موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٠
الأب د. ريمون جرجس يكتب من دمشق: الدراما الإنسانية اليوم
الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسيسكاني

الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسيسكاني

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني :

 

إن إله العهد ليس منافسًا للإنسان، بل هو الإله الودود، الذي يكشف ويضمن كرامة الإنسان. هو الإله الذي يحب (1 يوحنا 4:16). الكلمة الإلهيَّة، الَّذي صار جسداً، لم يكشف فقط الكلمة التي تكمن وراء العالم والحياة، ولكن أيضًا مخطط محبة الله الَّذي يسبق العالم ودخله بحرية. و"الإنسان هو الكيان الَّذي إن أحب بحريَّة، يجد نفسه أمام الله الوحي، يكون أمام حالة الاستماع إلى الكلمة أو صمت الله، مدعو إلى أن يُحب بحرية، ويقبل رسالة كلمة أو صمت إله الوحي".

 

يبقى المفهوم الأساسي لـ "صورة الله" الَّذي يُعرّف به الإنسان، في اللاهوت المسيحيّ، هو في الأساس التعبير الكتابي"لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا" (سفر التكوين 1،26 ). فالكتاب المقدس يعلِّمنا أن الإنسان خُلِقَ على "صورة الله"، قادرٌ أن يَعرفَ ويحبَّ خالقَه الذي أقامه سيداً على كلِّ المخلوقات الأرضية ليتسلَّط عليها ويستخدمها ممجِّداً الله". على "صورة لله"، مُنح الإنسان بحكم طبيعته بالإمكانيات أو وظائف محددة تجعله قادرًا على الدخول في علاقة شخصية مع الوقائع المرئية وغير المرئية؛  فهو الكائن الَّذي يتكوّن من الروح والجسد، مبدأن مشتركان لوجوده ووحدته وتظهران طبيعته الإنسانيّة الواحدة: الجسد الماديّ هو جسد بشريّ يحيّ من الروح والروح هي روح بشرية تعطي الحياة للجسد. وبهذه الرؤية المتكاملة للإنسان يستطيع أن يدخل في "حوار" شخصي مع خالقه، من خلال الرد الحر على "العهد" الذي قدمه له الله منذ لحظة خلقه. فالإنسان هو شريك العهد الزوجي، لديه دور مهمّ في العهد الأبدي، بأن يردّ على حبّ بالحبّ. من ناحية أخرى، ليس الإنسان هو الذي صنع الله، لكنَّ الله هو الذي خلق  الإنسان، كذلك، ليس المتناهيّ الذي أوجد اللامتناهيّ، بل اللامتناهي هو الذي أوجد المتناهيّ.

 

وفقا لكلمات القديس يوحنا الإنجيليّ، أتخذ ابن الله جسدا، "الكلمة صار جسدا"، وقلب المسيح اتخذ قلب الإنسان في سرّ التجسد. يقول القديس ترتليانوس: الجسد هو حجر الزاوية للخلاص. إنَّ تعبير "التجسد"، يريد التأكيد على أن الله أصبح إنسانًا باتخاذه جسد الإنسان، وبالتالي فإن عملية التجسد تتوافق مع عملية الإنسانيّة. وهذا يؤكد حقيقة أنَّ يسوع حقّق عمل الخلاص والفداء في الجسد، وأن الناس أصبحوا مبررين بدم المسيح، وأنَّ الكنيسة تبجّل وتكرّم دم المسيح الثمين. فكما لاحظ آباء المجمع الفاتيكانيّ الثَّانيّ، أنَّ سرّ الإنسان يُكشف من منظور الإيمان:"بالحقيقة لا تُلقى الأضواء الحقّة على سرّ الإنسان إلا من خلالِ سرّ الكلمة المتجسد. فآدم الإنسان الأول كان صورةً لذلك الآتي، أي السيد المسيح. فالمسيح، آدم الجديد، يكشف لنا عن سرّ الآب وعن محبتِهِ، ويبيِّنُ للإنسان ما هو عليه بالذات كاشفاً له عن سموّ دعوته".

