موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٢٨ فبراير / شباط ٢٠٢٠
آثرت الصمت غير أنّ لساني سيُحدّثُ عنك: القديس يوسف الكلي العفاف
طوبى لكَ.. تشَفَّع بنا.. وتَضرَّع من أجلنا!
حنا ميخائيل سلامة نعمان، كاتب وباحث

حنا ميخائيل سلامة نعمان، كاتب وباحث

حنا ميخائيل سلامة نعمان :

 

أذكُرُكَ بتأمُّلٍ وتفكُّرٍ، أنتَ الذي آثرت الصمت، وأذكُرُ بخشوعٍ دَورَكَ السامي المقدس الذي لم تعرف الأزمنة نظيره في أن تكونَ ضمن خطة الله من أجل خلاص البشر، ذلك أن السِّر الذي كان مكتوماً في الأزمنة الأزلية سَيتكشَّف أمامك، وسيُعلن العهد الجديد عهد البرارة والنعمة أمام الورى وأنتَ المُعاين له وشاهِده الأمين، وأنتَ في الوقت عينه المُرافق لثمرة العهود والوعود والساهر على رعايته في بواكير عُمُره.

 

أذكُرُكَ بتأمُّلٍ وتفكُّرٍ وخشوعٍ أنتَ الذي آثرت الصمت، وأذكُرُ تلكَ النعمة السَّماوية السَّنِيَّة المُتفرِّدة التي نلتها بأنْ تكونَ مريم العذراء خطيبتك البتول الطاهرة النَّقية التَّقية هي عينها مَن نظرَ العَليُّ لتواضُعِها وتقواها فنالت "حُظوةً عند الرَّب"، وهي ذاتها من قال فيها على لسان إشعياء في نبوءَته "ها إن العذراء تحبلُ وتلِدُ إبناً ويُدعى اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا"، وهي نفسها مَن تقبلت تحيةَ ملاك الرَّب حين خاطبها "السلام عليكِ"، ووصفها بوصفٍ فريدٍ لا يُماثله وصف "الممتلئة بنعمة الرب والمباركة في النساء"، وهي ذاتها من نقل إليها بُشرى السماء "الروح القُدس يحلُّ عليكِ، وقُدرة العَلِيّ تُظَلِّلُك. لذلك أيضاً فالقدُّوس المولود مِنكِ يدعى ابْنَ الله". فآمنت عن يقينٍ بالقلب، وامتثلت وسلَّمَت طَوْعاً بمحضِ إرادتها، ومُقِرَّةً بلسانها "أنا أمَةُ الرَّب فليكن لي بحسبِ قولكَ".

 

أَذكُرُكَ بتأمُّلٍ وخُشوعٍ أنتَ الذي آثرت الصمت، والصمت إصغاءٌ للروح القدس المُرشد المُوَجِّه، وهو شعورٌ حقيقيٌ بحضور الله.. وأذكُرُ انتصار الإيمان المتأصل فيك، واليقين الثابت الذي يُبدِّد أية رِيبَةٍ بشريةٍ بقدرة الآب خالق الكُلِّ وواهب الحياة، فعزَّز ملاك الرَّب إيمانكَ بِحَمْلِ خطيبتك العذراء بقدرة العَلِيِّ التي تُظللها وَبِحُلُول الروح القُدس عليها، قائلاً: "يا يوسفُ ابنَ داود، لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم فإن المولود فيها إنما هو من الروح القُدس، وستلد ابناً فستُسميه يسوعُ لإنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم".

 

أَذكُرُكَ بخشوعٍ وَوَرعٍ وأتساءل: تُرى ما كان يدور بِخَلَدِكَ أيُّها البارّ التقي الوديع العفيف، وأيَّة ابتهالاتٍ تلكَ التي رفعتَ مِن أعماق قلبكَ النقيّ إلى الآب السماوي وأنت متوجه إلى بيت لحم مدينة داود إلى جانب المُمَجَّدة مريمَ لتُسجل في قيود إحصاء أهل المسكونة ممتثلاً لأمر القيصر أوغسطس؟

 

أَذكُرُكَ بخشوعٍ وَوَرعٍ وأتساءل: أيَّة معاناةٍ تلكَ التي عانيتَ وأيَّة مشقَّةٍ حين أوصِدت الأبواب ولم تجد موضعاً ليسند الطفل العجائبي -الذي يوشك على الولادة- رأسه سوى في مغارةٍ وضيعةٍ، هذا الذي ذات يومٍ "سيجلس على عرش داود أبيه ولا يكون لِمُلكه انقضاء"؟

 

تُرى ما كان يدور بِخَلَدِكَ أيُّها الطُّهرُ السامي والفائض بالحنان وأيَّة مشاعر اجتاحت جوانحك حين نظرتَ إلى النور الساطع المتدفق مِن وجه يسوع، فكنتَ المُبصِرَ الأول بعدَ مريم لِحُبِّ الله المُتجسِّد أمامكَ، وكنتَ أول مَن احتضَنه وضمَّه إلى صدره بعد أمِّه البتول فتلاقت خّفقاتُ قلبيكما غِبطةً وحناناً ووداً؟

 

