موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

إضاءةٌ على كتاب "رُسُل المَلكوت"

بقلم :
حنا ميخائيل سلامة نعمان - الأردن
"نحنُ لا نَهدف إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى.. "

"نحنُ لا نَهدف إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى.. "

 

على هَدي قول القديس بولس في رسالته الثانية لأهل كورنثوس "نحنُ لا نهدف إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى. فالذي يُرى إنما هو إلى حين، وأما ما لا يُرى فهو للأبد" يَمضِي سيادة المطران د. سليم الصائغ في كتابه الجديد المُعَنون "رُسُل الملكوت" ويُضيف: "سِرُّ العماد المقدس وضعكَ -أيُّها المسيحي- على طريقِ "ما لا يُرى" فقد جعل منكَ ابناً لله والكنيسة، ودعوتك الخاصة في الحياة سواء كانت دعوة كهنوتية أو تكريساً لله بالنذور أو سِرِّ الزواج المقدس أو حياة العُزُوبَة غير المُكرَّسة تضعُك في الإطار الرُّوحي والكنائِسِيّ والإنساني وفي المكان الذي يريدكَ الرَّب أن تكون، سائراً نحو الخلاص الأبدي ورسولاً حاملاً بُشرى الخلاص لنفوسٍ كثيرةٍ".

 

يضعُنا الكتاب بفصوله العشرة وما تشَعَّبَ مِن فُصولهِ مِن عناوين وأبوابَ مختلفة أمامَ مَسؤولياتِنا وواجباتِنا بصراحةٍ وشفافيةٍ، وقد تبدَّى هذا في مُقدِّمة الكتاب وجاءَ في شَطرٍ منها: "في هذا الكتاب نُحاول أن نضع القارئ المسيحيّ وجهاً لوجه أمام رسالته المسيحية ومتطلباتها الرُّوحية والعملية لعلَّه يكتشف عُمق المسؤولية الرُّوحية المُلقاة على عاتقه لتمجيد الله وللعمل الجَّاد لخلاصِ نفسهِ وخلاصِ غَيرهِ". وجاءَ أيضاً: "قليلون من المسيحيين يُدركونَ عُمقَ هذه المسؤولية ويعيشون حياة إنجيلية ويحققون اتحادهم الذاتي بالله الذي يجعل رسالتهم مُثمِرةً ليس خارج كيانهم، بل في ذاتهم وباشتراكٍ حقيقيٍ في حياة الله، إنهم يُدركونَ ويعيشونَ ويتنفسونَ حُبَّ الله لخلاصهم وخلاص النفوس". وفي الوقت ذاته، فإن هناكَ من العَاملين في حقل الرسالة الرِّعائية الكنائِسِيَّة على مُسمياتها المختلفة ودرجاتها المُتعدِّدَة وكثرة من العَلمانيين بسائر صِفاتِهم وأعمارهم: "يحتاجون إلى توعية وإلى تصويب مواقفهم الروحية والرسولية كي لا يبقوا ضائعين في عالم الوهم والخيال وكي يُحقِّقوا بنعمة الله الهدف من الرسالة ومن حياتهم المسيحية" والقولُ هُنا للمُؤلِّفِ. ولمزيدٍ من المُكاشفة هذه ولوضع النقاط على الحُروف يُضيفُ قائلاً:" كثيرونَ لا يكترثونَ للنعمةِ وللرسالةِ لجهلٍ منهم، وكثيرونَ غيرهم يتذرعون بحجج واهية ويعتبرون أنفسهم غير أهل لهذا العمل الرسولي والروحي العسير الذي يتطلب توجيه كل شيء في حياتهم إلى مجد الله وخلاص النفوس".

 

على ضَوء ما سبقَ، استحقَّ الكتاب الذي بين أيدينا الآن صِفته الواردة في مُسْتَهَلِّهِ بأنَّهُ " كتابٌ للتأملِ وَمُحاسبةِ الذات" ومن هُنا إنْ طالعَهُ القارئ بتمعنٍ واهتمامٍ وفَهْمٍ: أعطاه قوةً للتغيير" وجعله يَعِي الدورَ المَنوط به ويُعيد تقييم ذاته ونهج سُلوكِه، وبتعبيرٍ آخر وكما ورد في النَّص: " قد يُعيد إلى ذهنه مساربَ روحية وراعويَّة كانت مُهملةً أو مَنسيَّةً، وقد يُشجعه على المزيد من التوبة والصلاة والتضحية فيسعى إلى الكمال لمجد الله وخلاص النفوس".