 

ونحن نعلن، حسب تعليم الكنيسة الكاثوليكيَّة، أنّ الجسد هو كيان الإنسان، يعبّر عن جمال وكمال العمل الإلهيّ. لذا تصبح الحواس والأعضاء رسالة ظهور عمل الروح: البصر يمكن أن يصبح تأملاً، السمع اتحادا تشاركيًا، حاسة الشم رائحة القداسة، تذوق الطعم يكشف عن الروح، واللمس هو ختم هذا الايمان بالتجسد. كتب القديس يوحنا في رسالته الأولى: "ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، لأَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ" (1، 1-2). وهكذا نفهم  ملاحظة المفكر أبراهام هيشل، أنَّ "الكتاب المقدس ليس لاهوتًا عن الإنسان، ولكن أنثروبولوجية الله". وعلى أساس أنَّ  الإنسان خُلق على صورة الله، فهو مدعو لأن يتجاوز الكون المادي الذي هو جزء منه، ويأخذ على محمل الجد إمكانية تغييره، التي تسعى العقلانيّة العلميّة التكنولوجية تقديمه. قال القديس البابا يوحنَّا بولس الثَّانيّ: "لأنّ جعل الإنسان  الله يموت فلن يجد حتى مكابح حاسمة في عدم قتل الإنسان نفسه؛ هذه المكابح الحاسمة هو الله. السبب الأخير كي يحمي الحياة ويحترمها هو في الله، والأساس الأخير للقيّمة والكرامة الإنسانيّة هو أنه على صورة الله ومثاله". وفي خطابه عام 1981، كان واضحًا وحاسمًا في إدانة ارتباك العديد من المسيحيين الناتج عن الحقائق الكاذبة التي انتشرت بعد المجمع الفاتيكانيّ الثَّانيّ: «يجب أن نعترف بواقعيَّة وبعمق الشعور المؤلم بأنَّ المسيحيين اليوم يشعرون إلى حد كبير بالضياع، والارتباك، وحتى خيبة الأمل، حيث انتشرت الأفكار التي تتناقض مع الحقيقة الموحاة والتي تم تعليمها بأيدٍ كاملة؛ انتشرت هرطقات حقيقية، في المجال العقيدة والأخلاق، مما خلق الشكوك والارتباك والتمردات، كما تم العبث بالطقوس الليتورجية؛ الانغماس في "النسبية" الفكريَّة والأخلاقيَّة وبالتالي في السماحة، وقوع المسيحيون بتجربة الإلحاد، اللاأدرية، التنوير الأخلاقي الغامض، من قبل المسيحية السوسيولوجية، بدون عقائد محددة وبدون أخلاق موضوعية...».

 

العنصر الحديث الذي أثار المشكلة الأنثروبولوجيَّة الحاليَّة يتكوّن من التطورات العلميّة والتكنولوجيّة الحديثة التي أعطت الإنسان قوة جديدة كي يتدخّل على حياته وطبيعتها. وكما كان يقول ماركس  أنَّ الأمر لم يعدّ يتعلق فقط بتفسير الإنسان، ولكن بتغييره. وهذا التغيير لا يتم إلاّ من خلال التأثير المباشر على الواقع الوجوديّ الماديّ والبيولوجيّ، من خلال التقنيات التي تستحوذ تدريجياً على جسده بأكمله، وسير عمل عقله أيضاً. فإنَّ العقليّة التي بموجبها يصبح الإنسان هو"السيد" المطلق والعالم يصبح مملكة سعادة حصريًا بقوته الخاصة، والاستسلام لوهج الاكتفاء الذاتي المزعوم في "سيادة" قوى الطبيعة،  يقع الإنسان في التجربة الكبرى التي وقع فيها في الماضي،  نسيان الله أو وضع نفسه مكانه. ومن هنا تنشأ مشكلة استبعاد الله الجذري: لأنَّه لا يمكن إثبات وجود الله علميّاً. فإنحصرت مشكلة الله في مجال الخيارات الذاتيّة للفرد؛ واعتبر الله غير ذي صلة بالحياة العامة. وفقًا لمقاربة العقلانية هذه، ليس فقط العقل مشوهًا، ولكن أيضًا الإنسان نفسه مشوهاً، نظرًا لأن "الأسئلة الإنسانيّة الصحيحة " من أين"و" نحو أين"، هي أسئلة الدين والاخلاق، ليس لهما مكاناً في المجال العقل العامّ؛ يقرر الشَّخص، بناءً على تجاربه، ما يبدو له مستدامًا من الناحية الدينية، ويصبح "الضمير الذاتي" في نهاية المطاف المثال الأخلاقي الوحيد".

