موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٠
الكنائس الكاثوليكية في مصر معالم ومعاني: كنيسة سانت فاتيما للكلدان الكاثوليك
كنيسة سانت فاتيما للكلدان الكاثوليك بحي مصر الجديدة

كنيسة سانت فاتيما للكلدان الكاثوليك بحي مصر الجديدة

دراسة وتحقيق ناجح سمعـان :

 

في ميدان يعج بالحركة الهادرة بأنفاس البشر وتطلعاتهم، تقع كنيسة سانت فاتيما بحي مصر الجديدة، في العاصمة المصرية القاهرة. تحمل الكنيسة رسالة روحية تخطت حدود الانتماءات المذهبية والدينية، فإكرام العذراء مريم مبدأ يلتف حوله المصريون جميعًا، لذا أضحى المكان مزارًا روحيًا يقصدوه الكثيرون، سألين أطهر نساء العالمين أن تشملهم بمعونتها.

 

التعريف بالكنيسة

 

كنيسة ومزار سانت فاتيما للكلدان الكاثوليك، هي كنيسة تحمل طابع خاص، فمن جهة الرئاسة الدينية هي مقر أبرشية القاهرة للكلدان الكاثوليك بمصر. كما أنها تحمل رسالة روحية فريدة للمجتمع المصري كله، من خلال الإكرام الخاص الذي تقدمه الكنيسة لسيدتنا مريم العذراء، إنطلاقًا من احتضانها لمزار شهير يجسد ظهورات السيدة العذراء بمدينة فاتيما بالبرتغال عام 1917.

الكلدان الكاثوليك في مصر

 

خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر هاجرت عائلات كلدانية كاثوليكية من بلاد العراق وإيران وتركيا واستوطنوا بمصر حتى بلغ تعدادهم 150 أسرة عام 1890، فقام بطريرك بابل للكلدان الكاثوليك حينها بتعيين الخورأسقف بطرس عبد راعيًا للكلدان الكاثوليك بمصر منذ 1891، وتم بناء أول كنيسة لهم باسم القديس انطونيوس الكبير بحي الفجالة. ومع زيادة التواجد للكلدان الكاثوليك بمصر حتى وصلت أعدادهم 1200 نسمة مطلع عام 1950، شرع النائب البطريركي المونسنيور عمانوئيل رسام في بناء كنيسة جديدة لأبناء الكنيسة، فكانت كنيسة سانت فاتيما بحي مصر الجديدة في العاصمة القاهرة.

 

تاريخ الكنيسة

 

منذ عام 1950 بدأ راعي الكلدان الكاثوليك بمصر الخورأسقف عمانوئيل رسام في بناء كنيسة جديدة لأبناء الرعيّة الذين كان معظمهم يقيم في حي مصر الجديدة. وقام بوضع حجر الأساس للكنيسة مثلث الرحمات يوسف السابع غنيمة، بطريرك الكلدان الكاثوليك، في 7 تشرين أول نوفمبر 1951. وقد تم تدشين الكنيسة باسم العذراء سيدة فاتيما في 13 أيار مايو 1953 تزامنًا مع يوم الاحتفال بعيد ظهور السيدة العذراء للأطفال الرعاة في فاتيما بالبرتغال عام 1917. وفي 3 تشرين أول نوفمبر 1953 قام الكاردينال أوجين تيسران بتكريس تمثال العذراء سيدة فاتيما والمهدى للكنيسة خصيصًا من طيب الذكر البابا بيوس الثاني عشر. أخيرًا في 6 نيسان أابريل 1993، منح القديس البابا يوحنا بولس الثاني لكنيسة سانت فاتيما بمصر الجديدة لقب بازيليك، أي كنيسة ملوكية ذات إنعام خاص لخير المؤمنين الروحي، كما أنها مقر للأسقف راعي الأبرشية.

التصميم المعماري

 

الكنيسة مبنية على الطراز البازيليكي الذي يتسم بتعدد المذابح داخله.  يتكون مبنى الكنيسة من جزأين أساسيين هما: المذبح الرئيسي وصحن الكنيسة، ويتميز البناء بارتفاع السقف لاعتماده على الأعمدة ذات التيجان، فضلاً عن انتشار الأقواس في محيطه إلى جانب القبة المضلعة أعلى الهيكل.

