موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٦ مارس / آذار ٢٠٢٠
طرق المناولة المقدسة... بين التقليدين الشرقي والغربي
مهما تنوعت طريقة مناولتنا يبقى جسد ودم المسيح واحدًا ليجمعنا
الأب سليمان شوباش، راعي كنيسة القديس جورج الشهيد، اربد (الأردن)

الأب سليمان شوباش، راعي كنيسة القديس جورج الشهيد، اربد (الأردن)

الأب سليمان شوباش :

 

الأخوة والأخوات الأعزاء في المسيح،

 

عقب إعلان سيادة الـمدبر الرسولي عن الإجراءات الجديدة في الكنائس، توالت ردود أفعال بعض المؤمنين حول موضوع إعطاء المناولة المقدسة داخل القداس الإلهي، فشعرت بأن المناسبة مؤآتية للتكلم والتعمق في هذا الموضوع المهم والعزيز على قلب كل مؤمن مسيحي، سرّ القربان الأقدس، سرّ الحب الإلهي خبز الملائكة. وأضيف على ما كتبه الشماس العزيز فراس عبدربه سابقًا.

 

الخلاصة: الطريقة الأصلية في حياة الكنيسة كانت المناولة باليد (مِن يد الكاهن ليد المُتناول) لا بالفم ولا بالمعلقة.

 

وفيما يلي التأكيد باختصار من عدة جوانب:

 

1. يسوع المسيح: نستدل من جميع المعجزات التحضيرية (قبل العشاء الأخير) لسرّ الإفخارستيا والتي كان يقوم بها يسوع عند تكثير الخبز، أن التلاميذ كان يأخذون مِن يسوع الخبز او السمك بعد الصلاة عليه وتكثيره، ليقوموا بتوزيعه على الجموع، وليجمعوا في النهاية الفائض منه في سلال، مثلا في مرقس6/41: "فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع عينيه نحو السماء، وبارك وكسر الأرغفة، ثم جعل يناولها التلاميذ ليقدموها للناس، وقسم السمكتين عليهم جميعًا" (راجع أيضًا لوقا 9/16، متى15/36). ونقرأ في العشاء الأخير (متى 26/26): "وبينما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزا وبارك ثم كسره وناوله تلاميذه... ثم أخذ كأسا وشكر وناولهم إياها قائلا: "اشربوا منها كلكم..." (راجع أيضًا مرقس 14:22 و23، لوقا 22:19-21). ومن كل ما سبق، نستنتج أن يسوع المسيح كان دائمًا يُعطي الخُبز كِسرًا أو السَمك قطعًا أو الكأس  كاملة لتدور على التلاميذ، وهم بدورهم يُعطونهم للناس بأيديهم ليأكلوا ويشروبوا. فهل فهم وتذكّر التلاميذ ذلك؟

 

2. التلاميذ الأوائل: نعم فهم التلاميذ الأثنا عشر وصية يسوع المسيح في سر الإفخارستيا واتبّعوا طريقته نفسها في الصلاة على الخبز والخمر وتقسيمه على المؤمنين، لذلك نقرأ في سفر اعمال الرسل 2/42: "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات". حتى ان القديس بولس نفسه يقول في الرسالة لأهل غلاطية (فصل 1 و2) انه عندما أراد أن يتعرَّف على المسيح ويقوم بالإفخارستيا، عاد للرسل الأولين "أعمدة الكنيسة" ليستشير ويتعلَّم مِن "الذين اختارهم الرب" وأنه في الرسالة الأولى لأهل قورنتس ينقل لنا ما تلقاه منهم فيقول في 10/16: "أليست كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟".

 

3. التقليد الكنسي: استمرت طريقة المناولة وانتشرت عن طريق اليد في جميع الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية حتى داخل كنيسة القيامة، كما نقرأ في شهادة العديد من السوّاح والقديسين، الذين عاشوا او زاروا الأرض المقدسة. ولعل أهمهم هو القديس الأرثوذكسي كيرلس الأورشليمي (عاش 315م وحتى 386م)أثناء شرحه للمُقبلين على العُماد عن الطريقة الصحيحة في التناول المقدس قائلاً: "عندما تقترب (من المناولة) لا تُقدّم راحتيك بيد ممدودة، ولا أصابعًا غير مجتمعات، ولكن اعمل من يدك اليسرى عرشًا ليدك اليمنى، لأنها ستستقبل الملك، وفي بطن اليد خُذ جسد المسيح وقل: "آميــن" بعناية وانتباه" ويقول ايضاً في شأن التناول من الكأس المقدس:"إلتقط بيديك رطوبة دم الربّ مِن شفتيك وقدّس بها عينيك وجبينك وحواسّك كلّها".