 

وبعدُ، فإنَّ هذا الكتاب الذي قضيتُ بصُحبَتِه المُثمِرَة بضعة أيام وأجزاء من لياليها يُعَدُّ مُنْجَزاً مُتفرِّداً في موضوعاته وَسَامياً في غاياته الرَّوحية والتعليمية والتثقيفية والإرشادية. وأراهُ يُشكل صرخةً مُدَوِّيَةً مِن قلبِ راعٍ شُغِف بحُبِّ المسيح وأمِّه الكلية القداسة مريمَ، واتقدت في صدره غِيرة مُتأجِّجَة على الكنيسة ورُعاتها والعاملين في حقلها وسائر أبنائها وعلى مستقبلِهم الروحي والخلاصِي، كما اتَّجَهَت عِظاته ودعواته ومؤلَّفاته على مدى عقودٍ من الزمن ولا تزال لإيقاظِ القلوبِ وإنارةِ الأذهانِ وتوعِيتها مع شَحذ الهِمم للشهادة للمسيح والعَمَل على أن يشعّ نور المسيح فيها بصفتها "نور العَالَم" ولأنها وكما يقول: "مُخَلَّصَة وَمَدْعُوَّة لكي تُخلِّص نفوس غيرها بنعمته ودعوته".

 

"كُلنا رُسُلٌ ونكون فاعلينَ على قَدر مشاركتنا في عمل المسيح الخلاصي" هذا ما جاء في مَوضعٍ من الكتاب وَوردَ أيضاً:" إنَّ العمل الرسولي يتطلب من الرسول أن يتحلى بعدد من الفضائل كالصبر والاصغاء والتجرد والغيرة والاستعداد للخدمة الرسولية بالإضافة الى الثبات في القيام بالواجبات الروحية". "هناك غرضٌ سامٍ نبيل مقدس من اختيارِكَ لرسالَتِكَ وطالما اختارك هو فإن حمايتكَ ورعايتكَ تأتي مِن السماء وبوقتها".

 

إن الإضاءةَ الخاطفة على كتاب "رُسُل المسيح" لا تُغني عن قراءَتِه لِمَا احتشد فيه مِن الدُّرَر الروحية الإنجيلية، وأقوال السيد المسيح وتعاليمهِ، وَنَهجِ رُسُلِهِ الأطهار وأقوالهم بما في ذلك أقوال القدِّيسين والقدِّيسات، ومجموعة نصوص لمجامع الفاتيكان وفقرات بالغة الأهمية من التعليم المسيحي وغيره. وإذ يتعذرُ الإحاطة بها في هذا المقال غير أنِّي أقفُ عند هذه الوَمَضات التي تتجه بوصلتها نحو أغراض الكِتاب وغاياته: "المسيحي رسولٌ مدعوٌ الى شَرف العمل لأجل المسيح، ومع المسيح لنشر بُشرى الخلاص واعادة النور والأمل للنفوس".

 

"إنَّ القداسة تتطلب تطهير الحواس والرُّوح تطهيراً جذرياً من كل شائبة من الأنانية والتَّشتُّتِ والانقياد للعواطف الطبيعية وقلة الصبر وقلة الانضباطية والتمسك بالآراء الشخصية". "ينبغي وضع تعاليم المسيح موضع العمل للمحافظة على وديعة الإيمان والرجاء والمحبة ".  "المسيحيون مدعوون بأجمعهم للشهادة للمسيح، كُلّ منهم في إطار دعوته الخاصة وفي إطار النعمة المُعطاة لكل منهم". "الارتقاء في سُلَّم القداسة يتطلب عدم التعلق بالدنيويات". " لا يقبلُ المسيحُ حُبَّاً محدوداً أو مشروطاً". "مِحَكُّ الإيمانِ هو التطبيق وأن يكونَ المؤمِن عنصراً فعَّالاً مؤثِّراً". "جميع المسيحيين أفراداً وجماعات، هُمّ رسل يحملون شُعلة الإنجيل".