 

الكنيسة: الاسم والمعنى

 

يرتبط اسم الكنيسة بحدث ديني هام كانت له أصداء روحية بعيدة على مستوى العالم المسيحي شرقًا وغربًا طيلة القرن العشرين وحتى الآن. فالكنيسة مكرسة على اسم العذراء سيدة فاتيما تيمنًا بحدث ظهورات السيدة العذراء مريم لثلاثة أطفال رعاة بقرية فاتيما بالقرب من العاصة لشبونة في البرتغال عام 1917. وقد تكرر ظهور السيدة العذراء للأطفال ست مرات متتالية حيث دعت السيدة في ظهوراتها العالم إلى ضرورة التوبة والصلاة من أجل الخطأة والملحدين، كما ناشدت والدة الإله المسيحيين إلى تلاوة المسبحة الوردية لإكرام قلبها الطاهر من كلّ دنس، وتكريس روسيا والعالم لقلبها المقدس حتى يعم السلام وتنتهى الحروب والاضطهادات. وأخيرًا أوحت سيدة فاتيما للأطفال لوسيا وفرانسيسكو وجاسنتا بثلاثة أسرار سماوية في شأن حياة الكنيسة ورسالتها في العالم.

المزار

 

أبرز ما يميز الكنيسة هنا عن سائر الكنائس الكاثوليكية بمصر مشهد المزار، هذا المشهد الروحي الخلاب الذي يجسد ظهور مريم العذراء للأطفال الثلاث. يصور المشهد الفريد السيدة العذراء أعلى شجرة صغيرة أشبه بالسنديانة تتزين أوراقها النضرة بورود حمراء. ويعد تمثال السيدة العذراء في وسط المزار هو رابع نسخة أصلية على المستوى العالم من التمثال الأصلي بالبرتغال. وقد أهدى هذا التمثال للكنيسة طيب الذكر البابا بيوس الثاني عشر.

 

تعكس الإضاءة متباينة الدرجات رونق التمثال وجماله حيث السيدة العذراء تتحدث إلى العالم وحول يديها الطاهرتين المسبحة الوردية، وأعلى رأسها المقدسة تاج كبير مذهب، كما يحيط بالتاج هالة من اثني عشر كوكبًا. وفي خلفية البتول حائط من الموازييك أزرق اللون يصور القبة السماوية. وإذا أردت أن تتأمل معنى الخشوع فلتنظر إلى مشهد الأطفال الثلاثة جاثين على الأرض ووجوههم تتطلع إلى نبع القداسة مريم، وقلوبهم مصغية إلى كلماتها المباركة التي تدعوهم إلى تقديس أنفسهم والصلاة من أجل العالم.

حنية الكنيسة

 

حنية الكنيسة، أو الشرقية، تشير إلى حضن الآب السماوي، وتأخذ شكل نصف الدائرة وتضم في أعماقها قدس الأقداس، حيث المذبح الرئيسي. وفي مركز الحنية يوجد بيت القربان الأقدس. يتوسط الحنية في حضن الهيكل صلاة باللغة الكلدانية مكتوبة باللون الذهبي، وفي إطار أزرق اللون، مأخوذة عن كتاب القداس تقول: "على المذبح المقدس يذكر اسم مريم أم الله".

 

المذبح الرئيسي

 

بالكنيسة أربعة مذابح، يقع المذبح الرئيسي عند الهيكل، وهو مائدة من الرخام الأبيض مستطيلة الشكل، ويعلو المذبح صليب ذهبي وتوضع الأواني المقدسة على المذبح عند صلاة القداس. على حائط المذبح لوحة فنية لحمل صغير يحيط به صليبان إلى جانب عناقيد العنب وأغصان الكروم تعبيرًا عن سر الافخارستيا جسد الرب ودمه.

