موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

حمل الصليب ومعانيه

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثالث عشر من السنة: حمل الصليب ومعانيه (متى 10: 37-42)

الأحد الثالث عشر من السنة: حمل الصليب ومعانيه (متى 10: 37-42)

 

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على توصيات يسوع لتلاميذه في حمل الصليب؛ وحمل الصليب هو رمز للجهاد الداخلي الذي يتوجب على تلميذ المسيح ان يخوضه في شهادته أمام العالم (متى 10: 37-42). فهو شرط أساسي لكل تلميذ اتَّخذ المسيح معلما للحياة. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 10: 37-42)

 

37 مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي.

 

 تشير عبارة "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ " الى تعبير يبدو أنّه يضع تناقض بين علاقات العائلة وإتّباع يسوع؛ لكن يتضَّح لنا ان هذه الآية لا تجيز لنا إهمال واجبنا تجاه والدينا، بل ركز يسوع في أكثر من مرَّة على واجب محبة الوالدين (مرقس 7: 11)، وهي وصية من وصايا الله العشر التي تقضي بما للوالدين من حقوق على الأولاد (لوقا 18: 20، خروج 20: 12). ولكن ما تعنيه هذه الآية هو ضرورة اتخاذ القرارات في حياتنا من خلال اختيارنا لله، لان إتباع يسوع والايمان به يمكن ان يثير في بعض الأحيان مقاومة من قِبل من هم قريبون منا، وهنا يطلب منا يسوع تفضيله على غيره حيث يجب ان يكون حب المسيح قبل حب الأبناء لوالديهم. فمحبة الله تأتي في الدرجة الأولى ومحبة الوالدين ورابطة الدم والاسرة تأتي في الدرجة الثانية.  بمعنى انه يتوجب على الانسان ان يحب أوّلاً الرّبّ يسوع المسيح! ومن خلال الرّبّ يسوع المسيح يُمكن المرء ان يُحبّ والديه واهله والآخرين؛ ومن دون المسيح يحبّ المرء نفسه في الآخرين؛ ولا يحبّ الآخرين لذواتهم؛ تبدأ المحبة عموديًّا بين الإنسان وربّه؛ ومن ثمّ، تنزل، بالله، إلى الآخرين. كما هو التّعبير المستعمَل في كنيستنا، نحن نحبّ الآخرين في المسيح؛ امّا عبارة " أَحَبَّ " في الأصل اليوناني أَحَبَّ φιλέω (معناها محبة الاهل وصلات القرابة) فتشير الى من فضَّل اباه او أمه على المسيح، كما جاء في نص انجيل لوقا الموازي "لَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ" كما ورد في الأصل اليوناني οὐ μισεῖ τὸν πατέρα ἑαυτοῦ καὶ τὴν μητέρα (معناه لم يُبغض) ويعني هذا الفعل هنا " كان اقل حبّاً" علما ان لغة العهد القديم لا تعرف أفعال التفضيل (التكوين 29: 31).  وبالتالي قد تُصبح هذه المحبة عقبة في طريق الذين يريدون ان يسيروا وراء يسوع؛ وللدلالة على المحبة لله وللقريب فيستخدم إنجيل متى فعل "ἀγαπάω" (متى 5: 43، 19: 19 و22: 37-39) ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "إن أحببنا الرب من كل القلب يجدر بنا ألا نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء". أمَّا عبارة "لَيسَ أَهْلاً لي" فتشير الى عدم استحقاق الإنسان ان يتبع يسوع، وبالتالي لا يستحق ان يعترف به يسوع امام آبيه السماوي؛ فاعتراف المسيح بالإنسان أفضل شرف وخير بركة له. وباختصار، إنّ يسوع لا يريد في هذه الآية أن يُلغي الوصيّة الرابعة إنما أراد ان يؤكّد على أولويّة الإيمان بالله، ودعوة الى محبة الله فوق محبة العائلة وان نحب العائلة من خلاله تعالى. ويعلق البابا فرنسيس " من خلال محبّة الله، تتحوّل الروابط العائليّة و"تمتلئ" بمعنى أعمق وتصبح قادرة على الذهاب أبعد من ذواتها لتخلق أبوَّة وأمومة أشمل، وتقبل كإخوة وأخوات حتى أولئك الذين يعيشون على هامش أيِّ رباط " (المُقَابَلَةُ العَامَّةُ 2 /9/ 2015). يدعو يسوع تلاميذه في هذه الآية الى وجوب تفضيله على أعزَّ الاهل والأقارب. 