 

وتجدُ المؤلِّف حفظه الله في فصلٍ من الكتاب يوقظ فينا حقيقةً جوهريةً تكاد تكون غَفَلَت عنها الأعين تتعلق بانطلاقتنا الأولى نحو القداسة لحظةَ نِلنا نِعمة سِرِّ العُماد فيقول: " لقد بَذَرّ سِرُّ العُماد في نفوسنا بذارَ القداسة، أي النعمة، وجعلنا أبناء الله بالتبني وشركاءَ في طبيعته الإلهية. بالعماد فاضت فينا النعمة الإلهية فأصبحنا أصحاب حقٍ على القداسة وأصحاب مسؤولية فيجبُ علينا أن نَحيا (كما يليق بالقديسين) أي حياة قداسة بأفكارنا وأقوالنا وبشعورنا وأعمالنا".

 

وَتمضي في صَفحَات الكتاب فيستضيء ذِهنك أمام ملامحَ تستأسِر انتباهكَ كهذه: "هنيئاً للنفس التأملية التي لا همَّ لها سوى أن تنظرَ إلى يسوع لتقتدي به وتتأمل فيه وتُحبه بالصمت والتضحية وانتصار الروح..". "كلما تقدمنا في الحياة الروحية سَهُلَ علينا أن نكون رُسُلاً ورعاةً صالحين". "جميع المسيحيين على وجه العموم هم رُسل المسيح، كّلّ منهم في دعوته الخاصة في مكانه وزمانه". "الملكوت هو في معاينة الله"، والملكوت هو الدخول في فرح الرَّب"، "ملكوتُ اللهِ عدلٌ وسلامٌ وفرحٌ بالروح القُدس".

 

"العَلمانيون وبصفتهم أبناء الكنيسة استناداً إلى سِرَّي المعمودية والتثبيت هم شهودٌ ورُسُلٌ للمسيح في حياتهم في العالم، لهم أيضاً يقول المسيح: أنتم نور العالم.. أنتم ملح الأرض".

 

"إنّ مشاركة العَلماني في الخدمة النَّبَويَّة للمسيح تؤهّلهُ وتُجنّده لقبول الانجيل بالإيمان والتبشير به بالكلمة والأعمال ودونَ الترددِ في التنديد بالشر بجرأة"." العَلمانيون هُم أعضاء في جسد المسيح السرّي وشُركاء في مُهمته الخلاصية.. وهُم بمثابة حِجارة الرَّعية الحيّة".

 

أمامَ هذه الإنعامات التي خصَّ بها الله العَلماني وغيرها الكثير يتبدَّى لنا مدى الألم الذي يعتصرُ فؤادَ المُؤلِّف من النهج السلبي لكثرةٍ من العَلمانيين فيقول: "نشعرُ بأسفٍ شديدٍ حينَ نرى كثيرينَ من أبنائِنا العَلمانيين يعيشون كغرباء عن الكنيسة، لا يكترثون بمسؤولياتهم الكنسِيَّة ويتجاهلون أمور خلاصِهم وخلاص الآخرين". ثمَّ تراهُ يَستَحِثّهم قائلاً: "المؤمنون العَلمانيون مدعوون بفعل معموديتهم لأن يعيشوا حياة تنسجم وتعاليم الانجيل".

 

لقد ازدحمت محطات الكتاب في ذهني، كما توقفتُ مَليَّاً عندَ الأفكار والنُّصْحِ والتوجيهات التي انبَسَطت أمام عَيْنَيّ ومِنها:

 

"الروح القدس فاعل في رسالة الكنيسة قديماً وحديثاً وحتى منتهى الدهر".

