موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١ أغسطس / آب ٢٠٢٢

نَحْنُ ونَزَعاتُنا

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك

د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك

 

نحنُ شَعْبٌ يَتَقَهْقَر ويَتَقَهْقَر

 

نحن شعبٌ لا يستهويه في الحياة –على الصّعيد القوميّ والجغرافيّ والدّينيّ– إلّا التّباهي بماضي الأجداد وأمجادهم. فنتذكّر عظمة القدماء المصريّين، وثراء آباء الكنيسة، وانتصارات الجيوش الإسلاميّة، وشجاعة المصلحين البروتستانت، وانفتاح الكنيسة الكاثوليكيّة وثقافتها في العالم بأسره (عدا شعبنا).

 

فنحن نقبع ونستكين تحت ظلال ماضٍ مجيد قد أصبح في خبر كان، ولم يتبقَّ منه إلّا ومضات نادرة، وتاريخ عريق، ونموذج للاقتداء به واقْتفَاء أَثَرِه؛ وننسى أو نتناسى أنّنا مطالبون بمواكبة العصر والتّفاعل معه، ونحت بصماتنا فيه، كما فعل من قبل أجدادنا.

 

نحن أصبحنا نزلاء الماضي وسُكَّانه، قلبًا وقالبًا، شكلًا وموضوعًا؛ ونعيش في ماضٍ نبالغ في تضخيم أمجاده لخوفنا من مواجهة جدّيّة الحاضر والمستقبل. نحن لسنا بأحفاد حقيقيّين لأجدادنا، ولا وَرَثَة أصلاء لهم؛ فهل نحن يا تُرى سقطة من سقطات تطوُّر التّاريخ وتقدُّمه؟

 

نحن مستهلكون لكلّ شيء، حتّى لماضي الأجداد وتراثهم: هم يحثّوننا –بتاريخهم وأعمالهم وكتاباتهم– على المضي قُدُمًا، والسّير إلى الأمام، واستكمال ما وصلت إليه مسيرتهم الحافلة بالأشجار اليافعة والثّمار اليانعة، ونحن نصرّ على العيش في الأوهام التي رسمنها في مُخَيِّلتنا عن ماضهم.

 

نحن بحقٍّ "ظاهرة صوتيّة" (عبد الله القصيمي) لصدى رنين الماضي والنّوستالجيا (الحنين إلى ماضٍ مثاليّ). وإذا حاول أحدُنا النّهوض والتّحرُّك نحو الأمام، تجذبه أيادي عديدة –بشتّى الطّرق– للمكوث في سبات الأموات، بل وقد نعنّفه حتى لا يترك منطق القطيع والعقل الجَمعِيّ المريحين.

 

أجل، نحن أبناء طبيعيّون للأجيال الماضية، ولكنّ نَكْبَتنا تكمن في أنّنا لسنا بأبناء أصليّين وأصلاء للأجيال الماضية، ولا بآباء حقيقيّين ونُجباء للأجيال القادمة، ولا حتّى إخوة صادقين وأمناء للأجيال الحاضرة.

 

وبعبارة وجيزة يسكنها الحزن والدّمع، نحنُ شَعْبٌ يَتَقَهْقَر ويَتَقَهْقَر، لكي ينتحر بعيون مَعْصُوبة من على سطح ذكرياته. لقد صدق جبران خليل جبران حينما كتب: «إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه، وأجداده يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات».

 

إنّ هذا لهو الفرق بين "التّقليد" الأصيل و"النّزعة التّقليديّة" الزّائفة؛ فالتّقليد هو الإيمان الحيّ النّاجم عن الأموات ومَن سبقونا ("إيمان أمواتنا الحيّ")، والنّزعة التّقليديّة هي الإيمان الميّت للأحياء الحاضرين والرّاهنين ("إيمان الأحياء الميّت"). فيقول البابا فرنسيس في هذا الصّدى:

 

«إلى جانب كوننا أبناء تاريخ يجب أن نحافظ عليه، نحن صنّاعُ تاريخ يجب بناؤه [...] الذين سبقونا نقلوا إلينا حبًّا وقوّة وتوقًا ونارًا علينا إحياؤها. ليست مهمتنا المحافظة على الرّماد، بل علينا إحياء النار التي أشعلوها. كان أجدادنا وكبارنا يرغبون في رؤية عالم أكثر عدلًا وأكثر أخوّة وأكثر تضامنًا، وقد كافحوا من أجل أن يعطونا مستقبلًا. الآن، علينا ألّا نخيِّب آمالهم. وعلينا أن نتولى مسؤوليّة هذا التقليد الذي قبلناه منهم، لأنّ التقليد هو إيمان أمواتنا الحيّ. من فضلكم، لا تحَولوه إلى تقليد جاف، أي إلى إيمان الأحياء الميّت، كما قال أحد المفكّرين. آباؤنا هم جذورنا وسندنا، وعلينا الآن أن نؤتي ثمرًا. نحن الفروع التي يجب أن تُزهر وأن تضع بذورًا جديدة في التاريخ» (البابا فرنسيس).