 

 38 ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي.

 

تشير عبارة "مَن لم يَحمِلْ صَليبَه " الى الذكرى الأولى للصليب في الانجيل، وفيها إشارة الى نبوءة بصلب المسيح؛ حيث كانت عادة عند الرومان للمحكوم عليه تُقضي ان يحمل صليبه الى مكان الإعدام، وهذا يدلنا كيف أصبح حمل الصليب كناية عن حمل الخزي والعار والتعرض للخطر والالم حتى الموت. وهذه الكلمات انذار للرسل حيث انَّ رسالتهم تحمل الاضطهاد في طيِّاتها. امَّا عبارة " صَليبَه " فتشير الى عبارة مجازيّة، وتعني الألم والذّل والعار والموت العنيف بسبب الإيمان بالمسيح. أمَّا عبارة " يَحمِلْ صَليبَه " فتشير الى مشاركة المسيح في الإهانة والآلام والزهد في النفس والتجرد وتعرض حياة التلميذ للخطر في سبيل يسوع وبشارة الإنجيل. فحمل الصليب يعني قبول ما ينبغي ان يتحمله التلميذ كوسيلة للتضحية بشخصه حتى الموت، فهو ليس حَملاً للضيقات والاتعاب فحسب بل أيضا للموت ايضا. فحمل الصليب تعني احتمال الألم برضى وبدون تذمر، وحمل الصليب هو أيضاً قبول تقديم الجسد كذبيحة حية كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة" (رومة 1:12). ومن هذا المنطلق، يعتبر حمل الصليب شرط من شروط إتِّباع الرب ونتيجة اتباع المسيح يتقبل التلميذ كل نتائج الطاعة، ويتحمل كل العواقب حتى النهاية.  وهذه الكلمات تُمثل أساس تعليم بولس الرسول عن اتحاد المؤمن بصليب المسيح "فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي (غلاطية 2: 20). والعجيب أن من يقبل الصليب يملأه الله فرحاً على الأرض كما حدث مع الرسل الاوائل في بدء تاريخ الكنيسة "دَعَا المجلس اليهودي الرُّسُلَ فضَرَبوهم بِالعِصِيّ ونَهَوهُم عنِ الكَلامِ على اسمِ يسوع، ثُمَّ أَخلَوا سَبيلَهم.  أمَّا هَم فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم " (اعمال الرسل 5: 40-41)، ومن يقبل الصليب ينال أيضا مجداً في السماء كما جاء في تعليم بولس الرسول " لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة (8: 17). اما عبارة " يَتبَعْني" فتشير الى السير في طرق يسوع ليأتي بجميع البشر إلى الخلاص، وهو نهاية الخروج الجديد الحقيقي. فإتباع يسوع لا يعني اعتناق التلميذ لتعليم أدبي وروحي فحسب، وإنما مشاركته المسيح المعلم في تجاربه واحتمال المصائب والإلام ومشاركته في مجده (متى 19: 27). يدعو يسوع تلاميذه في هذه الآية الى وجوب تفضيله على الراحة والصيت ويدعو الى الجهاد الروحي "يمر طريق القداسة عبر الصليب. وليس من قداسة تخلو من التجرد ومن الجهاد الروحي " (تعليم المسيحي 2015).  

