاطبت مريم والدة الإله، واتّجهت من جديد للدّخول إلى الكنيسة، فتقدّمت إلى الأبواب التي لم تتمكّن من بلوغها قبل ذلك. دخلت دون صعوبة. عاينت العود المحيي وألقت بنفسها على الأرض وسجدت وقبّلته. بعدها اتّجهت نحو أيقونة والدة الإله وخاطبتها قائلة: "أيّتها السّيّدة الودودة، لقد أظهرتِ لي محبّتك العظيمة. فالمجد لله الذي يقتبل بك توبة الخطأة. ماذا بإمكاني أن أتفوَّه بأكثر من هذا، أنا الغارقة في الخطيئة؟ لقد حان، يا سيّدتي، أن أُتمّم نذري كما وعدت. فقوديني على درب التّوبة". على أثر ذلك سمعت صوتاً من السّماء يقول لها: "إذا عبرت الأُردنّ تجدين راحةً مجيدةً".

 

إلى برّيَّة الأُردنّ

 

بعد ذلك تركت رواق الكنيسة في أورشليم وذهبت إلى كنيسة السّابق يوحنّا المعمدان التي على الأردنّ. هناك، تناولت القربان المقدَّس، ومن ثمَّ انطلقت إلى البرّيّة لتقضي بقيّة حياتها. بعد ذلك أسلمت مشيئتها للسّيّدة العذراء التي كانت تقودها وتقوّيها في كلّ خطوة تخطوها.

 

جهادها ونسكها

 

طوال حياة قدّيسة الله في البرّيّة، كانت تحارب الرغبات والأهواء. فما صادفته وعاشته خلال حياتها قبل التوبة، كان تجاهها، شهوة أطعمة اللحم والسّمك، الأغاني البذيئة التي تغنّيها، الفجور وسهرات الشبّان. كلّ هذه لم تكن تفارقها لولا جهادها واستعانتها بالعذراء والدة الإله التي عاهدتها على عدم الرجوع إلى الفجور والسّير في طريق التوبةٍ الصالحةٍ. كانت تقتات من بعض البقول الذي قلَّما كانت تجده في البرّيّة، وشرابها القليل من الماء. أمّا لباسها فالعراء. إذ لم يكن لديها ما تلبسه. كانت الشمس تحرقها في النهار، والبرد يهلكها في الليل إلى أن صارت بشرتها سوداء داكنة من كثرة الحرّ والبرد. نعمة الله معها.

 

التّوبة الصّادقة والجهاد الدؤوب

 

لا بدَّ أن يتكلّلا بالمجد الإلهيّ. هذا ما نالته قدّيسة الله بعد سنين جهادها الطوال. فقد ظلّلتها نعمة الله وسكنها الرّوح القدس. فعُلِّمت الكتاب المقدَّس، لأنّ كلمة الله الحيّة الفاعلة تعلّم الإنسان العلم من ذاتها.