 

أشار القديس البابا يوحنَّا بولس الثَّانيّ بوضوح إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه الإنسان كعلامة على فشل الإيديولوجيات الإلحادية للفكر المعاصر الحديث: "تتقاطع أوروبا اليوم مع التيارات الإيديولوجيَّة، طموحات غريبة عن الإيمان، حتى لو لم تعارض المسيحية بشكل مباشر، ولكن من المهم التوضيح من منطلق أنظمة وخيارات التي كانت تهدف إلى جعل الإنسان مطلقًا، فقد وصلت اليوم لوضع الإنسان نفسه في موضع المشكلة، كرامته، قيّمه، يقينه الأبدي، عطشه للمطلق". إن تأثير هذه الأزمة من القيم التأسيسية للعالم الحديث هو شعور بالخوف والألم في وجه المستقبل الذي يبدو مهددًا ومظلمًا، وعدم اليقين بشأن الأشياء التي يجب القيام بها لاعطاء أجوبة. إنَّ التحديّ الذي يطرحه عالمنا اليوم ولجيلنا هو إحداث تغيير جذري في المنظور فيما يتعلق بالعلاقة بين الإنسان-الكيان والإنسان -إيديولوجيّ.

 

هذه إذن الدّراما الحقيقيّة للإنسانيَّة اليوم، التي وصفها الكاردينال جوزيف راتسنغر –البابا بنديكتوس السادس عشر: "نسيان الله"، "استبعاد الله"، "رفض الله"، "غياب الله"، "حجب معنى الله"،"الوثنية الجديدة". إن تشخيصه لعالمنا على عتبة الألفية الثالثة واضح جداً: "إن المشكلة الحقيقية في عصرنا هي" أزمة الله"، وغياب الله، متنكرين بتدين فارغ / / ... / الحاجة الأوليَّة للإنسان هو الله / ... / كل شيء يتغير، إذا كان الله موجودًا أو إذا الله لم يكن موجودًا". لم يقل الكاردينال راتسنغر أنَّ "الله مات"، لكنه تحدّث عن "الله الذي أصبح مجهولاً في عصرنا" وأصبح يسوع "شخصية تاريخية عظيمة في الماضي" والناس لا علاقة لهم معه في الحاضر.

 

كيف نفسرّ مشكلة إبعادإنسان اليوم عن الله؟ يجب أن نضعها أولاً في سياق الأزمة العميقة لثقافة ما بعد الحداثة. وضّح البابا بنديكتوس السادس عشر ذلك: «كم من رياح عقائدية عرفناها في العقود الأخيرة، وكم من التيارات الإيديولوجيّة، وكم من أنماط الفكر ... القارب الصغير لفكر العديد من المسيحيين من النادر أن تحركه هذه الموجّات - التي ألقيت من طرف إلى آخر: من الماركسية إلى الليبرالية؛ من الجماعية إلى الفردية الراديكالية؛ من الإلحاد إلى التصوف الديني الغامض وما إلى ذلك. كل يوم تلّد بدع جديدة وكما يقول القديس بولس عن خداع البشر، عن الماكرالَّذي يهدف إلى التسبب في الخطأ: فإِذا تَمَّ ذلِكَ لم نَبْقَ أَطْفالاً تَتقاذَفُهم أَمْواجُ المَذاهِب وَيعبَثُ بِهِم كُلُّ رِيح فيَخدَعُهمُ النَّاسُ ويَحتالونَ علَيهم بِمَكرِهِم لِيُضِلُّوهم" (أفسس 4، 14). وكما قال البابا بنديكتوس السادس عشر خلال لقائه مع عالم الثقافة في 12 أيلول 2008 "البحث عن الله"، إن الانتباه إلى حقيقة الله الوجوديَّة هو المحور المركزي الذي بنيت عليه كل حضارة وثقافة. وهذا ما أسس الثقافة الأوروبية -البحث عن الله والإرادة في إيجاده، الاستماع إليه– يبقى اليوم أساس كل ثقافة حقيقية والظروف التي لا غنى عنها لبقاء إنسانيتنا. لذلك فإن رفض الله أو اللامبالاة الكاملة تجاهه يقتل الإنسان".

 

كتب البابا بنديكتوس السادس عشر في رسالته إلى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في 10 آذار 2009 يقول: "في عصرنا، حيث يتعرض الإيمان في مساحات شاسعة من الأرض لخطر إخماد نفسه مثل اللهب الذي لم يعد يجد غذاء، الأولوية التي تكمن فوق كل هذا هو أن نجعل الله حاضرا في هذا العالم وفتح أمام الإنسان مجال البلوغ إلى الله، ليس إلى أي إله، ولكن إلى الله الذي تحدث في سيناء؛ إلى ذلك الإله الذي نعرف وجهه في المحبة، دفع إلى النهاية (راجع يو 13 ، 1) - في يسوع المسيح المصلوب والقائم. إن المشكلة الحقيقية في لحظة من تاريخنا هي أن الله اختفي من أفق البشر ومع تلاشي الضوء القادم من الله، الإنسانيّة تفتقر إلى التوجه حيث تتجلى آثاره المدمرة بشكل متزايد أكثلا فاكثر".

