موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ١٠ يناير / كانون الثاني ٢٠١٦
المعمودية نقطة الانطلاق وعلامة العهد الجديد

الأب رائد أبوساحلية :

 

كان يوحنا يُعمِّدُ في نهر الأردن وكانت معموديته "نقطةَ الانطلاق" في رسالته التحضيرية كسابق للسيد المسيح فقد اعترف غير منكر اعترف قال: "انا أعمدكم بالماء ويأتي بعدي من هو أعظم مني يعمدكم بالروح القدس والنار". وكانت معموديته للتوبة وغفران الخطايا "توبوا فقد اقترب ملكوت الله". كان بإمكان يوحنا أن يبشر فقط ولكنه اختار أن يعمد بالماء أيضاً لأن في ذلك رسالة جديدة بأن المعمودية ستكون علامة العهد الجديد: الايمان، التوبة، الغسل، الولادة الجديدة لا بل الحياة الجديدة بمعنى تجديد الخلق لا بل الخلق من جديد، والعبور من الخطيئة الى النعمة ومن السقوط الى القيام ومن الموت الى الحياة والقيامة.

 

كما أن عماد السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان في نهر الاردن كان "نقطة الانطلاق" للحياة العلنية والتبشير بملكوت الله، والذي تم بحلول الثالوث في المكان والزمان: فالروح يظهر بشكل حمامة والابن يعتمد في الماء وصوت الآب يقول: "هذا ابني الحبيب الذي عنه رضيت" وكأننا أمام سفر التكوين عندما خلق الله السماء والارض وما فيهما حيث كان روح الله "يرفرف على وجه المياه" وكان "كل شيء حسن" وعندما خلق الله الانسان "رأي الله أن كل شيء حسنٌ جداً".. اذن نحن الان نشهد نقطة انطلاق الخلق الجديد لا بل تدشين للعهد الجديد الذي سيقوم الله بفداء البشرية الساقطة في وحلة الخطيئة وغسلها وتنقيتها بماء المعمودية واتمام سر الفداء الذي تم بدم السيد المسيح على الصليب.

 

بالفعل لطالما تكلم السيد المسيح عن المعمودية التي يشتاق لنيلها والكأس التي يتوق لشربها، وهذا ما تم على جبل الجلجلة يوم قدم السيد المسيح ذاته ذبيحة فداء عن البشرية جمعاء، وبلغ به الحب الى اقصى الحدود وبذل نفسه الى آخر قطرة دم، فعندما طعنه الجندي "خرج لوقته دم وماء" ومن هذا الجنب الطعين ولدت الكنيسة وانبثقت ينابيع المياه العذبة والاسراء المقدسة التي سيرتوي منها المؤمنون وينالون الخلاص. وليس من الباب الصدفة الشبه القوي بين المعمودية وسر الفصح وارتباط المعمودية بعيد القيامة اذ انها خلع للإنسان القديم ولبس للإنسان الجديد، موت عن الخطيئة وقيامة لحياة جديدة مع المسيح، عتق من عبودية ابليس لحرية ابناء الله، عبور من عهد الخطيئة الى عهد النعمة.

 

وهكذا أيضا كانت المعمودية "نقطة الانطلاق" للجماعة المسيحية الأولى، سواء معمودية الروح القدس والنار "وستلبسون قوة من العلى" أو معمودية الماء "توبوا وآمنوا واعتمدوا تخلصوا" وهذا ما حدث يوم حلول الروح القدس على التلاميذ في العلية "وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان، فامتلأوا جميعاُ من الروح القدس" وهذا ما بشر به بطرس والتلاميذ "توبوا، وليعتمد كلٌ منكم باسم يسوع المسيح، لغفران خطاياكم، فتنالوا عطية الروح القدس... فالذين قبلوا كلامه اعتمدوا، فانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس". وهذا ما حدث مع الحبشي على يد الشماس فيلبس "بينما هما سائران على الطريق، وصلا إلى ماء، فقال الحبشي: "هذا ماء، فما يمنع أن أعتمد؟" ثم أمر بأن تقف المركبة، ونزلا كلاهما في الماء، أي فيليبس والحبشي، فعمده". وهذا ما حدث مع شاول الذي أصبح بولس على يد حنانيا "فمضى حنانيا، فدخل البيت ووضع يديه عليه وقال: "يا أخي شاول، إن الرب أرسلني، وهو يسوع الذي تراءى لك في الطريق التي قدمت منها، أرسلني لتبصر وتمتلئ من الروح القدس". فتساقط عندئذ من عينيه مثل القشور. فأبصر وقام فاعتمد" (اعمال 9). وهذا ما حدث مع بطرس في يافا عندما عمد قائد المائة كورنيليوس بعد نزول الروح القدس عليه: "أيستطيع أحدٌ أن يمنع هؤلاء من ماء المعمودية وقد نالوا الروح القدس مثلنا؟" ثم أمر أن يُعمدوا باسم يسوع المسيح". (أعمال 10).