 

39 مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها.

 

تشير عبارة " حَفِظَ " في الأصل اليوناني εὑρὼν (معناها وجد) الى ما ورد في موضع آخر في الانجيل "الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25). أمَّا عبارة "الحياة" في الاصل اليوناني ψυχὴν (معناها النفس كمرادف للعبرية " נַפְשׁ" التي تعني الشخص او الذات) فتشير الى الحياة الطبيعية او حياة الذات بالمقابلة مع الحياة الروحية (العبرانيين 4: 12). ان النفس هي مركز العواطف والرغبات، وفي كل الكتاب المقدس يعتبر الاكل والشرب من وظائف النفس؛ أمَّا عبارة "حَفِظَ حياتَه" فتشير الى امتلاك الحياة والاحتفاظ بها لذاته بشكل أناني للربح او للحصول على شيء من الحياة لنفسه حيث ان من يتصوَّر أنه يخلص نفسه بإنكاره إيمانه بيسوع وحمل صليبه فهو في الحقيقة يُضيِّع نفسه ويخسرها. ونحن إذا رفضنا صليب أتعابنا وآلامنا نخسر حياتنا الأبدية في سبيل ربح الأرضيات الزمنية أو الفانية؛ فمن ينكر المسيح ليجد الحياة الأرضية يضيع الحياة السماوية أي نفسه.  أمَّا عبارة " ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها " فتشير الى موقف التلميذ تجاه نفسه هو موقف نكران الذات وتخطي الذات بحيث يصبح المسيح مركز حياته في مواصلة عمل يسوع بإعلان البشارة (مرقس 1: 1)، وهذه البشارة قد تحمل التلميذ على التضحية بحياته على خطى معلمه الإلهي الذي بلغ حبه الى الموت على الصليب.  ويوضِّح يوحنا الإنجيلي هذه الآية بقوله "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 12: 25)؛ أمَّا عبارة " في سبيلي " فتشير الى الالتزام القائم على العلاقة التي تربط بين التلميذ والمسيح. وقد تكرَّرت ثلاث مرات في الفصل العاشر (متى 10: 18، 21، 39)؛ أمَّا عبارة "يَحفَظُها" في الأصل اليوناني εὑρήσει (معناها يجدها) فتشير الى حياة المؤمن التي يجدها في الحياة الأخرى في العالم الآتي، وهذه الحياة الأبدية هي اوفر من الحياة الأرضية كما وعد يسوع " أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 11).  فالحياة التي نضحي بها في خدمة الرب في هذا العالم نجدها في الحياة الأبدية. تعرض هذه الآية نفس الحقيقة من وجهها السلبي (مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها) والايجابي (ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها)؛ فالتمسك بهذه الحياة يجعلنا نخسر المسيح، وعدم التمسك بهذه الحياة واطماعها يُحرِّرنا ويجعلنا من أتباع المسيح "لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25). فالشهادة للمسيح تتطلب بذل النفس في سبيل شخص المسيح ونيل الحياة الابدية. يدعو يسوع تلاميذه ان وجوب تفضيله على الحياة نفسها. محبة الحياة أقوى من محبة الأقارب، ولكن محبة المسيح يجب ان تفضل على كلتيهما.

 

40 مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني.

 

