موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٠ مارس / آذار ٢٠٢٠

فإني لهذا أُرسلت

بقلم :
د. رامي نفّاع - الأردن
لي صديق يبدع في قلب أفكاري وتغير موازين حياتي

لي صديق يبدع في قلب أفكاري وتغير موازين حياتي

 

أبحث في يومي عن الراحة والهدوء، وأعتقد أنهما يتحققان بالقرب من الأشخاص اللذين يقدروني ويحبوني ولا يتوانون في تعزيزي ومدحي والإعلاء من شأني، نعم، إنه شعورٌ جميل أن يلتف الناس حولي، وأن أكون محط أنظارهم ومحور كلامهم، أكاد أجزم إني عاجزًا عن إيجاد ما يمكن أن يفوق هذا الشعور أو الحالة ألقًا وروعة. وأنا أعرف أن أقراني يبحثون عن جزء مما لي من حظوة وشعبية وقبول، وأنهم لو أصابوا نزرًا ولو يسيرًا منه لتعلقوا به وما تركوه، ومن باب الأمانة والحقّ أنا أيضًا ما كان لي أن أتنازل أو حتى أفكر في خسارة أي من هذا.

 

لكن، لي صديق يبدع في قلب أفكاري وتغير موازين حياتي، صديق يختص في هز سكينتي المصطنعة وراحتي الزائفة، صديق يضعني أمام أبسط الأسئلة وأصعب الإجابات، ومما يزيد الأمر صعوبة أن صديقي هذا لا يطلب مني شيئًا لم يقم به هو أولاً. صديقي هذا هو يسوع المسيح.

 

كان ليسوع لو بقيّ في كفرناحوم أن يكون له شأنًا عظيمًا بينهم، وكان له أن ينعم بالراحة والهدوء، لا بل والتبجيل والإكرام، لكنه أبى ذلك ورفض الاستسلام لمغريات هذه الراحة الزائفة، ولم يكن رفضه هذا تعنتًا منه أو انفعالاً عابرًا، بل كان موقفًا حازمًا صادرًا عن رؤية واضحة وعزيمة قوية ووعي لما هو عليه ولما يريده وما يجب عليه أن يفعله. فهو لا يبحث عن الراحة والهدوء الذي أبحث عنهما أنا، ولا عن التبجيل والمدح. إنه يوضح ما يريده علنًا "عليَّ أن أبشر سائر المدن أيضًا بملكوت الله" (لو4: 43).

 

أتساءل في هذا المقام، ماذا أريد أنا؟ وماذا عليَّ أن أفعل؟ أو ما الذي أسعى لتحقيقه؟ السؤال عن الغاية التي أرمي إليها وإن كان يبدو للوهلة الأولى سهلاً أو حتى بديهيًا، إلا أنني أقف عاجزًا أمام الإجابة عنه.

 

يُغريني أن أكون محاطًا بمن يُسهّل عليَّ عملي، ويقدّر أبسط أفعالي، ويكد في مدحي وتبجيل تصرفاتي، أستكين لهذه الحالة حتى أكاد أرفض أي تغير من شأنه المساس بهذا المحيط، فلماذا أذهب لمكان أحتاج أن أتعب فيه وأبذل جهدًا؟ لماذا أتجاسر على بيئة صعبة، وظروف أقسى؟ ببساطة لماذا استغني عن راحتي وامتيازاتي؟

 

بصراحة، السبب هو صديقي "يسوع". صديقي هو سبب ارتباكي هذه المرة مع أنه دائمًا يكون بر الأمان الذي أتوق للوصول إليه فأجد راحتي، صديقي الذي لا يطلب مني شيئًا لم يقم به هو أولاً. لقد ترك كفرناحوم، لماذا ترك يسوع كفر ناحوم؟ أيُّ فعل هذا؟ لقد رحل عنها وعن جمالها وألقها، وهي التي اجتمع فيها البحر والجبل وامتد فيها السهل والشجر، رحل عنها وفيها صنع المعجزات وذاع صيته بين أهلها حتى أعجبوا به وباتوا يسيرون في أثره ويطلبون قربه ويجدون في البقاء معه وملازمته حتى حين يعتزلهم في "مكان قفر".

 

ومع ذلك، وبخلاف ما هو متوقع من أي شخص يحظى بهذه المكانة، تركهم صديقي ومضى! نعم تركهم يسوع لأنه يريد أن يبشّر بملكوت الله، أي وضوح في الغاية، وأي وعي هذا؟ والسؤال الأهم، أين نحن، أين أنا من هذا؟ مباشرة وبكل وضوح ومن دون مقدمات أو مبررات، يقدّم يسوع ويبرز الهدف الأعظم والغاية القصوى "فإني لهذا أرسلت" (لو4: 43). هذا الإعلان لا يمثل يسوع وغايته فقط، فكلنا مرسلون، كهنة وراهبات مكرسين ومؤمنين علمانيين، لا بل أكثر من ذلك حتى غير المؤمنين هم أيضًا مرسلين، لكنهم ظلوا رسالتهم!

 

للمفارقة، كفرناحوم تعني "التعزية"، ورحيل يسوع عنها يقودني للتأمل بأن لا تعزية في هذا العالم، ولا عزاء في جماله أو راحته وهدوءه، لا عزاء في التكريم والتبجيل من الأفراد أو الجماعات، ولا تعزية في المدح والشعبويات الفارغة، لا تعزية إلا بيسوع المسيح. لقد ترك يسوع التعزية "كفرناحوم" ليبشر بملكوت الله في مدن أخرى.

 

كان المسيح يعلم ما ينتظره في أورشليم، كان يعلم ما سيمرّ به من آلام وعذابات، كان يعلم أي وجع سنفذ في قلب أمه العذراء، وأي خيانة سيتعرض لها، أي جلد أي إهانة وأي نكران... ومع هذا كله مضى وهو يردد في نفسه "فإني لهذا أرسلت" (لو 4: 43).