 

ومنذ بدء البشارة الانجيلية والى ايامنا هذه يجري ماء المعمودية من جيل الى جيل اذ أصبح هذا السر المقدس "المدخل الى الحياة المسيحية" والعلامة المميزة للجماعة المسيحية، لا بل علامة العهد الجديد، فهو السر الأول من أسرار الكنيسة السبع، وهو الصبغة التي يصطبغ بها المسيحي، فيولد لحياة جديدة في المسيح لا بل يصبح مسيحاً آخر إن جاز التعبير "انتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم".

 

ولكن ليكن معلوما للجميع بأن المعمودية بهذا المعنى ليست فقط "نقطة انطلاق" ولكنها رسالة وشهادة وعلامة ومسؤولية أي "عملية صيرورة" في حركة مستمرة:

 

- رسالة بأن المسيحي هو عضو من أعضاء جسد المسيح السري أي الكنيسة وأنه ابن بالتبني لذلك عليه أن يكون على مستوى هذه البنوة الالهية؛ فالمعمد الممسوح بالزيت يشارك في مهمات السيد المسيح النبوية والملكية والكهنوتية.

 

- وشهادة بمعنى أن يشهد للمسيح بسلوكه وحياته  وتصرفاته ولكن أيضاً أن يستشهد في سبيل المسيح ان اقتضى الأمر لأن المعمودية مرتبطة بالصليب والموت والقيامة أيضاً، فالمسيحي هو شاهدٌ وشهيد.

 

- وعلامة ملموسة وسرية أي علامة خارجية (الماء) تدل على علامة داخلية روحية (الغسل والحياة): الغسل من الخطيئة الأصلية  والولادة لحياة جديدة بالماء والروح القدس والنار فهو مدموغ بختم المسيح لذلك فالمعمودية لا تمحى ولا تتكرر فإنها كالوسم والوشم والختم.

 

- وأخيراً هي مسؤولية عظيمة بأن يحافظ المعمد على وديعة الايمان التي قبلها بالعماد كما نقول له عندما يلبس الثوب الأبيض "ليكن هذا الثوب الابيض رمزاً لمكانتك السامية ولتحافظ عليه نقياً للحياة الابدية" وعندما نعطيه النور "أن تَحفظ هذا النور موقَداً، فَتسلك دوما سلوك أبناء النور وتثبت على الإيمان، إلى أن تخرج وجميع القديسين، للقاء الرب الآتي، في الديار السماوية". وعندما يلمس شفتيه يقول له الكاهن: "ليهب لك الربُّ يسوع، الذي جعل الصُّمَّ يسمعون والبُكم ينطقون، أن تتمكن عاجلاً من سماع كلامه بأذُنَيك، ومن إعلان إيمانك به بفمك، لحَمدِ الله الآب وتمجيده".

 

فعندما نحتفل بعيد عماد الرب نجدد مواعيد عمادنا، وكذلك نفعل ليلة سبت النور قبل عيد القيامة، وذلك لكي نذكر ونتذكر بأن معموديتنا مرتبطة بمعموديته هو الذي بارك المياه التي نعتمد بها، ولكي ننطلق دائما من جديد في طرق الايمان بشجاعة وثبات رغم كل الصعاب كأبناء أحباء وجنود أمناء مخلصين للسيد المسيح.