 

والسؤال المهم هنا لماذا لم يتكلم هذا القديس هنا عن المعلقة او عن التناول بالفم؟

 

4. حياة المؤمنين بين الشرق والغرب: تؤمن الكنيستان الشقيقتان الرسوليتان الكاثوليكية والأرثوذكسية، أن يسوع المسيح نفسه حاضراً بجوهره وبكليته تحت أعراض او شكل الخبز كما في الخمر. وأن حضور يسوع المسيح فيهما هو موضوع لاهوتي عقائدي لا يقبل الجدل او التشكيك. أي ان يسوع حاضر بكليته في الجسد لوحده وحاضر بكليته في الدم لوحده. فمن وجهة نظر إيمانية منطقية، إذا تناول المؤمن جسد المسيح فقط، او دمه فقط او كلاهما معاً فقد نال المسيح كاملاً وشارك في الذبيحة الإفخارسيتة. والكنيسة واعية لأنها رفيقة المؤمن في حياته ودورها الأساس هو أن تساعده على الصلاة وتُدافع عن ايمانه، فالكنيسة الحيّة تندمج مع واقع المؤمن ولغته وعادات بلده، لتصبح جزءاً منه وفيه وليس إحتلالاً أجنبياً عليه. فكل كنيسة بجانب حرصها في المحافظة على تقاليدها الأصلية تقبل بكل فرح جميع أشكال المـُـثاقفة inculturation والتنوع diversity  في طريقة الصلاة واللغة واللبس والألحان...الخ بشرط ألا يخدش هذا التطور جوهر الإيمان والعقيدة.

 

في الكنيسة الأرثوذكسية بقي التناول على حسب الوصف السابق، يتم بأخذ الجسد باليد والرشف مباشرة من الكأس المقدسة. ونقرأ ان المجمع المسكوني السادس أو بمجمع "ترولّو" الذي عُقد في القسطنطينية سنة 680م –قبل الإنشقاق-، حَظر ومنع إستخدام أي اداة معدنية لتقديم المناولة للمؤمنين وأصرّ على أن يأخذ كل مؤمن الجسد والدم بيديه. إلا أن القديس يوحنا الذهبي الفم الواعظ واللاهوتي ورئيس أساقفة القسطنطينية347–407 م كان بدافع أيماني ورعوي قد بدأ قبل ذلك بالمناولة عن طريق المعلقة خوفاً من سرقة الناس لجسد الرب وتدنيسه او استعماله في السحر. فشبَّه هذه الطريقة بالملقط المذكور في أشعيا 6/6. واستمر هذا التقليد بالإنتشار في الكنيسة الارثوذكسية بشكل بطيء حتى عُمم إلى يومنا هذا.

 

