موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٤ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٣

سِيرَةٌ حياتيّةٌ موجزةٌ للبابا بِنِديكْتُس السَّادس عشر (1)

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
البابا الراحل بندكتس السادس عشر

البابا الراحل بندكتس السادس عشر

 

مقدّمة

 

في صباح يوم السّبت الموافق الـ31 من شهر ديسمبر/كانون الأول للعام 2022، رحل عن عالمنا البابا راتسينغر-بِنِديكْتُس السَّادس عشر، الذي يحتلّ التّرتيب الـ265 في قائمة باباوات الكنيسة الكاثوليكيّة. وهو عَالِمُ لاهوت كاثوليكيّ ألمانيّ؛ وكان كاهنًا ورئيس أساقفة، وكاردينالًا منذ عام 1977، ورئيس مجمع العقيدة والإيمان منذ عام 1981، وعميد الكرادلة منذ عام 2002. وفي العام 2005، انتخِب بابا للكنيسة الكاثوليكيّة متّخِذًا اسم "بِنِديكْتُس السَّادس عشر" (وهو مستوحَى من اسم البابا "بِنِديكْتُس الخامس عشر" والقدّيس "بِنِديكْتُس النُّورسيّ"). وبعد بضعة أعوام، في العام 2013، قدّم استقالته كأسقف لكرسي روما. ولا يزال فكره وكِتاباته في غاية الأهمّيّة بالنسبة للمسيحيّين المعاصرين جميعًا، وليس للكاثوليك فحسب؛ وحيال إنتاجه الفكريّ الثّريّ ثمّة معجبون ومنتقدون.

 

ويحاول هذا المقالُ تقديم سِيرَة حياتيّة موجزة للبابا راتسينغر-بِنِديكْتُس السَّادس عشر، مع إبراز بعض المحطَّات المهمّة في حياته كمسيحيّ وعَالِم لاهوت وقائد دينيّ وبابا. وقد اعتمدنا في كتابة هذه السّطور على مراجع ومواقع رسميّة متاحة باللّغات الأجنبيّة.

 

 

1. طفولتُه وشبابه

 

وُلِد جوزيف راتسينغر في "ماركتل آم إن" (ألمانيا)، في أراضي إيبارشيّة "باسّاو"، في الـ16 من أبريل/نيسان 1927. وقد تزامن ميلاده مع يوم السّبت المقدّس، وعُمِّد في اليوم ذاته. وكان والده ينحدر من عائلة عريقة من المزارعين من "بافاريا السّفليّة"، وظروفه الاقتصاديّة كانت متواضعة إلى حدّ ما. وكانت والدته ابنة أحد الحِرفيّين من "ريمستينغ" على بحيرة "شيم"، وقبل أن تتزوّج عملت كطاهية في فنادق مختلفة.

 

قضى راتسينغر طفولته ومراهقته في "تراونشتاين"، وهي بلدة صغيرة بالقرب من الحدود النّمساويّة، على بعد ثلاثين كيلومترًا من "سالزبورغ". وفي هذا السّياق تلقّى تكوينه المسيحيّ والإنسانيّ والثّقافيّ. لم تكن فترة شبابه بالأمر السّهل والهَيِّن. وقد أعدّه إيمانُ عائلته وتعاليمها لمواجهة التّجربة القاسيّة لتلك الأوقات العصيبة التي حافظ فيها النّظام النّازيّ على مناخ من العداء الشّديد تجاه الكنيسة الكاثوليكية. فقد شاهد الشّاب راتسينغر كيف ضرب النّازيّون كاهنًا قبل احتفاله بالقداس الإلهيّ. وتحديدًا، في هذا الجوّ المعقّد والصّعب، اكتشف جمال وحقيقة الإيمان بالمسيح. ولقد لعبت عائلته دورًا هامًّا ومحوريًّا في حياته، إذ عاشت– دائمًا وبوضوح– شاهدة للخير والرّجاء، مع انتماء عميق الجذور إلى الكنيسة. وفي الأشهر الأخيرة للحرب العالميّة الثّانية، جُنِّد راتسينغر في الخدمات المساعدة المضادة للطائرات.

