موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٥ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

كوخي.. أول كرسي لكنيسة المشرق

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا
كوخي.. أول كرسي لكنيسة المشرق

كوخي.. أول كرسي لكنيسة المشرق

 

لا ننسى: "أنّ جميع الأشياء تعمل لخير الذين يحبون الله" (رومة 8 : 28)، وما بدا لنا مؤسفاً في حقبة ما، قد يسهم في حقبة أخرى في إستنهاض الهمم وإذكاء المحبة والتعاون للخير والبناء. والحكيم منا هو من يحاول الإفادة من دروس الماضي - حتى من مآسيه - لبناء حاضره وإعداد مستقبله على صعيد الفرد والجماعة في مسيرة هذه الكنيسة العريقة. ومما لا شك فيه أن مسيرتها عبر القرون العديدة لم تكن سهلة، فقد أعتراها المزيد من النور والظلمة، والكثير من المد والجزر. ومع هذا كان تاريخها حافلاً بالنشاطات الرائعة على مختلف الأصعدة وبالبطولات في الأمانة للمبادئ والقيم السامية لآباء الكنيسة الأولون، والذود عنها بأقوالهم وكتاباتهم ومواقفهم الشجاعة التي غالباً ما أدت إلى الشهادة في سبيل إيمانهم. برغم ما صادفتها من أوهان وخلافات لبعض من مسؤوليها، مما زرع في طريقها الأشواك والعثرات مما أدى إلى فرط حبل الوحدة المسيحية...!
 

أول كرسي لكنيسة المشرق   

 

ومع هذا لم يصيبها الأحباط، ولم تحد من حيوية رسالتها من أجل تحقيق الخلاص والوحدة. ومن هنا كانت تسمية "كنيسة المشرق" التي أطلقت على ذلك الشعب الذي تلقى الرسالة المسيحية، منذ نهاية القرن الأول الميلادي، في منطقة بين النهرين العليا، إنطلاقاً من الرها (أورفا الحالية في تركيا). وأنتشرت المسيحية من هناك شيئاً فشيئاً في ما بين النهرين الوسطى والسفلى. وأستطاع مؤسسها مار ماري أن يؤسس أول مركز مسيحي هام - بالقرب من العاصمة الفرثية (الأرشاقية) آنذاك - في منطقة قطيسفون (المدائن حالياً، على بعد 32 كيلومتر من جنوب بغداد)، والتي تتكون من أكواخ يسكنها خدام الملك ومزارعوه.

 

في كوخي تأسس أول كرسي لكنيسة المشرق. ومن هناك شعّت المسيحية إلى مناطق أخرى من بين النهرين ووصلت إلى بلدان الخليج، وتوجهت شرقاً نحو بلاد الفرس حتى وصلت الهند والصين واليابان. وكان قد تم إكتشافها من قبل البعثة الأثرية الألمانية عام 1929، ما تزال آثار عملية تنقيباتهم ماثلة للعيان. ويقول المنقبون إن كوخي مكونة من كنيستين: السفلى كانت مشيدة باللبن، أما الكنيسة العليا فكانت مبنية باللبن المفخور. ثم أكتسبت "كنيسة كوخي" على مر الأيام أهمية كبيرة، فقد تحولت إلى مقر رئيس كنيسة المشرق الذي كان يحمل لقب "الجاثليق" قبل أن يصبح "البطريرك" في القرن الخامس، وعرفت حينها بأسم "كرسي كوخي". ومنذ تشييد الكنيسة شهدت عمليات ترميم وتوسيع حتى عام 341 م، وبعدها تعرضت إلى الدمار والهدم من قبل الأحتلال الفارسي. مما أضطر المؤمنون المسيحيون إقامة الصلوات في البيوت، ثم أعادوا بنائها بعد منتصف القرن الرابع، لتصبح مقراً للبطريركية حتى 779م عندما قرر البطريرك طيمثاوس الأول نقل مقر البطريركية من كوخي إلى بغداد، عاصمة الدولة العباسية في عهد الخليفة المهدي. لتهمل كوخي ويحل بها الدمار إلى أن بدأت عمليات التنقيب. وقدمت هذه الكنيسة الكثير من الشهداء، وعقدت فيها مجامع عديدة لكنيسة المشرق، ودفن فيها نحو 24 جاثليقاً.

أمنيات مؤجلة

 

في نهاية هذا المقال الموجز، تراودنا أمنيات مؤجلة. وكلنا رجاء أن يولي المسؤولون - الحكوميون والكنسيون - مزيداً من الأهتمام بهذه الأماكن المقدسة التي شهدت نشأة المسيحية في هذه البلاد، وأرتوت بدماء الشهداء، وكانت مركزاً للأشعاع الروحي والفكري. لأنها لاقت أهمالاً واضحاً من قبل الحكومات المتعاقبة، وعساهم أن يعملوا شيئاً في سبيل صيانتها وأستكشاف المزيد من الآثار التي تشير إلى قدم المسيحية في بلاد النهرين. وهنا لا بد من التأكيد على نقطتين أساسيتين لتحقيق هذه الأمنيات:

 

أولاً: يتوجب على الدولة إصدار تشريعات تحمي التنوع الديني وتكرسه في دستورها ومناهجها وخطاباتها، كي تسهم في نشر وعي وثقافة تقبّل الآخر ونبذ التعصب والكراهية. بالإضافة إلى دعم البحوث العلمية التي تعمل على توثيق هذا التراث والحفاظ عليه وحمايته لكونه يساهم في وحدة العراق وأبناءه. وخاصة بعد زيارة ورحلة الحج التي قام بها البابا فرنسيس إلى العراق (5 – 8 آذار 2021).

 

ثانياً: لِمَا لا نسعى بالمطالبة في جعل موضع كنيسة كوخي محجّة دينية ومزاراً مقدساً، يقصده الزوار من داخل البلاد وخارجها. بل والمسعى الأهم هو جعله نقطة ألتقاء وتلاقي لرئاسات "كنيسة المشرق" مجدداً في "كوخي"، إكراماً لشهدائها وقديسيها الأولون.