أما في الكنيسة الكاثوليكية فقد أستمر التناول المـُباشر تحت الشكليين وألتزم البابوات بقرارات المجامع وأصدروا التعليمات بخصوص التناول ونوع الطحين والنبيذ المـُستخدمين، وحتى حددوا المادة التي يجب ان تُصنع منها الأواني المقدسة وماذا يجب ان يُكتب او يرسم عليها (نذكر خصوصاً مجمع تريبور سنة 895م وجهود القديس بندكتوس ابو الرهبان 480-547م والبابا ليون الرابع 874-855م في هذا الشأن). وفي نهاية القرن الحادي عشر مع البابا باسكال الثاني وبسبب قلة توفر كميات كبيرة من النبيذ في بعض المناطق في شمال اوروبا والظروف الجوية القاسية التي كانت تُقلِّل من محصول العنب، حُصر التناول مِن الكأس المقدسة على الكهنة وحدهم. وأنتشرت لاحقاً هذه الممارسة في كل اوروبا إبان الطاعون الأسود الذي استفحل بين عامي 1347 و1352م إلى أن أصبح "شبه قانون" داخل الكنيسة، فثبته البابا مرتينوس الخامس في مجمع كونستانس (المسكوني 16) سنة 1415م واكد مِن جديد على حضور جسد ودم المسيح الحقيقي في شكل الخبز وكليهما في شكل الخمر. وبسبب الطبيعة الليتورجية التقوية للطقس اللاتيني المـُستمدة من صلاة الرهبان والنُساك، فقد أنتشر بين المسيحيين حسّ تقوي كبير جعل العديد من التعبدات الخاصة الجديدة تدخل بعمق في ايمانهم مثل صلاة المسبحة والماء المقدس والركوع ودرب الصليب وحتى طَلبْ المؤمنون من الكهنة بالتناول مُباشرة مِن يدهم شعوراً برهبة وقدسية جسد المسيح، تماماً كما حدث مع القديس بطرس إبان غسل الأرجل في يوحنا 13/6-8 واصبحت منذ ذلك الحين تؤخذ المناولة  بالفم فقط ودون لمس المؤمن لها. وبعد المجمع الفاتيكاني الثاني 1962م وفي قرارات البابا بولس السادس سنة 1969 وخصوصًا في تعليمات مجمع العقيدة Memoriale Domini قررت الكنيسة الكاثوليكية التمسك بالطريقة المعمول بها حاليًا والتأكيد على عدم الإنتقاص مِن كرامة طريقة سيدنا يسوع المسيح والكنيسة الأولى، وأعطت الحرية للأساقفة المحليين في الإختيار بين الطريقتين كلٌّ حسب وضع بلده وثقافة شعبه وظروفه الرعوية وأعطت للكهنة كُلٌ حسب فطنته بحرية الإختيار بين مناولة المؤمنين تحت الشكلين او تحت شكل الخبز لوحده.

 

في النهاية، مهما تنوعت طريقة مناولتنا يبقى جسد ودم المسيح واحدا ليجمعنا. نحن نرى العالم يتخبط على اعتاب فايروس الكورونا والمرض والحروب والظلم، فلنُذكر بأن جسد المسيح ودمه نعم يُطهران الإنسان من امراضه الجسدية والروحية قَبل ان يُطهرا الذهب او المعدن الذي يوضعان فيه. والإنسان نعم يُشفى بفضل أيمانه ونعمة الرب ولكن ليست هذه دائماً مشيئة الله. ولنا في شهادة العديد من القديسين والأبرار وهم على سرير المرض مثل القديسين شربل ورفقة وتريزا الطفل يسوع...الخ والعديد مِن المرضى اليوم الذين يتناولون دون أن يُشفوا! أذلك لعلةٍ في القربان؟ لا ولكن كل شيء يَعمل لخير الذين يُحبون الله وبحسب ارادته القدوسة. فالإنسان المخلوق على صورة الله أغلى وأحق بالتطهير بأشواط كثيرة مِن أي معلقة او كأس او معدن. والحيطة والحذر طلبها يسوع منّا لنكون فطنين كالحيات، وأن لا نُجربنَّ الرب إلهنا،واضعين أيدينا بالنار مُصلين ألا تنحرق. فأذا كانت اجسادنا هي هياكل وكنائس للروح القدس، فعلينا ان نسهر على عنايتها بإعتدال وفطنة. وبدل ان ننتقد الكنيسة ورجالها في تغيير طريقة المناولة، كان الأولى بنا أن نشكرها على فطنتها وسهرها على سلامة ابنائها. ونشكر الله على الفرصة التي اعطتنا أياها لكي نحمل جسد الرب في ايدينا كما حملته أمنا مريم العذراء، مُتذكرين كلام القديس بولس في أن جميع أعضاء الجسد متساوية في الكرامة والقدسية، فيد او لسان المؤمن لا يُنجِّسان بل يتباركان من القربان المقدس الذي يُبارك كل جسدنا وروحنا عند قبوله عن إستحقاق. ولنذكر أنه مهما اختلفت تقاليدنا وطُرق صلاتنا ومناولتنا، فإيماننا واحد بالمسيح الواحد الذي يجمعنا، مُصلين مِن أجل الصحة والشفاء والحماية للجميع. امين