لا تشير عبارة "قَبِلَكم" الى الترحيب بالضَيف فحسب إنما الانفتاح على الآخر، والأكثر من ذلك هو الاكرام والاصغاء لتبشير المرُسلين باعتبارهم رسل المسيح. فالمدعوّون لاستقبال التلاميذ مطلوب منهم قبول التغيير في حياتهم أيضا.  أمَّا عبارة " ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني "فتشير الى المساواة بين المُرسِل والمُرسَل، بين الرسول ومُرسله، وكانت هذه المساواة أمرا مألوفا في الدين اليهودي. وإذا كان الرسول يساوي مُرسله، فليس ذلك نظراً لشخصيته، بل بحكم المهمة او الوظيفة او الرسالة التي أُوكلت اليه من قِبل يسوع، وعبر يسوع من قِبل الله. علاقة يسوع بالتلاميذ تجعل الذين يقبلونه، يقبلون الابن، والذين يقبلون الآبن يقبلون الآب. وحين يستقبل الناس الرسل، فهم لا يقومون فقط بواجبات الضيافة (العبرانيين 13: 2)، بل يُظهرون خضوعهم لكلمة يسوع التي يحملها الرسل. فقبول الرسول أو التلميذ هو قبول المسيح بالذات، وبالتالي قبول الله الآب الذي أرسله، ويضيف لوقا الإنجيلي " مَن قَبِلَ هذا الطِّفلَ إِكراماً لِاسْمي فَقَد قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 9: 48). وقبول الآخر هو وجه المحبة المُشرق. بعد ان ذكر المسيح ما يلحق تلاميذه من المصائب عزَّاهم بان ذكر مشاركته لهم في الاكرام، وانه يجازي مُكرِّمهم كمكرم للمسيح نفسه. وغاية هذا الكلام تشجيع التلاميذ في تبشيرهم بالإنجيل وتعزيتهم حين يُرفضون.

 

41 مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال

 

تشير عبارة " قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ " الى قبول الُمُرسَل كنبي الذي له كلمة حقيقية لمن يصغي الى نبوءته ويطيعها ويُكرمه باعتبار رسول الله. اما عبارة "لأَنَّه نَبيٌّ" في الأصل اليوناني εἰς ὄνομα (معناها باسم نبي) فتشير الى صفة النبيٍ. والنبي هو من يتكلم او يكتب من خلال قوة الله. وعرف العهد القديم عدداً كبيراً من الانبياء. وكان محور نبواتهم عن مجيء المسيح. وكانت معيشتهم في منتهى البساطة وكانوا معتادين على التقشف والاكتفاء بالقليل والتنسك وقبول الاحسان البسيط (1 ملوك 17: 5-8 ومتى 3: 4). وكان الله يختار من بين هؤلاء التلاميذ عدداً ويقبلهم انبياء له ليعلِّموا الشعب بما يريده منهم. والعهد القديم يصف الانبياء بأنهم مقامون من عند الله (عاموس 2: 11) ومعيَّنون منه (1 صم 3: 20 وار 1: 5) ومرسلون من عنده (2 أخبار 36: 15 وار 7: 25). أمَّا عبارة " فَأَجرَ نَبِيٍّ" فتشير الى المكافأة المستحقة من اجل قبول نبي؛ أمَّا عبارة "صِدِّيقٌ" في الأصل اليوناني δίκαιος (معناها بار) فتشير الى المسيحي الحق الذي يتمم مشيئة الله ومخطّطه الخلاصي. والبرّ الذي يتحدّث عنه إنجيل متى هو في الواقع ممارسة المحبّة والصدقة (متى 6 :1-3؛ 25 :37-39، 46)، والابرار هم الذين تُشكل حياتهم البارة مثالا يُعرض للآخرين؛ أمَّا عبارة "النبي والبار" فتشير الى كرامة النبي والبار التي هي كرامة الرسول.  وقد اعتبرت الجماعات المسيحية سلطة التلاميذ في خط الأنبياء والابرار كما جاء على لسان يسوع المسيح " الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ كثيراً مِنَ الأَنبِياءِ والصِدِّيقينَ تَمَنَّوا أَن يَرَوا ما تُبصِرونَ فلَم يَرَوا، وأَن يَسمَعوا ما تَسمَعونَ فلَم يَسمَعوا" (13: 17). فالتلاميذ بعد ان دعاهم يسوع، نحن مدعوون ان نقبلهم قبول الأنبياء والأبرار (متى 18: 5). أمَّا عبارة "فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال" فتشير الى مشاركة البار في الجزاء، فالذي يُظهر البِّر للبار يُصبح اهل للشركة في ملكوت البِّر وكل ما فيه من البركات كما حدث مع أمرأه صرفت بصدقتها الى إيليا النبي ومعجزة الدقيق والزيت (1ملوك 17: 5-16).  وبعد ان ذكر المسيح ما يلحق تلاميذه من المصائب عزَّاهم بان ذكر مشاركته لهم في خدمتهم، وانه يجازي خادمهم كخادم المسيح نفسه.