 

 

لا أفهم أمورًا عديدة في الحياة

 

من دواعي آسفي، وفي الوقت عينه من بواعث سروري، أنّني لا أفهم– ولا أقدر أن أفهم– أمورًا عديدة في الحياة. بعض هذه الأمور متعلّق بجوانب دينيّة وتديّنيّة، وبعضها الآخر متعلّق بنواحي دنيويّة سياسيّة، أو اقتصاديّة، أو اجتماعيّة، وأمّا معظمها فهو خليط ومزيج من هذا كلّه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر ثلاثة أمور فقط: قيمة المراكز والألقاب والحالمين بها (النّزعة التّسلطيّة والتّملكيّة)؛ نبرة التّعالي والأفضليّة (النّزعة الفوقيّة)؛ الكراهية والعنف والقتل (النّزعة القائينيّة).

 

1. النّزعة التّسلطيّة والتّملكيّة

 

إنّني لا أفهم جيّدًا قِيمة المراكز والألقاب (سواء كانت دينيّة، أو سياسيّة، أو اجتماعيّة)، ولا الحالمين بها والسّاعين لها– بطُرق مشروعة وغير مشروعة، إنْ لم تَرمِ إلى خدمة الآخرين والبشريّة والخليقة جمعاء. فماذا يعني أنْ يكون المرءُ ملكًا، أو حاكمًا، أو رئيسًا، أو وزيرًا، أو مديرًا، إنْ لم يكن راعيًا ونافعًا للناس جميعًا في مصالحهم واحتياجاتهم الضّروريّة على كافة المستويات. وماذا يعني كونُ الإنسان قائدًا دينيًّا، أو قسًا، أو شيخًا، إنْ لم يكن خادمًا لإخوته وأخواته، ولا سيّما الفقراء والمعوزين منهم؟

 

2. النّزعة الفوقيّة

 

لا أفهم أيضًا نَبْرَة التّعالي والأفضليّة التي تفوح من رائحة أفواه المغرورين المُتَعَجْرِفين، وتنبعث من نظرات أعيونهم المتعالية، وتتأرجَح مع حركات أجسادهم المُتغطِرسة.

فبحقّ السّماء والأرض وخالقهما، ألسنا كلّنا متساويين أمام وجه الخالق؟

وأنّ هذا الخالق لم "يمت" بعد؟

وأنّنا لسنا بأيتام؟

وأنّ الأفضل فينا هو التّقي المتواضع، والمحبّ الرّحيم؟

 

3. النّزعة القائينيّة

 

وأخيرًا، لا أقدر أن أفهم حقًّا كَمّيّة الكراهية والعنف والقتل المتخلّلين في أعماق البشر، والسّاكنين فيهم، والمتغذّين على رماد نارهم، إلّا بقبول حقيقة "الخطيئة الأصليّة" المتأصّلة في كيانهم من جرّاء حرّيّتهم، وبقبول "النّزعة القائينيّة" المميتة التي لا زالت تنجب على الأرض أبناء وأتباعًا لقائين قاتل أخيه هابيل.

 

وفي هذا السّياق عينه، يجدر بنا تذكُّر كلمات المجمع الفاتيكانيّ الثّاني القائلة: «وإذا نظرنا نظرةً أعمق رأينا أن هذه الفوضى ناتجة عن كبرياءِ البشر وأنانيتهم اللتين تفسدان أيضًا المناخ الاجتماعي. وحيث تنال نتائجُ الخطيئة من نظامِ الأمور الطبيعية، فالإنسان الذي يميلُ إلى الشر منذُ ولادته، يجدُ دوافعَ جديدةً تدفعه إلى الخطيئة: ولن يتمكن من التغلب على ذلك إن لَم يبذل جهوداً جبارة وإن لَم تسانده النعمة» (دستور راعويُّ "الكنيسة في العالم المعاصر"، بند 25).