 

 

2. دراستُه وسيامته الكهنوتيّة ونشاطه العلميّ والكنسيّ

 

من العام 1946 إلى العام 1951، درس راتسينغر الفلسفة وعلم اللّاهوت في المدرسة العليا للدراسات الفلسفيّة واللّاهوتيّة في "فريسينج"، وأيضًا في جامعة "ميونيخ" في "بافاريا". ونال السّيامة الكهنوتيّة في الـ29 من يونيو/حزيران للعام 1951. وبعد عام واحد، بدأ نشاطه كأستاذ في مدرسة "فريسينج" العليا.

 

وفي العام 1953، حصل على درجة الدّكتوراة في علم اللّاهوت بأطروحة تحت عنوان: "شعب وبيت الله في التّعليم حول الكنيسة عند القدّيس أَوْغسطينُس". وبعد أربعة أعوام، وبتوجيه من البرُوفيسور المعروف في علم اللّاهوت الأساسيّ "غوتليب سونجن" (Gottlieb Söhngen)، حصل على إذن التّدريس في الجامعات الألمانيّة بأطروحة تحت عنوان: "لاهوت التّاريخ عند القدّيس بونافنتورا".

 

بعد أن عمل أستاذًا لعلم اللّاهوت العقائديّ والأساسيّ في المدرسة العليا للفلسفة واللّاهوت في "فريسينج"، واصل نشاطه التّدريسيّ في "بونّ"، من العام 1959 إلى العام 1963؛ ثمّ في "ميونستر"، من العام 1963 إلى العام 1966؛ وفي "توبنغن"، من العام 1966 إلى العام 1969. وفي العام 1969، أصبح أستاذًا للعقيدة وتاريخها في جامعة "ريغنسبورغ"، حيث شغل أيضًا منصب نائب رئيس الجامعة.

 

من العام 1962 إلى العام 1965، قدّم راتسينغر عدّة إسهامات ملحوظة في وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثّاني بصفته "خبيرًا"، ولا سيّما في الدّستورين العقائدين حول الكنيسة ("نور الأمم") وحول الوحي الإلهيّ ("كلمة الله"). وقد شارك أيضًا كمستشار لاهوتيّ للكاردينال جوزيف فرينجز، رئيس أساقفة كولونيا.

 

لقد قاده نشاطه العلميّ المكثّف إلى شغل مناصب مهمّة في خدمة مجلس الأساقفة الألمان واللّجنة الثِّيولوجيّة العالميّة. وفي العام 1972، أسّس مع هَنْس أُورس فُون بَالْتَزَر وهنري دُي لوباك وغيرهما من كبار علماء اللّاهوت الكاثوليك المجلّة اللّاهوتيّة "الشّراكة" ("Communio").

 

 

3. خدمتُه كأسقف وكاردينال وبابا

 

في الـ25 من مارس/آذار للعام 1977، عيّنه البابا بولس السّادس (المتنيّح في الـ6 من أغسطس/آب 1978) رئيسَ أساقفة "ميونيخ وفريسينج"؛ وفي الـ28 من مايو/أيار للعام ذاته، نال رسامته الأسقفيّة. فكان أوّل كاهن إيبارشيّ، بعد 80 عامًا، يتولّى رعاية الإيبارشيّة البافاريّة العظيمة. وقد اختار شعاره الأسقفيّ على هذا النّحو: "مُعاوِنون للحقيقة". وشرح هو ذاته هذا الشّعار قائلًا:

 

«من ناحية، قد بدأ لي أنّه يعبّر عن الرّباط القائم بين مهمّتي السّابقة كأستاذ ورسالتي الجديدة. وعلى الرّغم من اختلاف الطّرق، إنّ ما كان وما زال على المِحَكّ هو اتّباع الحقيقة، والبقاء في خدمتها. ومن ناحية أخرى، قد اخترتُ هذا الشّعار لأنّ موضوع الحقيقة في عالم اليوم يكاد يكون منسيًّا تمامًّا، فهو يبدو على أنّه شيء كبير جدًّا بالنسبة للإنسان؛ ومع ذلك، إذا غابت الحقيقة فإنّ كلّ شيء ينهار».