   

42 ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع.

 

تشير عبارة "هَؤلاءِ الصِّغار" الى تلاميذ المسيح كما ورد في انجيل مرقس "مَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع" (مرقس 9: 41) او الى جميع التلاميذ لأنهم شهود لملكوت الله او التلاميذ الضعفاء الذين هم اشدَّ التلاميذ حرمانا وعوزا بسبب الاضطهاد "إِيَّاكُم أَن تَحتَقِروا أَحَداً مِن هؤلاءِ الصِّغارأَقولُ لكم إِنَّ ملائكتَهم في السَّمَواتِ يُشاهِدونَ أَبَداً وَجهَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 18: 10). وسمَّاهم يسوع صغارا إشارة الى تواضعهم في عيون أنفسهم وفي عيون اهل العالم الذي يحسبون الكبار هم الأغنياء والعلماء والاقوياء؛ امَّا عبارة " كَأسَ ماءٍ " فتشير الى إناء صغير للشرب (2 صموئيل 12: 3) من الخزف أو المعدن (ارميا 51: 7) يُمسك باليد (تكوين 40: 11) ويُستعمل للماء (مرقس 9: 41).  وهذه الكأس من الماء البارد هي أصغر هبة يقدِّمها الانسان لغيره؛ ويُعلق المطران بيير باتيستا " أن هذه الكأس ستكون علامة على أمر أكبر، وهو الاستعداد الجوهري من طرف معطي الكأس لاستقبال متطلبات البشرى المستجدّة" (تأمل الأحد الثالث عشر للزمن العادي، السنة أ، 2020). أمَّا عبارة "لأَنَّه تِلميذ" في الأصل اليوناني εἰς ὄνομα μαθητοῦ(معناها باسم التلميذ) فتشير الى تلميذ المسيح ، فمن يصنع المعروف له كأنه صنع ذلك المعروف للمسيح نفسه ويُجازى الله عليه. أمَّا عبارة "تِلميذ" تشير إلى كل من اتبع معلماً مثل أشعيا النبي (أشعيا 8: 16) ويوحنا المعمدان (متى 9: 14). وتستعمل لكل المؤمنين الذين قبلوا تعاليم المسيح (متى 10: 42 ولوقا 14: 26) وبنوع أخص من الرسل الاثني عشر (متى 5: 1). امّا عبارة "أَجرَه" فتشير الى ما يدفع مقابل القيام بعمل ما وكانت قديماً تدفع من محاصيل العمل ذاته كما حدث في أمر يعقوب ولأبان (التكوين 29: 15). امَّا عبارة "لن يَضيع" فتشير الى مكافأة صانع المعروف لأنه قبل يسوع في تلميذه المتواضع والفقير والغريب. لا تتوقف قيمة هذه على كبرها او صغرها بل على نية صانه المعروف.  وذكر يسوع ثلاثة أنواع من الأعضاء في الجماعة: الأنبياء وهم الذين يتحلّون بمسؤولية ما في الجماعة، ثم الابرار وهم الذين تشكل حياتهم البارة مثالا يُعرض للآخرين وأخيرا الصغار وهم من لا مسؤولية لهم في الجماعة. 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 10: 37-42)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 10: 37-42)، نستنتج انه يتمحور حول وصية يسوع لتلاميذه في حمل الصليب. ومن هنا نتساءل: ما معنى حمل يسوع صليبه؟ وما معنى حمل تلميذ المسيح صليبه؟

