موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ أغسطس / آب ٢٠٢٠

ما أعظم إيمانُك، أيّتها المرأة!

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
ما أعظم إيمانُك، أيّتها المرأة!

ما أعظم إيمانُك، أيّتها المرأة!

 

الأحد العشرون (الإنجيل متى 15: 21-28)

 

كل إنجيل من الأناجيل الأربعة يعطينا جوابا كافيا عن السّؤال: من هو يسوع؟ من هو الله؟ وماذا يمكننا أن ننتظر منه، لنا ولعالمنا، بل وماذا ينتظر هو منّا ومن عالمنا؟ بل بالأحرى الجواب على السّؤال الّذي أشغل مارتين لوثر كل حياته: ماذا عليّ أن أعمل، حتى أجد إلهاً رحيماً؟. هل يستطيع إنجيل اليوم: لقاء يسوع مع المرأة الكنعانيّةِ الوثنيّة، التي رغم ما حدث لها مع أوّل لقاء مع يسوع لم تيأس، أن يعطينا جوابا على هذه الأسئلة؟.

 

لقاء يسوع مع الكنعانية اليوم جرى على الأراضي اللبنانية، حيث إنه قصد القريتين الوثنيّتين صور وصيدا المحاذيتين للجليل، والتي ما كان بعد وطِأهما(عبر إلى هناك بدون فيزا، لو كان اليوم لأوقفوه وخالفوه واشتبهوا بأمره). جاءهما للراحة من بعد مقارعة الكتبة والفرّيسيين العديدة حول النظافة والرّجاسة، حول الصوم، حول غسل الأيادي والكمّون وباقي المأكولات قبل أكلها. نعم هو احتاج إلى الراحة فابتعد عن تلك الأجواء المتكهربة. لكن للغريب كانت شهرته قد سبقته إلى هناك. هذا وكان النّاس يجتمعون على ذكره في كلِّ مكان. في تلك البلاد تقدّمت إليه امرأة كنعانية وثنيّة، تسأله شفاءً لابنتها. إن تعريف الإنجيلي عليها بهذه الصفة، أي وثنيّة، سيلعب دورا كبيرا في سير هذه القصة. حتى الوثنيين إذن، كانوا سمعوا عن صانع العجائب هذا.

 

حسب ما نعرفه عن يسوع، وحسب أوصاف وتقديم الأناجيل له، كان وديعا ومتواضع القلب، لكنّنا نصطدم اليوم بصورة  مختلفة عنه، وكأنها تكاد تكون غيرَ حقيقية، هو الّذي ما كان يرفض طلبا، وفي مكان آخر كان قد قال: كلّ ما تطلبون باسمي تنالونه، ما له اليوم لا يُعير هذه الكنعانية انتباها، ولا يسمع لطلبها المُلِحّ: "لم يُجبها بكلمة"! كانت ردة الفعل، كما سمعنا في الإنجيل. هو الذي ما كان جاء لبني شعبه بالدرجة الأولى: الأصحاء لا يحتاجون طبيبا، بل للمرضى والضّالّين والخطأة والمحتاجين. نستغرب منه كأنه لا يعير هذه الكنعانية انتباهاً. فهل ذلك لأنها امرأة، والمعروف في ذلك الزمان أنّ لا امرأة تكلّم رجلا ولا رجل يكلِّم امرأة علنا، أو لأنها وثنية؟ لا هذا ولا ذاك. يسوع قسا عليها لغرضٍ عنده. أسرار الله لا يفهمنا عقلنا الصّغير.

 

هي ما طلبت المستحيل منه، بل جاءته، ومعها إلى جانب الثقة الكبيرة، همّاً أكبر: وهو أنّ ابنتها الوحيدة مصابة بمرض عُضال، بل وأكثر من ذلك "يتخبّطها الشيطان تخبيطا شديدا"، فعلى يسوع، كما عمل ذلك مرارا، ولربّما كانت سمعت عن أفعاله هذه، أن يطرد هذا الشييطان منها. بهذا كانت هي واثقة، وإلاّ لما جاءت ليسوع بهذا الطلب. إنّنا وكلُّ الّذين كانوا متجمّعين حوله، ظنّوا أنّه سيأمر الشيطان من بعيد بالخروج، فيخرج منها ، كما استجاب ليائيروس، أحد روؤساء المجمع وشفى ابنته التي كانت أيضا على فراش الموت: إذهب فابنتك قد شُفِيت.، كذلك القائد الروماني حيث أقام ابنته طاليتا من الموت. لكنّه بموقفه اللآمبالي اليوم، إن صحّ التعبير، أوّلا لا يعيرُها انتباها،  فكأنَّه يرفض. وبعد توسّط التّلاميذ وحضورِها أمامه مترجّية يِحُرقى قلب، مساعدته العاجلة، إذا به أوّلا يُوسِّعُ دائرة الفصل بين بني شعبه والغرباء الأوثان. إذ " لا يحسن أن يُؤخذ خبزُ البنين، فيُلقى إلى صغار الكلاب!. وبالرّغم من هذا الدّرس الذي نفهم منه الرّفض، إلاّ أنها لا تتقاعس ولا تشعر بأنه أهانها، لأنها في قعرها عارفة، أنه ما لها سواه وسوى رحمته عليها وعلى ابنتها: إرحمني واشفِ لي إبنتي!. فهي لا تُبدي غضباً عليه ولا تتهمه باحتقارها كإمرأة، بل تُؤكِّد له صحة قوله، أي ان ابن البلد أولى بالمعروف. لكنها عارفة بالتالي، أنه لن يُخيِّب أملها، وأنه أمام إيمان قويّ فيها، سيكافئ هذا الإيمان. وعلى حق: يا امرأة! ما أعظم إيمانَك! فليكن لك ما تُريدين! هكذا انتهت هذه القصّة الحيّة، كالأفلام الطويلة المسلّية بخاتمة سعيدة، هابي إند Happy end

