موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
الجسمي في الفاتيكان.. سفيرا لإمارات التسامح

إميل أمين :

مساء السبت الماضي الخامس عشر من كانون الأول، كانت قاعة البابا بولس السادس في القصر الرسولي بحاضرة الفاتيكان تشهد الحفل الموسيقي السنوي لمناسبة عيد الميلاد، الذي سيعود ريعه هذه المرة لمساعدة اللاجئين في كل من أوغندا والعراق.

منذ العام 1993 تستضيف القاعة المشار إليها الحفل الموسيقي السنوي، ويشارك فيه باقة من الفنانين الإيطاليين والدوليين دون تقاضي أي أجر مادي، ويسعى القائمون عليه إلى التوفيق بين المستوى الفني الراقي والتضامن، كما يرمي إلى نشر رسالة الميلاد الحقيقية، والتصدي للطابع التجاري الذي حول العيد من فرصة عميقة للتأمل في الروحانيات إلى موسم استهلاكي ضمن سياقات المركنتيلية العالمية، حيث كل شيء متاح ومباح للبيع والشراء .

ولعل السؤال: ما الذي أعطى لحفل هذا العام بالنسبة لنا كعرب ومسلمين، شرق أوسطيين وإماراتيين طعما ومذاقا خاصين؟

الجواب يتصل بوجود الفنان الجميل حسين الجسمي ضمن الكورال الذي قدم أغاني وترانيم الميلاد أمام الحبر الأعظم، البابا الروماني الكاثوليكي، وبقية الكوريا الرومانية (حكومة البابا)، كأول فنان عربي ومسلم يشارك في هذا الاحتفال الإيماني والإنساني الكبير .

الجسمي ليس إلا نتاجا وثمرة لإمارات الخير، ولزايد التسامح والمحبة، وهذا ما أشار إليه الفنان الإماراتي عبر تغريدة له قال فيها: "كمسلم إماراتي عربي من أبناء زايد، أفتخر اليوم بوقوفي أمام العالم على خشبة مسرح الفاتيكان، حاملا معي رسالة السلام المتسامحة والمحبة للإنسانية بكل عروقها ودياناتها..".

عرفت الشعوب الفنون كمعابر بينها، ولعبت الموسيقى دورا متقدما في الشراكة الإنسانية، فمقطوعات بيتهوفن وباخ وموتسارات سواء الألحان الدينية أو المدنية منها ليست إلا مظلة يحتمي بها النبل البشري في مواجهة غوائل الظلاميين ودعاة الكراهية والتطرف، وقد أحسن الجسمي حين أشار إلى أن ثقافة الفن كل يوم تؤكد أنها الرسالة الإنسانية النبيلة صانعة جسور التواصل بين البشر مهما كانت لغتها وعرقها ".

وجود الفنان الإماراتي حسين الجسمي في حفل الفاتيكان أمر له دلالات عميقة، لا سيما فيما يختص بالضيف الكبير الذي سيحل عما قريب زائرا لدولة الإمارات العربية المتحدة، وأولى تلك الدلالات هي أننا أمام عالم معولم، وإن امتلأ بالآثام والشرور إلا أن فرص اللقاء وتعظيم الحوار والجوار قائمة فيه شرط توافر النيات الصالحة، والطوايا الطيبة، انطلاقا من أن الإنسانية أمام تحديات مصيرية، فإما أن نقفز عليها معا، وإما أن تبتلعنا جميعا الهاوية .

أمر آخر ربما يهم منطقتنا الشرق أوسطية، والتي كثيرا ما تغلب مساحات الوهم والخرافة على الحقائق والوقائع، يتصل بتصحيح صورة حاضرة الفاتيكان، وهي المغلوطة كثيرا جدا في منطقتنا، ويكفي الباحث العربي أن ينقر على الفأرة للبحث عن تلك الكلمة ليجد مساحات من الأوهام والأكاذيب غير الطبيعية، وجميعها يتناول الفاتيكان كمغارة للشيطان، وأن البابا هو أمير الظلام لهذا العالم، غير أن الاقتراب والنظر بالعين واللمس باليد يتيح للجميع فرصة مغايرة لفهم ماهية وماذا يجري خلف أسوار الفاتيكان بوصفه مركز القيادة الروحية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية حول العالم، والتي بلغ مؤمنوها مؤخرا مليارا وثلاثمئة مليون منتشرين في ست قارات الأرض.