 

1) ما معنى حمل يسوع صليبه؟

 

نحن نعلم ان يسوع مات مصلوباً، وأصبح الصليب، أحد الأركان الأساسية التي تساعد على تذكيرنا بخلاصنا،

كما نردِّد في قانون الإيمان: الذي (يسوع) من أجلنا، ومن أجل خلاصنا نزَلَ من السَّماء. وصُلِبَ عنَّا على عهد بيلاطُس البُنطيّ، وتألَّم". فلم يعُد عاراً، بل أداة للفداء، وأصبح مطلباً وعنواناً للمجد، للمسيح أولاً ثم للمسيحيين من بعده. وفي هذا الصدد يقول القدّيس كيرلُّس الأورشليمي (313-350)، " لم يكن الصليب خدعةً بل حقيقة، وإلاّ لكان الفداء أيضًا خدعة.  صُلِبَ المسيح فعلاً، وعلينا ألاّ نخجل من ذلك. لقد صُلِبَ من أجلنا، وعلينا ألاّ ننكر ذلك، بل يجب أن نعلنه بكلّ فخرٍ. فنحن نعترف بالصليب لأنّنا اختبرنا القيامة" (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر).  

 

وأكّد يسوع على ضرورة الصليب تحقيقاً لطاعة مشيئة الآب كما جاء في انجيل متى "بَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث "(متى 16: 21). ثم أوضح المسيح القائم لتلميذي عماوس ان تحمّل آلام صليبه لتتميم ما ورد في الكتب المقدسة لدخول المجد " أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟  فبَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه " (لوقا 24: 25 -26).

 

وأمَّا بعد العنصرة أعلن التلاميذ بدورهم عن ضرورة الصليب استكمالاً ِلمَا كتب عن مصير المسيح " أَتَمُّوا كُلَّ ما كُتِبَ في شأنِه، أَنزَلوه عنِ الخَشَبَة ووَضَعوهُ في القَبر (أعمال 13: 29)، المسيح قد صلب (أعمال 2: 23، 4: 10)، و"علق على خشبة" (اعمال الرسل 5: 30)، وقد تلقَى بولس عن التقليد الأصلي أن " سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب" (1 قورنتس 15: 3).

 

ولماذا الصليب؟ لأن يسوع أخذ على عاتقه الشرّ والرّجاسة وخطيئة العالم، وكذلك خطيئتَنا، وغسلها بدمه وبرحمته وبمحبة الله كما نترنم في النشيد الطقسي: "خلاصاً صنعتَ في وسَطِ الأرض، أيُّها المسيحُ الإله، وعلى الصَّليب بسطتَ يدَيكَ الطَّاهِرتَين، فجمعتَ كُلَّ الأُمم صارخة: يا ربُّ المجدُ لك".   فالصَّليبُ هو سِرُّ الله المُحِبّ البشر، يتألَّم ويُصلَب لأجلِ خليقته.

 

 المحبّة الحقّ هي في صليب! فكان مطلوب من يسوع أن يبذل نفسه من أجل مَن يحبّ؛ هذا هو الخير الذي يمنحنا إياه يسوع من على الصليب. وعندما نعانق صليب المسيح بفرح، فهو يحملنا إلى الفرح، بأننا خُلّصنا وبأننا نشاركه بما فعله عندما مات من أجلنا.  ويعلق القدّيس أندراوس الرسول وفقًا للتقليد "أيها الصليب المرغوب فيه منذ زمن بعيد، المقدّم الآن وفقًا لرغبات نفسي! أنا متوجّه نحوك، ممتلئًا بالفرح والثقة. اقبلني بحبور، أنا تلميذ ذاك الذي تدلّى على ذراعيك" ويضيف البابا فرنسيس" إن صليب المسيح هو خشبة تحدثنا عن المحبة والرحمة والغفران".