 

لقد أقامه البابا بولس السّادس كاردينالًا في الـ27 من يونيو/حزيران من العام ذاته. وأمّا في العام 1978، فقد شارك الكاردينال راتسينغر في اجتماع الكونكلاف، الذي عُقِد في الفترة من 25 إلى 26 أغسطس/آب، والذي انتخِب فيه البابا يوحنّا بولس الأوّل، الذي عيّنه بدوره مبعوثًا خاصًّا له إلى المؤتمر المريميّ الدّوليّ الثّالث، الذي انعقد في "غواياكيل" (الإكوادور)، في الفترة من الـ16 إلى الـ24  من سبتمبر/أيلول. وفي شهر أكتوبر/تشرين الأوّل من العام نفسه، شارك أيضًا في اجتماع الكونكلاف الذي انتخِب فيه البابا يوحنّا بولس الثّاني.

 

في الـ25 من نوفمبر/تشرين الثّاني للعام 1981، عيّنه البابا يوحنّا بولس الثّاني رئيسًا لمجمع العقيدة والإيمان، وأصبح أيضًا رئيس اللّجنة الحبريّة البِيبْليّة واللّجنة الثِّيولوجيّة العالميّة. ولذا فقد تخلّى عن التّدبير الرّعويّ لإيبارشيّة "ميونيخ وفريسينج"، في الـ15 من فبراير/شباط للعام 1982. ومن ضمن أعماله العديدة والهامّة، في هذه الفترة، كان قيامه برئاسة اللّجنة المنوطة بإعداد كتاب "التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، الذي صدر في عام 1992، أثناء حبريّة البابا يوحنَّا بولس الثّاني.

 

في عام 2005، كُلِّف الكاردينال راتسينغر بكتابة تأمّلات "مراحل درب الصّليب"، التى احتِفل بها يوم الجمعة المقدّسة أو العظيمة في "الكولوسيوم" بروما. وقد سطَّر هذه الكلمات المعبِّرة: «كم من مرّة نحتفل بأنفسنا فقط دون أيّ اعتبار له [ليسوع]! كم من مرّة شُوِّهَت كلمته وأُسِيء استعمالها! ما مدى ضآلة الإيمان في العديد من النّظريّات، وكم من كلمات فارغة! كم من قذارة قائمة في الكنيسة، وبالتّحديد أيضًا بين أولئك الذين، في الكهنوت، ينبغي أن ينتموا له كليّةً! كم من كبرياء، وكم من اكتفاء ذاتيّ!».

 

وبعد نياحة البابا يوحنَّا بولس الثّاني، في الـ2 من أبريل/نيسان للعام 2005، انتخَب الآباءُ الكرادلة راتسينغر بابا للكنيسة الكاثوليكيّة، فاتَّخذ اسم "بِنِديكْتُس السَّادس عشر". وبعد بضعة أعوام من حبريّته، في الـ11 من فبراير/شباط للعام 2013، فاجأ البابا بِنِديكْتُس السَّادس عشر العالم أجمع بتقديم استقالته بمحض إرادته وبكامل قواه العقليّة؛ وأعلن باللّغة اللّاتينيّة أنّه لم يعد لديه القوّة لمواصلة قيادة الكنيسة الكاثوليكية. وبدايةً من الـ28 من فبراير/شباط للعام 2013، بات كرسى روما شاغرًا، حتّى اختيار البابا فرنسيس (منذ الـ13 من مارس/آذار للعام 2013). وإن كان قد بحث الكثيرون عن الدوافع الكامنة وراء استقالة البابا بِنِديكْتُس السَّادس عشر المفاجئة، إلَّا أنّه لا يستطيع أحدٌ إخفاء دهشته حيال هذا الحدث الذي يدّل أوّل ما يدّل على تواضع وتجرُّد ونزاهة هذا "البابا اللّاهوتي".