 

يسوع يستعمل لغة شعبه، فبقوله: البنين، هم من كانوا معروفين بأولاد إبراهيم. أما الكلاب فما كانوا يعنون فيها الحيوانات الحية، التي هم أيضا كانوا يربونها، من لا يتذكر قصة اليعازر الفقير وكلب الغني المُدلّل، لكنهم كانوا يعنون فيها، كلّ من ليس من نسل إبراهيم، إذن الأوثان أيضا. بهذا يلمّح لها يسوع أنّه ممكن لها أن تحصل كالأولاد، ما يحصل عليه الكلاب من أربابهم، ولو من تحت الطاولة. الكلاب أيضا تَشْبَع، إذ الأكل أيضا متوفِّر لها ولو من الخبز الذي يسقط تحت الطاولة، ويمكن أن يشبعوا قبل الأولاد الجالسين على الطاولة. وهذا ما أراد يسوع أن يفهمه لهذه الأم المحزونة. إن يسوع، عنده أيضا خبزا لها ولابنتها، رغم أن الأولوية لبني إبراهيم. هذا ما عناه بالكلمة، أن البنين يجب أن يشبعوا أوّلا. لكن قلب المرأة  يتفتّت حزنا، ولا يمنكها أن تنتظر أكثر، فها هو لم يُخيّب ثقتها، عندما أعلنت إيمانها. لا، إنَّ يسوع لا يردُّ طلبا ولا يترك يداً تعود فارغة.

 

قلب يسوع دائما ضعيف عند إعلان الإيمان به. فكل واحد كان بحاجة لشيء منه وأعلن إيمانه ناله. كم من مرّة نسمع من فمه: إيمانك أبرأك. إذهب بسلام!. أو: هل تؤمن؟.... نعم، الإيمان سلاح المؤمن قدام يسوع، الّذي يفتح لنا الباب على مصراعيه. لو كان عندكم إيمانا بقدر حبة الخردل، لقلتم لهذا الجبل: إنتقل من هنا لانتقل(متى 17: 19).

 

هو يعرف بالتالي، أن كلَّ الشعوب، ستكون مختارة بمستوى أبناء إبراهيم، وأنهم سيعودون كالسامريين من المنفى إلى جبل الله، الذي سيكون منصوبا عليه هيكل للصلاة. فبما أنه بمجيئه ابتدأ عصرُ الخلاص الجديد لأبناء إبراهيم، فها قد ابتدأ أيضا عصر الخلاص للوثنيين، مع ارتداد هذه الوثنية وإعلانِ قوّةِ إيمانها. فليكن لك ما تريدين! وفي تلك الساعة شُفِيت إبنتها.

 

نعم الكلمات: الصلاة، الإيمان، الرحمة هي التي تستطيع أن تغيّر العالم، لأنها تؤثِّر على قلب الله، فيدير نظره إلى عالمه لا ظهره. والأيادي المرفوعة للصلاة، تحرّك قلب الله، فيرأف بالمتضايقين. ومن يُشْعِر ويُظْهِر لله أنه فعلا بحاجة إلى رحمته، يحصل على الخلاص.

 

في عهد التلاميذ، الّذين أوكلهم يسوع بمُهمّة التبشير للجميع، كان حَدَثَ اختلاف في الآراء: هل نبشّر فقط أبناء إبراهيم أم غيرهم أيضا؟ وهذا كان سبب اختلاف بين رأيِ بطرس ورأي بولس. وبالتالي نجح بولس باقناع بطرس بقبول كل من يؤمن بيسوع ابن الله، لأن يسوع هو مخلِّص جميع البشر " إذ ليس بأحدٍ غيرِه الخلاص، وليس إسمٌ آخر تحت السّماء، قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أعمال 12:4). آمين.