موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

قداسة البابا فرنسيس: مع الله لن تغرق سفينتنا

بقلم :
حنا ميخائيل سلامة نعمان - الأردن
بقلم: حنا ميخائيل سلامة نعمان، كاتبٌ وباحثٌ

بقلم: حنا ميخائيل سلامة نعمان، كاتبٌ وباحثٌ

 

رأيتُ وجهكَ فإذا يكتمِنُ حُزناً ويطوي كَمَداً.. لكنْ ليس حُزن المؤمن كحُزن اليائس، ولا كَمَد المؤمن كَكَمَدِ القانِط، فإيمانُكَ أبتاه لا يُدرِكهُ ضعف ولا يسعى إليه فتور إذْ أنَّه مُسْتَمَدٌ من المَلأ العُلويّ، ويتَمَلَّى قوةً ومضاءً من ذاك الذي بتدبيره اختاركم خليفة للقديس بطرُسَ "صَخرة الكنيسة التي لن تقوى عليها أبواب الجحيم"، بُطرس مَن نال حُظْوةَ السيد المسيح وإنعامِه حين خاطبه "أُعطيكَ مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تَرْبِطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تَحُلُّه على الأرض يكون مَحلولاً في السماوات".

 

قدَّرتَ هولَ المأساة وفداحة المِحنة ومقدار الهلع والرعب الذي اجتاح العَالَمَ كُلّه مِن جرَّاء وباء فيروس كورونا المُهلِك الفتاك فتوجهتَ تطأ بِقَدَمِك أرض شوارع روما المُقفرة التي تَوقَّف فيها صَخب الحياة فلفَّها صمتٌ رهيبٌ وتَردَّدَت في جَنباتِها إيقاعات الحُزن! كنتَ بوداعةٍ واتضاعٍ تحُثّ الخُطى وتُسرع قدر مُستطاعِكَ غير آبهٍ لِتَعب سنوات العُمر.. تُريدُ أنْ تضعَ بإيمانٍ وثقةٍ ورجاءٍ عند قَدَمَيِّ المصلوب في الكنائس التي عرَّجتَ عليها عِبءَ العَالَم وهمومه وقلقه ومتاعبه، وتسأله أن يبعثَ مِن سَنا نوره العظيم مراحِمَه ورأفتَه.

 

رأيتُك تُقدِّم باقات وردٍ رَبيعيٍ على مذابِحها المُقدسة، ثمّ تُطرِقُ هامتك وتستغرق بالصلاة والمُناجاة والتأمل، وَيَرنو بَصرُكَ بعد ذلك نحو المصلوب فَتَبُثّ إليه بتأمُّلٍ خاشعٍ، ونَجوى عابدٍ نَقِيٍّ تَقِيٍ، مُعاناة العَالَم الراهنة وضيقته العظيمة مِن جرَّاء الوباء الذي فَجَأَ الجميع وباغَتهُم مُكتسِحاً مُتفشياً حاصداً دونَ شفقةٍ الأرواح!

 

في مقر كاتدرائية القديس بطرس، وفي السَّاحة المَهيبة التي أقفرت وَخَلَت على غير عهدِها أقمتَ الصَّلوات ورفعتَ الابتهالات، كان صدى صلاتك "لا تتركنا يا رب وسط العاصفة" يشقُ الدُّجى ويمزق صمتَ الليل ويتسامى ليصل إلى مَن أوقفَ العاصفة الهوجاء التي ضربت سفينة الرُّسل في بحر الجليل السيد المسيح تقدَّس إسمه. وبقلبٍ خافقٍ بالمحبة وعاطفٍة روحيةٍ مُتأججة ومع غزارة المطر المُنهمر.. توجَّهتَ بخُطىً مُتَّئِدَة مُتأنية صوبَ الصليب العجائبي وأخذتَ تصلي بحرارةٍ وتستمطر الرحمة لعالمِنا وتُفوِّض أمرَ ما حلَّ به لمشيئته القدوسة. هذا الصليبُ كثير المُعجزات، وهو عَينُهُ الذي كانت رَنَت إليهِ الأبصار، وارتَفَعَت نحو المصلوب عليه الصلوات والتسابيح بإيمانٍ وثقةٍ ورجاءٍ قبل قرونٍ خمسةٍ من الزمن فأنقذ روما وأوْقفَ وباء الطاعون. وأمامَ أيقونةِ القديسة مريم العذراء، قوس غَمام العهد الجديد أم المُعونة الدائمة صَلَّيتَ وسألتَ شفاعتَها عند مَن لا يرُدُّ لها طلباً المسيح الحيُّ لإنقاذ عالمِنا مِن الوباء.