 

 

4. رحلاتُه الرّسوليّة

 

قام البابا بِنِديكْتُس السَّادس عشر بأربع وعشرين رحلة رسوليّة: بدايةً من الرّحلة الأولى إلى مدينة "كولونيا" الألمانيّة بمناسبة اليوم العالميّ العشرين للشبيبة، في شهر أغسطس/آب للعام 2005، حتّى الرّحلة الأخيرة إلى لبنان في شهر سبتمبر/أيلول للعام 2012. وقد زار البابا جميع القارات، عبر مراحل من بينها تركيا، والبرازيل، والولايات المتّحدة، وسيدني، والكاميرون وأنغولا، والأردن، وبنين، والمكسيك وكوبا، بالإضافة إلى رحلات أخرى إلى أوروبا: بولندا، وإسبانيا، والنّمسا، وفرنسا، وجمهوريّة التّشيك، ومالطا، والبرتغال، وقبرص، والمملكة المتّحدة، وكرواتيا، وألمانيا.

 

في رحلته إلى الأراضي المقدّسة (من الـ8 إلى الـ15 من مايو/أيار للعام 2009)، أثناء تأمُّله في الأرض المباركة (الأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينيّة المستقلّة)، ذكّر قداستُه شعوبَ مختلف البلدان والأديان بأهمّيّة البحث عن الله بجديّة وصدق. ونجد كلماته صالحة ومفيدة حتّى اليوم، خاصّة لأولئك الذين يعتبرون أنفسهم مؤمنين: «على خطى الأنبياء والرّسل والقدّيسين، نحن مدعوون للسير مع الله، ومواصلة رسالته، والشّهادة لإنجيل محبّة الله ورحمته الشّاملتين».

 

وفي زيارته لأراضي لبنان الحبيبِ (من الـ14 إلى الـ16 من سبتمبر/أيلول للعام 2012)، إذ سلّم "الإِرشادَ الرَّسوليّ" ("الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسطِ") للكنائس الشّرقيّة، توجَّه قداسته بالشُّكر والتَّشجيع والبركة إلى كنائس الشَّرق الأوسط جمعاء، وبالأخصّ الكنائس الكاثوليكيَّة ذات الحقِّ الخاصّ:

 

«يا كنائسَ الشّرقِ الأوسط، لا تَخفْنَ، لأنَّ الرَّبَّ حقّاً معكُنّ حتّى إنتهاء العالم! لا تَخفْنَ، لأنَّ الكنيسةَ الجامعةَ ترافقكُنّ بقُربها منكِ إنسانيِّاً وروحيِّاً! بمشاعرِ الرجاءِ والتّشجيع هذه بأن تكونوا مبادرين فعّالين للإيمان عبر الشّركة والشّهادة، سأسلّم يوم الأحد الإرشاد الرسولي لأخوتي الموقَّرين البطاركة، ورؤساء الأساقفة والأساقفة، ولجميع الكهنة، والشمامسة، والمكرَّسين والمكرَّسات، وللإكليريكيِّين، وللمؤمنين العلمانيِّين. "فتَشَجَّعوا" (يو ١٦، ٣٣)! بشفاعة العذراء مريم، أمِّ الله، أَستدعي وبعاطفة كبيرة فيضاً من النعم الإلهيِّة عليكم جميعاً! ليمنح اللهُ كلَّ شعوبِ الشّرق الأوسط أن يحيوا في السّلام والأُخُوَّة والحُرِّيِّة الدّينيِّة! ليباركَكُم اللهُ جميعاً!».