موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
أشخين ديمرجيان تكتب: لا تحكم على ظاهر الأمور

أشخين ديمرجيان :

 

على ذمّة الراوي يقال أنّ لوحة الموناليزا الشهيرة (أو الجوكوندا) يقال أنّها لسيّدة تدعى مادونا ليزا، أي السيّدة ليزا، ومنها استوحى الفنان الإيطالي الشهير "ليوناردو دافينشي" اسم لوحته. والسيدة ليزا هي زوجة التاجر "فرانشيسكو جوكوندو" صديق دافينشي والذي طلب منه رسم اللوحة إكرامًا لزوجته ليزا عام 1503. لقد انتهى دافينشي من رسم اللوحة عام 1510، وأخذها إلى فرنسا عام 1516. واللوحة معروضة حاليًّا في متحف "اللوفر" في باريس.

 

ممّا يميّز لوحة الموناليزا نظرة العينين والابتسامة الغامضة التي اختلف النقاد في تفسيرها. إلاّ أنّ الفنان دافينشي قدّم في هذه اللوحة تقنيات مبتكرة في الرسم لم تكن معروفة قبل عرض اللوحة. كان دافينشي أوّل من قدّم مبدأ الرسم المجسّم. وتُعدّ تقنية ثوريّة في ذلك الوقت. كما قدم تقنية الرسم المموّه، حيث تتداخل الألوان بصورة غير واضحة لتشكّل الملامح مع عدم وجود خطوط محدّدة لها. وحاكاه فورًا بعض كبار الرسامين الإيطاليين المعاصرين مثل رافائيلله وغيره. وهذه التقنيات سائدة في الرسم إلى أيّامنا. كان دافينشي عبقري عصر النهضة يؤكّد أنّ الطبيعة والتأمل فيها هما الرحم الذي تتولّد منه الفنون.

 

قبل قرن من الزمان، وتحديدًا في عام 1911، صُدِم محبّو الفنون الجميلة صدمة قوية لدى اختفاء اللوحة العالميّة الشهيرة "موناليزا" من متحف "اللوفر" في باريس. ورغم الاحتياطات التي اتّخذت آنذاك للحفاظ على تلك اللوحة الثمينة، تمكّن اللص من سرقة اللوحة بكلّ سهولة وكأنّ شيئاً لم يكن.

 

سنة 1913 أي بعد مرور سنتين على حادثة السرقة، استُدعي الفنان الإيطالي "ألفريدو جيري" المتخصّص في الشؤون الفنّيّة في فلورنسا إلى فندق متواضع، إلى غرفة رجل فرنسي طريح الفراش ذو وجه شاحب هزيل. وكشف هذا الرجل المريض عن اللوحة المسروقة. وكان يبكي بمرارة نادمًا على سرقته إذ بكّته ضميره بشدّة على جريمته النكراء. وأردف السارق بقوله: "سيّدي أرجو أن تأخذ اللوحة المسروقة كي تعود بها إلى مكانها الطبيعي في المتحف. لا أستطيع الاحتفاظ بها بعد اليوم".

 

وتأكّد ألفريدو خبير الفنون أنّها اللوحة الأصليّة فأبلغ السلطات الإيطالية التي قبضت على اللص وأودعت اللوحة في متحف إيطاليّ. وبعد مفاوضات دبلوماسيّة بين إيطاليا وفرنسا تمكّنت الأخيرة من استرجاع اللوحة ومعها السارق ويدعى بيروجي لمحاكمته.

 

سيق السارق بيروجي إلى المحكمة. وكان يوم محاكمته يومًا تاريخيًّا يستحقّ الذكر ولا يُنسى لأنّ الأمر ذو شأن... واعترف السارق بأنّه كان يقوم بترميم بعض اطارات الصور في متحف اللوفر واستطاع أن يسرق الموناليزا ويخفيها لديه. 

 

ثمّ تابع بيروجي قصّته وعزّة نفسه جعلته يكتم دموع الندم أمام الحضور. وذكر أنّ الذي دفعه إلى سرقة اللوحة حبّه لشابّة تدعى"ماتيلدا" والتي توفيت فجأة بعد فترة قصيرة من تعارفهما، وتركته معذبًا مصدومًا بصدمة عاطفيّة قويّة. وأنّه عندما شاهد لوحة الموناليزا في أثناء عمله في المتحف وجد فيها ماتيلدا. وأقسم أنّ ملامح وجه ماتيلدا صورة طبق الأصل لملامح وجه الموناليزا. ولولا فارق الزمن ما بين لوحة الموناليزا وخطيبته، لظنّ بأنّ الفنّان قد رسم ماتيلدا.

 

أخذ السارق يتردّد بكثرة إلى ممرّات المتحف حيث لوحة الموناليزا بحكم عمله، ليشبع نظره بالتطلّع إلى صورة موناليزا الشبيهة بحبيبته المتوفّاة. وفي يوم من الأيام، صمّم على سرقة تلك اللوحة، لا لشيء إلاّ ليضعها أمامه طوال الوقت ويرى فيها صورة خطيبته.

 

ولدى سماع مأساة السارق المريض، والصدمة العاطفيّة القويّة التي ألمّت به وأودت بصحّته وعافيته، تأثر المحلّفون جميعًا فصدر عليه الحكم بالسجن لمدة سنة فقط.

 

إنّ الذكاء البشري يخوننا أحيانًا، في أثناء تخبّط الإنسان وركضه وراء أهدافه الحسنة أو الشريرة، فيتعدّى غالبًا الحدود المعقولة والشرعيّة، ثمّ يتجاوز المنطق والأعراف والقوانين ويدخل عالم الإجرام والاحتيال من غير سبق إصرار وترصّد. 

 

الحرص في أفعالنا واجب مقدّس وكذلك الحكمة كي لا نلغي مصلحة الآخر أو نسلب ما يعود عليه بالخير والنفع، من أجل فوائدنا الشخصيّة أو في اطار ما سوف نحرزه من كسب فرديّ أو اجتماعيّ أو سياسيّ الخ... وكأنّ لسان حالنا يؤيّد المثل القائل: "مصائب قوم عند قوم فوائد"...

 

خاتمة

 

يُدرك الانسان النزيه وجود الله في كلّ مكان وزمان وأنّه تعالى يراه... ويُعينه في التغلّب على ضعفاته... وقد أدرك سارق اللوحة ذلك واعترف بأنّ الهواجس اشتدّت به ليل نهار وخطرت على باله كثير من الأفكار والصور المُرعبة نتيجة عذاب ضميره وقلقه وتخوّفه من أنّ الأمر سينتهي به الى الهلاك الأبديّ... واستبدّ في قلبه السؤال: "ألوحة دافينشي أم الآخرة"؟ اللوحة؟ أم الآخرة الصالحة ببركاتها الربّانيّة وكنوزها السماويّة التي لا تزول الى أبد الآبدين؟ تاب السارق وندم على معصيته وأقرّ بها واختار النصيب الأفضل قبل فوات الآوان، بعد ضياع وحيرة وهمّ وغمّ لا يعلم بها سوى ربّ العالمين.