تُرى ما كان يدور بِخَلَدِكَ وأيّة علامات تعجبٍ تملكتكَ حين أقبلَ الرعاة إلى المغارة يُحدّثون بمجد الله الذي أضاء في حلكة الليل حولهم، وعن ظُهور ملاك الرب لهم الذي بدَّد حيرتهم ورهبتهم إزاءَ ما رَأَوا بقوله "لا تخافوا أنا أبشركم بخبرٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب أنه وُلِد لكم في مدينة داودَ مخلصٌ هو المسيح الرب" وعن العلامة التي أعطاها لهم "تجدونَ طفلاً مُقمَّطاً مُضَّجِعاً في مذودٍ.." وعن مرافقة تسبيحات جُند السماء لتلك البشارة ونشيدها "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام"؟  

 

تُرى ما كان يدور بِخَلَدِكَ أيُّها البارُّ العفيف حين استقبلت على غير موعدٍ حُكماء المشرق الثلاثة، وقد حملوا بفرحٍ وقد قادهم نجمٌ من بلادهم البعيدة للوليد الذَّهبَ والُّلبان والمُرَّ بما تحمله هذه الهدايا من رموزٍ ستتكشف دلالاتها مع مُقبلات السنين وَتقدُّمِه في العُمُر؟

 

 أيها البارُّ المؤمن أيّ حزنٍ اعتراك حين علمت بأمر الطاغية هيرودس بسفكِ دماء أطفال بيت لحم مَن بلغ سنتين وما دونهما وفي قصدهِ يسوع بينهم متوهماً أنَّه جاء لِمُلكٍ زمنيٍ أرضيٍ.. وقد غشي بصره فلم يدرك أن خلاص الإنسان وتصالحه مع الله لم يمكن ممكناً إلا بولادة يسوع "ومملكته -كما بيَّنَ- ليست من هذا العالم"!  

 

يا مِثالَ الطاعة والإيمان، أيَّة مفاجأة تلكَ وأيَّة مُهمةٍ أسْنِدَت إليك فسارعتَ لتنفيذها حين تراءى لك ملاك الرب لتأخذ الطفل وأمَّه إلى مصر وتبقى هناك إلى أن يهلك هيرودس.. وما أن هلك طالب نفس يسوعَ حتى امتثلت لملاك الرب في العَودة ليتحقق حين ذاك ما جاء بكلمة الرب في سِفر هوشع النبي "مِن مصر دعوتُ ابني"؟

 

تُرى ما دارَ بِخَلَدِكَ أيُّها البارُّ العفيف حين أقبلَ سمعان الذي قضى شطرَ عُمره بالصلاة والصوم فأخذ يسوع عند مدخل الهيكل وَسّمَّر عينيه بإشراقةِ وجههِ هاتفاً بإيمان وفرح وشكر للوعد الذي قُطِعَ وللعهد الذي تحقَّق: "أطلِق عبدكَ بسلام فقد رأت عيناي ما أعددتَه من خلاص للشعوب كلها، نوراً لهداية الأمم ومجداً لشعبك إسرائيل"؟ وما تُرى دار بخَلَدِكَ وأين ذَهَبَتْ بفكركَ الخواطر حين خاطبَ مريم" وأنتِ سيجتاز سيف الحزن في قلبك" في إشارة ٍلِما أُعِدَّ لها من مُعاناةٍ وآلامٍ"؟

 

يا مُدبِّر العائلة المقدسة وراعيها، في منجرة الناصرة كنتَ تأكل خبزكَ مِن تعب يديك، وإليها كنتَ تصطحب يسوعَ الكلمة المُتجسِّد، فيبتهج قلبُك وهو يعمل بإرشادكَ فيحمل الخشب ويصقله ويُعِدّه.. ذلك الخشب الذي عقدَ صِلةً معه.. حتى إذا حانت الساعة سيُعانقه بصليبٍ من خشب ماضياً في درب الآلام صعوداً نحو الجلجلة ضمن خطة الآب السماوي فِداءً عن البشر.

 

أيُّها القديس المُعظَّم، أيُّ حُظوةٍ في عيني العليّ نِلتَ أنْ تسهرَ وَتَحْدَبَ وتُرافقَ وترعى لسنواتٍ مَن دشـَّن العهد الجديد عهد الخلاص والنعمة والمحبة والولادة الروحية يسوع المسيح، الذي له المجد والتسبيح قد آثَرَ بعد أن أتممتَ رسالتكَ وأكملتَ سَعيكَ وجهادكَ وتعبكَ أن يُسدِل أجفانكَ عن هذا العالم الزمني لتنال إكليل البِرِّ والمجد في ملكوته السماوي الأبدي.

 

أيُّها القديس المُعظَّم، يا مَن نلتَ مِن الآب العَلِيِّ إنعاماً فريداً، أجِدُني أقِفُ متأملاً متمعناً بقوّة إيمانك، ووقارِ طاعتك، وعَظَمَةِ تواضعكَ، وأمانةِ عِفَّتِكَ، ومَهابةِ صَمتِكَ. لقد ادركتَ بحِكمَةٍ عُمْقَ فضيلة الصمت وَثِمارها الروحية.. والصمت الذي اتَّسَمْتَ به هوَ عندي أفصح من الكلام، وأبلغ وأغنى مما تُسَطِّره الأقلام!

 

طوبى لكَ.. تشَفَّع بنا.. وتَضرَّع من أجلنا!