 

المذابح الجانبية

 

يتميز التصميم البازيليكي في عمارة الكنائس بتعدد المذابح في صحن الكنيسة، وبكنيسة سانت فاتيما إلى جانب المذبح الرئيسي في الهيكل يوجد ثلاثة مذابح أخرى جانبية، فمن ناحية اليمين يقع مذبح قلب يسوع الأقدس، وعلى الجانب الآخر مذبح القديس يوسف البتول، ومذبح العماد المقدس.

بيت القربان

 

يحفظ القربان الأقدس فى بيت القربان، وهو صندوق من الخشب الفاخر مدهون باللون البني ومنقوش على بابه رسم الكأس والقربانة. يوضع بيت القربان على مذبح من الرخام الأبيض له أربعة أعمدة رمادية اللون يربطهما قوس ذهبي، وينتهي المذبح برأس مدببة يعلوها صليب ذهبي كبير بنهايته عنقودين من الكروم. وفي خلفية بيت القربان توجد أيقونة بيزنطية ليسوع المصلوب. ويحرس بيت القربان ملاكان بأيديهما الشموع المضاءة لإعلان حضور الله الدائم في السر المقدس.

 

درب الصليب

 

تنتشر عبادة درب الصليب في سائر طقوس الكنائس الكاثوليكية، والتي تدعو المؤمنين للتأمل في آلام الرب يسوع في رحلة الصليب. ولمراحل درب الصليب الأربعة عشر بكنيسة سانت فاتيما طراز خاص فهي ليست صور عادية بل تحف فنية من بلاط السيراميك تم تصنيعها في لشبونة، عاصمة البرتغال، باللونين الأبيض والأزرق، وقد تم تركيبها في الكنيسة عام 1952 من قبل الشركة البرتغالية المصنعة.

 

النوافذ الزجاجية

 

إذا كان إكرام البتول مريم هو العنوان الأبرز في روحانية كنيسة سانت فاتيما بحي مصر الجديدة، فليس أحب إلى قلوب المكرمين المصريين لمريم من المسبحة الوردية، وهو ما تعبر عنه بقوة الصور المنقوشة على زجاج النوافذ بالكنيسة، والتي تروي أسرار الوردية حيث التأمل في أفراح وأحزان وأمجاد مريم العذراء. والشبابيك الزجاجية المنقوشة بصور الوردية مهداة للكنيسة من شباب الحركة الكاثوليكية في بلجيكا.

السلام الملائكي

 

وإذا كانت الرسومات المنقوشة على زجاج النوافذ تعبر بالصور عن أسرار الوردية التي تكرم العذراء، فللحروف أيضًا موقعها المنفرد في إكرام مريم على جدران الكنيسة، حيث يحمل حائط نهاية الكنيسة لوحتين من السيراميك ذي اللونين الأبيض والأزرق مكتوب عليهما "السلام الملائكي" لمريم العذراء، باللغتين العربية والكلدانية.

 

أدعية الامتنان لشفيعة المكان

 

إن المشهد الروحي الذي يحمله المزار لا تقف أبعاده عند حدود الزمان أو المكان، وهو ما دعا أبناء مصر إلى اللجوء للوالدة الحنون وطلب معونتها القديرة في شدائدهم، فنظرت بحنان إلى احتياجاتهم ولبّت الكثير من طلباتهم، وهو ما تخبرنا به يافطات الشكر والامتنان التي تملأ جدران الكنيسة، ويعبّر خلالها الكثيرون عن شكرهم لمريم العذراء أم البشرية.

 

الأيقونات والصور

 

تضم الكنيسة بين مقتنياتها الثمينة عدد من الأيقونات الجميلة، أولها أيقونة الهيكل، وهي أيقونة بيزنطية تصّور يسوع مصلوبًا وتحت الصليب تقف مريم العذراء ويوحنا الحبيب. كذلك توجد أيقونة بديعة للقديسة ريتا، من الزجاج والموازييك ذات خلفية زرقاء، وتوضع الأيقونة داخل مشكاة من الرخام الأبيض مستطيلة الشكل ذات رأس نصف دائري، وتنتهي المشكاة بقدمين مستطيلتين لكل منها قاعدة مربعة. وفي صحن الكنيسة أيضًا لوحة كبيرة الحجم للقديسة تريزا الطفل يسوع وهي تقدّم باقة ورد للطفل الإلهي الجالس على قدمي أمه العذراء، واللوحة مدهونة بالألوان الطبيعية ومطعمة بقطع من الموزاييك، ويحيط بها إطار ذهبي اللون، وتوضع في مشكاة من الرخام.