 

في تلكَ العَشيَّة المباركة رفعتَ القربان المُقدَّس "سِر الحُبِّ الإلهي الحاضر معنا" وباركتَ روما والمَسْكونةِ كُلِّها، ومنحتَ نِعمةَ الغُفران الشامل في ظِلِّ تنامي ضحايا الوباء وضِمن مُحَدِّدَاتٍ، وَسَألتَ الله أن تحل البركة على روما والعالَمِ كلّه. كما ناشدتَ "جميع مُؤمِنيِّ العَالم أن يتحدوا معاً بالصلاة"، وتضرَّعتَ من أجل المرضى على أسِرَّة الشفاء ومن أجل الطواقم الطبية والتمريضية والمتطوعين وجميع العاملين في شتى مواقعهم لوقف الوباء المتفشي باطرادٍ.

 

في تلك العَشِيَّة دَعَوْتَ: "عَالَمنا الخائف والضائع كي يُعيد النظر في أولوياته ويعود للإيمان"، وأضفتَ: "إنَّه وقتُ الاختيار بين ما هو مهم وما هو عابر، وقت الفصل بين ما هو ضروري وما ليس ضرورياً إنَّه زَمنُ إعادةِ تصويب دَربنا". كما بَيَّنتَ مسيرَة العَالَمِ الراهنة بقولِك:" إننا في عالمِنَا سِرنا قُدُمًا بسرعةٍ عاليةٍ معتبرين أنفسنا أقوياء وقادرين على كلِّ شيءٍ، فامتلَكَنا الجَّشعُ للربحِ وأغرَقَتْنا الأشياء وأبهرَنا التَّسَرُّع ولم نستيقظ إزاءَ الحروبِ والظلمِ الذي ملأَ الأرضَ، ولم نستمع إلى صَرخة الفقراء وصَرخة كوكبنا المريض". وأضفتَ: "إن العاصفة تكشف ضعفنا وتُظهر تلك الضمانات الزائفة التي بَنينا عليها برامجنا ومشاريعنا وعاداتنا وأولوياتنا وَتُظهِرُ لنا كيف تَركْنَا وأهْمَلْنا ما يغذّي ويعضد ويعطي القوّة لحياتنا وجماعتنا".

 

قداسة البابا، عالمُنا سقيمٌ إذْ حادَ عن طريق الاستقامة، عالمُنا سقيمٌ فقد عَظُمَت الذنوب لمخالفةِ شريعة الرب ووصاياه، عالمُنا سقيمٌ فقد تَضَعْضعَت فيه المبادئ وَتَشظَّت فيه الأخلاق. جَورٌ وامتهانٌ لكرامة المِسكين والفقير والمُعْدَمِ.. يواكبُ هذا استهانة واضحة بطول أناة الرَّب وصبره! فعسى هذه الرَّجةِ المُنذِرَة والهزَّة المُفزعة الفتاكة -على هَولِها الذي لم نكُن لِنتمنَّاه- تُعيدُ إنسان العصر لرُشدِه.. وعساه يَعي أنَّه عابر سبيل على هذه الفانية قبل دينونة العدل الإلهي فيجعل مخافة الرّب في قوله وفكره وعمله. إنَّه وقتُ تجربةٍ وتوبةٍ بالفِعل فَهلَاَّ امتَثلْنا لِنُصْحِ قداستِكم: "على الجميع العودة الصادقة للإيمان والثقة الكاملة بالربّ وحضوره" مع تلبية نداء الرب: " قوموا وعودوا إليَّ".

 

ولْنَثِق بخطة الله الكُليِّ الصلاح للكون ونُسلِّمُ بقُدرتهِ ورحمتهِ ورأفتهِ واضعينَ نُصب أعيُنِنا قول القديس بولس الرسول" ولكنَّ اللّهَ أَمِينٌ، الذي لا يدعُكم تُجرَّبونَ فوقَ ما تستطيعونَ، بل سيجعلُ مع التجربةِ أيضاً المَنفذَ لتستطيعوا أنْ تَحتمِلوا".

 

إلى هُنا أمْسِكُ القلم عن الكتابة مُردِّداً مع قداستِكم "نناجيكَ يا رَبّ من بحرٍ هائجٍ استيقظ يا رَبّ ولا تتركنا في خضم العاصفة، وقُل لنا من جديد لا تخافوا لنُلقيَ عليك جميعَ همومنا لأنك تعتني بنا".