 

عند هذه النقطة يجدر التساؤل: ما معنى الإيمان بالله؟ ما هو الايمان؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يوضّح البابا بنديكتوس السادس عشر أساسيين: أولاً، أنَّ الإيمان البسيط هو في الواقع: «نحن نؤمن بالله - بالله، بداية ونهاية حياة الإنسان. نجد جذورنا ومستقبلنا في الله الذي دخل في علاقة معنا نحن البشر. إذن، الإيمان، في الوقت نفسه، هو دائمًا رجاء واليقين من أن لدينا مستقبلًا ولن نقع في آذان صماء. والإيمان هو المحبة، لأن محبة الله تريد أن "تلمسنا"... و"الإيمان ليس بمجموعة من أحكام، ونظريَّة...إنَّه حدث لقاء بين الله والإنسان. ينحني الله للإنسان في سرّ المعمودية. يأتي إلينا وبهذه الطريقة يقربنا من بعضنا البعض /... / ويجعلنا جميعًا عائلة عظيمة في المجتمع الكنيسة الجامع. نعم، من يؤمن ليس وحيداً أبدًا". من منطلق هذه الرؤية للإيمان نفهم قول البابا بنديكتوس السادس عشر «أنَّ أزمة الكنيسة الحقيقية في العالم الغربي هي أزمة إيمان. إذا لم نصل إلى تجديد حقيقي للإيمان، فسوف تبقى جميع الإصلاحات الهيكلية غير فعالة". و"يجب إعادة التفكير في الإيمان وإحياءه قبل كل شيء بطريقة جديدة، كي يصبح شيئًا ينتمي إلى الحاضر. لكن ليست الإهانة هي التي تساعدنا في ذلك، لكن أن نعيشه فقط في يومنا هذا /.../ لن تكون التكتيكات هي التي تنقذنا، لإنقاذ المسيحية، ولكن الإيمان الَّذي يعاد التفكير فيه ويعاد عيشه بطريقة جديدة، من خلاله يدخل المسيح ومعه الإله الحي إلى عالمنا". الطريق التي يجب علينا أن نسير عليها في هذا العالم، أعطانا إيَّاها يسوع الرَّب الَّذي هو معنا ومعه حقيقة مصيرنا وأصل حياتنا. نعم، إن قوة الله في العالم صامتة، لكنَّها قوة حقيقية ودائمة. يبدو أن قضية الله هي في الآلم مستمر. وبالتالي فإن مسألة الله أساسيّة وحاسمة للإنسان.

 