صورة عذراء فاتيما

 

بجوار المزار المبارك توجد صورة نادرة للسيدة العذراء سيدة فاتيما ذات إطار خشبي عتيق، والصورة باللونين الأبيض والأسود، عدا قلب مريم والتاج أعلى راسها ملونين باللون الذهبي. تبرز الصورة والدة الإله وبيدها اليمنى المسبحة، فيما اليد اليسرى مفتوحة تدعو العالم إلى الصلاة. والصورة النادرة مهداة من الراهبة الكرملية لوسيا، إحدى الأطفال الثلاثة الذين ظهرت لهم السيدة العذراء في فاتيما بالبرتغال.

 

أيقونة العشاء السري

 

في نهاية صحن الكنيسة توجد أيقونة كبيرة للعشاء السري تصّور تأسيس الرب يسوع لسر الإفخارستيا يوم خميس العهد، ويحيط بجانبي الأيقونة الصليب وقرص الشمس.

 

التماثيل

 

يتزين صحن الكنيسة بتماثيل القديسين، فعلى يسار الهيكل يوجد تمثال القديس انطونيوس البدواني وهو يحمل الطفل يسوع، يقابله تمثال القديس يوسف البتول يحمل الطفل الإلهي على ذراعيه، فيما يحمل الطفل يسوع الكرة الأرضية. وفي نهاية صحن الكنيسة يوجد تمثال القديس جورج (جرجس) الرومانى راكبًا حصانه الأبيض وبيده الحربة التي تقتل التنين، رمز الشر.

 

جرن المعمودية

 

ولأن سر المعمودية هو مدخل الإيمان المسيحي، يقع جرن المعمودية في مقدمة صحن الكنيسة، وهو جرن من الرخام الأبيض مضلع الشكل، وعلى جوانبه الثمانية نقش صليب بيزنطي، وينتهى الجرن بساق من الرخام مخروطية الشكل ذات قاعدة مربعة. وفي خلفية جرن المعمودية توجد صورة من الموزاييك لمعمودية السيد المسيح بنهر الأردن على يد يوحنا المعمدان.

التنوع الطقسي

 

من العلامات الروحية المميزة لكنيسة سانت فاتيما تنوّع الطقوس والصلوات التي تقام على مذبح الكنيسة، وذلك لكونها كنيسة بازيليك، حيث تفتح الكنيسة أبوابها لإقامة القداديس بالطقوس القبطية واللاتينية والكلدانية تحت رعاية راعي الكنيسة والمدبر االبطريركي للكلدان الكاثوليك بمصر.

 

الأنشطة الروحية والاجتماعية

 

إلى جانب الغنى الروحي الناجم عن تنوع الطقوس بكنيسة سانت فاتيما، هناك تنوع أيضًا في الأنشطة الروحية التي تحتضنها الكنيسة، مثل نشاط مدارس الأحد وجنود مريم والقدوة الإلهية وفريق الألحان والكورال. ومن الخدمات الجليلة التي تقدمها الكنيسة للمسيحيين المصريين كافة خدمة رعاية المسنين من خلال دار المسنين المجاور للكنيسة والذي يرعى قرابة أربعين مسنًا ويقوم على خدمتهم راهبات بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشقيقة.

 

المكان الرسالة

 

لقد تجلت أم الله لأطفال فاتيما بالبرتغال منذ ما يقرب من مائة عام، تدعو من خلالهم البشرية إلى الصلاة والسهر من أجل سلام العالم، وهنا بسانت فاتيما في مصر ما زالت أصداء الرسالة المريمية تلف أجواء المكان، يتنسم عبيرها من يتلمس طريقه نحو الخير الروحي. فليس للأفكار الروحية حدود، لأن الروح يهب حيث يشاء، ومن له أذنان للسمع فليسمع.