 

"الأمانة على الدعوة الرسولية والأمانة على الحياة الروحية أمرانِ حتميَّان، كذلك التمسُك بالقِيم الإنجيلية وعلى رأسها المحبة". "بنعمة الكهنوت يُصبح العلماني كاهناً أي يُصبح يسوع المسيح حاملاً رسالة الخلاص والملكوت". "ينبغي أن تكون حياة الكاهن برُمَّتِها متشبِّعة بالصلاة". "أن يُقرِّرَ الكاهن في نفسهِ أن يكونَ رجل صلاة وتضحية مثل معلمه يسوع كي يحيَا حياة طهر وقداسة". "طهَّر الروح القدس الرُّسلَ في عُمق نفوسهم وأنارهُم وأشعل غيرَتَهُم للتبشير بالملكوت". "إتمام ما وعَدَ به الكاهنُ وتَعَهَّدَ يومَ رسامَتِهِ المقدسة في الأمانة والثبات على القيام بواجبات حياته الروحية والكهنوتية على أكمل وجه.. وأن يرى دوماً في الناس" ما لا يُرى" أي أن يرى نفوساً أحبها المسيح ومن أجلها مات على الصليب ليخلصها من براثن الموت الأبدي".

 

"الأنانية والاتكال على الذات هُما العَدوّان الملازمان للنُمو الرُّوحيّ والنُضوج في الحَياة الروحِية والرَّسولية".

 

"يعمل الروح القدس في الكنيسة ويبني فيها المحبة والقداسة والأمانة على الاقتداء بالمسيح، والتلمذة له في السير نحو الملكوت"

 

"المسيحُ رأس الكنيسة غير المنظور مُقيمٌ معها إلى منتهى الدهر". "المسيحُ قدوسٌ وقد جاء بنفسه من أجلها ليقدِّسها". "روحُ القداسة يُحْيي الكنيسة، وقداستُها تتألق في القديسين وخاصة بمريم البتول الكلية القداسة البريئة من الخطيئة الأصلية والخطيئة الفعلية على السَّواء". "يُنجدنا الروح القدس بمواهبه السبع بالحكمة والفهم والمشورة، بالقوة الروحية والعلم والتقوى والمخافة والانقياد لإلهاماته، ويجعلنا نقطف ثمار الروح وهي المحبة والفرح والسلام والأناة واللطف والصلاح والايمان والوداعة والعفاف".

 

"التوبة هي الأساس لبناء حياتنا الرسولية والروحية". "في سرّ التوبة يريد الله أن يُحطِّم كبرياءَكَ وأنانيتَكَ وأن تُمارس فضيلة الايمان بكلامِه والطاعة له". "إتَّضِع أمام الله ولا تسمح لكبريائِك أن يمنعك من الإقرار بخطاياك والتوبة نيلاً للرحمة الإلهية والغفران". "يسوع هو الذي يغفر الخطايا من خلال الكاهن". "النَّفسُ الممتلئة من الله تُثمر ثِمار الله أو بالأحرى يُحقق الله فيها ثِمارَهُ اليانِعة".

 

بعد هذه الإطلالة المقتضبَة على كتاب "رُسُل الملكوت" نتطلع إلى أن يُصار إلى تعميم مضمونه وعمل حلقات دراسيةٍ وبحثيةٍ في رعايانا الموقرة المختلفة للتعمق في مواد فُصولِه وأبوابه التي غطَّت وامتدت لتجتاز ما هو أوسع مدىً مِن عنوانه لتعميم الفائدة الروحية والتوجيهية الإصلاحية المَنشودةِ منه. ولعل في إدراج محتواه ضمن مناهج التعليم المسيحي ما يؤتي الثمار اليانعة فنكون بهذا قد أعدنا مَسيحنا الحَيّ ورسالته الخلاصية إلى القلوب الحَجَرية التي تنكرت له وأنكرته!

 

بقي تقديم الشكر والعرفان لسيادة المطران د. سليم الصائغ مدَّ الله في عُمُره على هذا الإنجاز القَيِّم ولإبرازهِ للنور لِنقطف منه الثمار الروحية المَرجوَّة لخلاصِنا، ولإيقاظِه لنا لنُعيد تقييم أنفسنا ونتفكر بعمق رسالتنا المسيحية وسُموِّها وغايتها القصوى ولنكون أكثر وعياً بمسؤولياتنا في زمن الفتور الروحي والتَّشَظي القِيَميّ الأخلاقي حيث تجري الأمور على غير ما يُرضي العقل المُدركَ ولا يُريح القلب!