ومرةّ أخرى أكّد البابا نفسه: «نحن نعيش في زمن يتسّم إلى حد كبير، بالنسبيَّة المموهّة التي اخترقت جميع مجالات الحياة. في بعض الأحيان، تصبح هذه النسبيَّة قاتلة، تنقلب على الأشخاص الذين يقولون أنهم يعرفون أين تكمن الحقيقة أو معنى الحياة". وخطابه الآخر يقول: إنَّ "أزمة الله"، المنتشرة في ثقافة ما بعد الحداثة، تولد "أزمة إنسان" عميقة، لأن علاقة الإنسان بالله ضرورية لعلاقته مع نفسه ومع العالم. بإقصاء الله عن حياته، يبقى الإنسان أمام نفسه لغزا لا يمكن سبر غوره. يشرح البابا ذلك جيدًا: «نحن نعيش في زمن أصبحت فيه معايير كوننا أناسًا غير مؤكد / ... / في مواجهة ما يجب علينا نحن كمسيحيين الدفاع عن كرامة الإنسان التي لا يجوز انتهاكها، من الحمل به الموت /.../ فقط أولئك الذين يعرفون الله يعرفون الإنسان". بدون معرفة الله، يصبح الإنسان قابلاً أن يصبح لعبة بيد الأخرين. يجب أن يتجسد الإيمان بالله في التزامنا المشترك تجاه الإنسان". وفي مناسبة أخرى يؤكّد:"دون الله لا يعرف الإنسان إلى أين يذهب ولا يمكنه حتى فهم من هو /.../ الإنسان غير قادر على إدارة تطوّره وحده، لأنه لا يستطيع أن يجد إنسانية حقيقية بمفرده /.../ الإنسانيّة التي تستبعد الله هي إنسانية دون إنسانية". لذلك، مشكلة الإنسان مرتبطة بشكل مباشر مع مشكلة الله، والمسألة العصر اليوم توضّح أنَّ العدو الذي يجب محاريته ليس الإلحاد، أي مشكلة الله-وعدم وجود الله، ولكن مشكلة إنسانيّة الإنسان، ووجوده. فتجد الكنيسة نفسها اليوم في حالة الدفاع عن الإنسان ووجوده؛ فحين كانت في السابق تدافع عن الله من أجل الدفاع عن الإنسان. ما هو تحت الخطر من قبل المركزية الحيوية للثقافة الراديكالية وعقلية العلم دون ضمير هو بالضبط إنسانية الإنسان، وهو شيء لا يمكن اختزاله إلى مجرد مادة بيولوجيَّة. بالتالي، فإنّ إضعاف مفهوم الله لا يمكن أن يؤدي إلإّ إلى إضعاف مفهوم الإنسان. إذا أزلنا الخالق، فإننا نزيل المخلوق أيضًا. إذا اختفى الله، يختفي الإنسان أيضًا؛ كما كتب الأب هنري دي لوباك: "نحن اليوم نتحقق من التجربة" أنه عندما لا يوجد إله، فلا وجود للإنسان". هذه هي" دراما الإنسانية الملّحدة " كما يقول الأب هنري دي لوباك، "إنَّ الإنسان يلغي الله، كي يمتلك هو بعد ذلك عظمة الإنسانيّة، والله بالنسبة له عقبة يجب كسرّها كي يكتسب  حريته". ويتحدّث الأب هنري دي لوباك عن هؤلاء الفلاسفة، الذين "يريدون قتل الله كي يعيش الإنسان، يعيش حياة بشكل تامّ إنسانيَّة، ويبدو لهم أن الإلحاد هو مثل الأساس الذي لا غنى عنه للفكرة المثالية التي يقدّمونها إلى هذا الإنسان".

 

إنَّ المسيحيين، سواء في الشرق أو الغرب، مطالبين ببناء مجتمع أكثر عدلاً وأكثر إنسانيَّة. مدعوون إلى إعادة اكتشاف قوّة الحب المخفية في أعماق معتقداتهم، والتخلي عن أي إغراء للاستسلام للكراهية والعنف. إنها مسألة "إعطاء العالم الحبّ الإلهي كجواب إنسانيّ". ومن الحبّ الإلهي يجب أن ينطلقوا. الحبّ agape الَّذي لا يتغذى على وجود النقص لدى الآخر (الإيروس)، لكن الحبّ الذي يجد نموذجه في يسوع: حب غير أناني، حر، حتى غير مبرر. محبة يسوع لا تعرف المعاملة بالمثل، أو على الأقل لا تتطلب ذلك. يقول القديس بولس الرَّسول في الرسالة إلى رومة: "ولا يَكادُ يَموتُ أَحَدٌ مِن أَجْلِ امرِئٍ بارّ، ورُبَّما جَرُؤَ أَحَدٌ أَن يَموتَ مِن أَجْلِ امرِئٍ صالِح. أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين"(روم 5: 7-8 ). لذلك، يعبّر الحبّ agape عن الطبيعة الحب المسيحي. إنها بالتأكيد تأتي من الله، لكنَّها مليئة بالإنسانية. الله صار إنساناً بسبب الحب، حتى سمح لنفسه بالصلب من أجل الحب. على ذلك الصليب نشهد المحبَّة بلا حدود. المحبة الإلهيَّة أقوى من الموت. وهي خبز لا غنى عنه لعالمنا اليوم. كل شيء سيمرّ وينتهي، حتى الإيمان والرجاء، لكن في النهاية لن يكون هناك سوى المحبَّة التي ستفتح أعيننا بشكل حاسم على رؤية الله، ومن هذا المنظور ، يمكن للرسول يوحنا أن يكتب: "من لا يحب لم يعرف الله" (1 يو 4 ، 8). بعد كل هذا، دون حب، الحياة جحيم. وهذا ما يختبره الإنسان اليوم. الملايين من الأشخاص الذين وقعوا فريسة المرض والجوع عرفوا ذلك جيدًا، فهم مضطرون مواجهته من أجل البقاء. الإنسانيَّة دون الحبّ الإلهيّ الَّذي يكون مصدرها وأساسها، ستحصد الزؤان.