الحفل الموسيقي الذي شارك الفنان الجسمي فيه، ستخصص عائداته لتمويل مشروعين: الأول تنفذه "جمعية دون بوسكو" والتي ستعمل على تحسين الأوضاع الحياتية للنازحين في أوغندا، المشروع الثاني ستنفذه هيئة "سكولاس أوكورينتيس بروجيكت" الساعية إلى توفير التربية لأطفال اللاجئين العراقيين .

أقيم الحفل تحت عنوان "لاجئين"، ومن المعروف للجميع أن قضية اللجوء واللاجئين قد أضحت رقما صعبا في عالمنا المعاصر، ولهذا جاء الحدث الفني يرمي أيضا إلى تسليط الضوء على الأوضاع الصعبة التي يعيشها اللاجئون، لا سيما المقيمين في الدول المجاورة لبلادهم .

تسببت إشكالية اللاجئين في انقسام عميق في الفكر والعقل الأوروبيين، ففيما يذهب فريق إلى أن هؤلاء خطر كبير على أوروبا جغرافيًّا وديموغرافيًّا، بل أكثر من ذلك أنهم يهددون ثقافة أوروبا وجذورها الدينية والثقافية، يحاجج فريق آخر يقف على رأسه البابا فرنسيس متحدثا عن هؤلاء بوصفهم إخوة لنا ومصدر ثراء روحي ومادي لبلاد المهجر .

والشاهد أن الرجل ذا الثوب الأبيض كثيرا ما قرع الأوروبيين اليمينيين الرافضين لمداواة جروح المهانين والمجروحين، الذين ألقت بهم أنواء الحياة على شواطئ أوروبا، بتاريخ الأوروبيين في النصف الأول من القرن العشرين، حين كانوا لاجئين هاربين من جحيم الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ذلك، فقد ظل فرنسيس يذكرهم على الدوام بأن العائلة المقدسة أي السيدة العذراء والسيد المسيح والقديس يوسف إنما هربوا من وجه الملك هيرودس الظالم كلاجئين، واستقروا في أرض مصر فترة من الزمن، يقول بعض المؤرخين إنها وصلت ثلاث سنين وستة أشهر، وعليه ينبغي عليهم أن ينظروا إلى اللاجئين بعين الرحمة والإيمان وتقديم يد العون .

الجسمي سفير الفن والتسامح الإماراتيين كتب عقب الحفل مشيرا إلى أجواء المحبة والسلام، والتسامح بين الأديان والشعوب التي ظللت اللقاء، وقد حمل معه ثقافة إماراتية ضاربة بجذورها في عون الملهوف وسند الضعيف، ثقافة لها دلالة على معنى ومبنى السلام الذي باتت الإمارات عاصمة له، يحمل في عودته إلى بلاده وإلى العالم العربي والإسلامي رؤية البابا للموسيقيين وللفنانين حول العالم، فقد حدثهم الحبر الأعظم عن ضرورة نسج شبكات التعاضد والمساهمة معتبرا أنه "منذ الأزل ظهرت مهمة الكنيسة عبر إبداع الفنانين؛ لأنهم عبر أعمالهم يستطيعون الوصول إلى أوجه الضمير الأكثر حميمية".

حفل الفاتيكان الأخير يفتح الآذان والعقول على مؤسسة يقول حبرها الأعظم: "إن عيد الميلاد مناسبة للتفكير في وضع العديد من الرجال والنساء والأولاد الذين يتنقلون أو يهاجرون هربا من الحروب والبؤس الذي يسببه الظلم الاجتماعي وتغيير المناخ، لكي يترك المرء كل شيء، منزله، وعائلته، ووطنه، لابد من أنه عانى من وضع ضاغط للغاية ".

إنه فاتيكان آخر غير الذي يحدث عنه دعاة التطرف، وعما قريب سيحل خادمه الأكبر ضيفا على دولة التسامح في الحال والاستقبال.. شكرا للجسمي الذي عبر مشاركته فتح العيون والأذهان على الفاتيكان الحقيقي لا المنحول.

(العين الإماراتية)