موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الثلاثاء، ٢٩ يناير / كانون الثاني ٢٠١٣
كنيسة العراق ... تاريخ وتحديات

الأب ألبير هشام - Aleteia :

في صيف 2009، ذهبتُ إلى خارج العراق لأوّل مرّة لاكمال دراستي العليا في إحدى الجامعات الحبرية في روما. وفي الأيام الأولى من الدراسة يحبّ الأساتذة التعرّف إلى طلابهم الجدد الذين يأتون من مختلف بلدان العالم، ويطرحون السؤال التقليدي: "من أيّ بلدٍ أنت؟ من أين تأتي؟"، وكنتُ أزداد فخرًا كلَّ مرّةٍ أجيبُ فيها: "أنا عراقي، من بغداد". ولكنّي غالبًا ما جوبهتُ بعلامات تعجبٍ على وجوه الآخرين لسماعهم أنّ هناك "عراقيًا مسيحيًا"، ليس فحسب، بل كاهنًا أيضًا! وقال لي أحدهم يومًا بمزيد من الاستغراب: "أنت عراقي؟! وهل يوجدُ مسيحيون في العراق؟!"، وآخر: "هل لا زال هناك مسيحيون في العراق؟".

يبدو أنّ كثيرين يجهلون حقيقة دخول المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين في القرن الميلادي الأول، ووجود أقدم كنيسة في الشرق الأوسط "كنيسة كوخي" في جنوب بغداد، واكتشاف العديد من الآثار والقبور المسيحية في مدينة النجف تعود إلى القرون الأولى. يجهلون أيضًا أنّ هناك إلى اليوم مسيحيين في بغداد والموصل والبصرة، رغم جرح الهجرة الذي لا يزال ينزف من قلب العراق، مسيحيين يحاولون عيش إيمانهم الأصيل المتجذر في عمق هذه الأرض، كما يشهدُ لهم أيضًا إخوتهم المسلمون.

دخلتْ المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين في القرن الأوّل بواسطة القديس توما، أحد تلاميذ المسيح، الذي بشّرها وهو في طريقه إلى بلاد الهند، وترك وراءه تلميذين أكملا المسيرة من بعده، كما تروي لنا بعضُ الوثائق التاريخية. وفي القرن الرابع، بعد أن تنظمت الكنيسة في البلاد، شهدَ إيمانُها اضطهادًا عارمًا دام أربعين عامًا، كان سببه اتّهامَ المسيحين، الذين كانوا خاضعين في ذلك الوقت لحكم الامبراطورية الفارسية، بالولاء للامبراطورية الرومانية في الغرب، كما لم يُفهم موقفهم في رفض تقديم السجود للملوك والأمراء، الخ. وحصد الاضطهادُ أرواحَ آلاف الشهداء، ومنهم البطريرك مار شمعون برصباعي الذي سيق للموت، هو وعددٌ كبير من أساقفته وكهنته، واستشهدوا جميعًا يوم جمعة آلام المسيح ذاتها، وتلوّنت ثيابهم بلون دمائهم الزكية.
وعند قدوم الاسلام إلى البلاد في القرن، أعطى المسيحيون مثالاً للتعايش السلمي ولاحترام الاختلافات، وأسهموا اسهامًا واسعًا في تطوّر الحركة العلمية والثقافية، خاصّةً في وقت الخلافة العباسية عندما شُيّدت بغداد وصارت عاصمةً للبلاد. وشكّل المسيحيون حالةً متميزة في تاريخ التفاعل الثقافي في العالم المعروف آنذاك، فجميعُ المصادر التاريخية القديمة والحديثة تعترف بدورهم في هذا المضمار.

تلوّنَ تاريخ كنيستنا عبر الأجيال، وإلى اليوم، بدم الشهداء الذي نفخر به لأنّه تحدّى الموت والاضطهادات ليحمل إلينا الإيمان. وكما انطلق هذا الإيمان في القرون الأولى إلى العالم ووصل حتّى بلاد الصين، لنا رجاء أن يصل اليوم إلى القلوب العطشى لرؤية المسيح، خاصّة وأننا في قلب سنة الإيمان التي أعلنتها الكنيسة بشخص قداسة البابا بندكتس السادس عشر.
رغم الصعوبات والتحديات الداخلية والخارجية التي اجتاحت تاريخها، استمرت كنيسة ما بين النهرين تعطي شهادتها وشهداءها للمسيح وحافظت على صفاتها التي اتسمت بها منذ بدء وجودها: الشمولية، فلم تكن يومًا كنيسةً قومية، بل ضمّت من البداية شعوبًا مختلفة من أعالي ما بين النهرين إلى الصين؛ حافظت على اللغة الآرامية، لغة سيدنا المسيح، ولا زالت تتكلمها؛ أحبّ شعبُها كنيسته والتزم بها رغم الاضطهادات التي شنّها عليها الارهاب في السنوات الأخيرة: تفجير الكنائس؛ تهديد وخطف وقتل الأساقفة والكهنة والمؤمنين؛ تهجير المسيحيين من بيوتهم؛ تجريدهم من هويتهم الوطنية حتّى بدأوا يشعرون بأنّهم مواطنين من درجةٍ ثانية في بلدهم الأمّ.

هذه الاضطهادات وغيرها دفعت أكثر من نصف مسيحيي العراق لمغادرة البلاد بحثًا عن المستقبل والأمان، لا بل بحثًا عمّن يعطيهم قيمةً لوجودهم وهويتهم وتاريخهم. فلا توجدُ رعيةٌ اليوم في بغداد إلا وهاجرها أكثر من نصف مؤمنيها إلى خارج العراق، فتلك الرعية التي كانت تضمّ أكثر من 3000 عائلة، لم يبقَ فيها اليوم سوى 300 عائلة يفكّرون هم أيضًا في المغادرة بأسرع وقت. فالمسيحيون اليوم لا يهاجرون خوفًا من السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، التي وُضِعت أحيانًا أمام أبواب بيوتهم، بل لأنّهم بحاجة إلى من يعطيهم هويتهم في هذه البلاد، فيفهمون رسالتهم في أرض ما بين النهرين.