 

2) ما معنى حمل التلميذ صليبه؟

 

يعلمنا يسوع أنَّ صليبه يوحّد بين مصيره ومصير تلميذه. "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني " (متى 16: 24). ويتطلب حمل الصليب الاستسلام الكامل لله والاستعداد الكامل لمواجهة أي شيء حتى الالم والموت من اجل يسوع المسيح بحيث يكون هو مركز حياتنا. "من حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها (متى 10: 39).  فالتمسك بهذه الحياة يجعلنا ان نخسر المسيح، وعدم التمسك بهذه الحياة واطماعها يُحرِّرنا لكي نتبع المسيح ونرث الحياة الأبدية (متى 16: 25). وفي هذا الصدد يقول الاسقف اللاهوتي ثيودورس المصّيصي (428) "لا تدعوا الصليب يخيفكم، يقول الربّ يسوع، ولا تدعوه يُشَكِّكُم في أقوالي" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). فالصليب علامة موت التلميذ عن ذاته وعن العالم وعن علاقاته الطبيعية.

 

أ) حمل الصليب: الزهد في الذات

 

ينبغي للتلميذ ان يموت في ذاته. "مَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 38). من اعتمد بالمسيح يصبح مسيحيا، والمسيحي يصبح تلميذا للمسيح عندما يتخذ المسيح معلما للحياة.  والتلميذ لا يكون تلميذ للمسيح بشهادة العماد فقط بل بشهادة الحياة ايضا. فالتقرّب من الله، لا يتمّ بالتمسّك والتشبّث بالذات بل بالزهد والتخلّي، والترك، الخلع "اِخلَعْ نَعلَيكَ مِن رِجلَيكَ" (خروج 3: 5). ويصل الزهد ذروته بالتخلي عن الذات بوضعها بين يديّ الله كما فعل يسوع على الصليب " يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي"(لوقا 23: 46). وفي هذا الصدد كتبت القدّيسة تيريزا - بينيديكت الصليب (إيديث شتاين) (1891 - 1942)، "إنّ طريق كلّ "المَدعُوِّينَ إِلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل" (رؤيا 19: 9)، تمرّ صوب المجد بالعذاب والصليب. إن الّذين يريدون أن يتّحدوا بالحمل، يجب أن يتركوا أنفسهم ليُعلّقوا على الصليب معه"(عرس الحمل -14/09/1940).

 

ويعتبر الصّليب علامة الإيمان الحيّ الحقيقيّ، والإيمان هو التّسليم الكامل لله: أن يُسلم الإنسانُ نفسه وحياته وكلّ ما له إلى الله تعالى.  وفي هذا الصدد يقول الراهب القدّيس رافاييل أرناييز بارون (1911 – 1938)، "إنّ المسيح موجودٌ على الصّليب، وطالما نحن لا نحبّ الصّليب، فإنّنا لن نراه ولن نشعر به". (كتابات روحيّة بتاريخ 04/03/1938).

 

ويبدأ التلميذ في تحقيق الزهد في النفس عندما يطرح عنه كل الهموم والأولويات الأخرى ويحمل الصليب ويتبع المسيح. وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول وطبَّقه على نفسه؛ فبالرغم من آلام جسده الرهيبة كان بولس يقمع جسده ويستعبده " أقَمَعُ جَسَدي وأُعامِلُه بِشِدَّة، مَخافةَ أَن أَكونَ مَرفوضًا بَعدَ ما بَشَّرتُ الآخَرين" (1 قورنتس 9: 27).  وفي هذا الصدد يقول القدّيس إسحاق السريانيّ "طريق الله هي صليبٌ يوميّ. لم يصعد أحدٌ يومًا إلى السماء براحة" (مقالات نسكيّة، السلسلة الأولى، الرقم 4)؟ الم يقل يسوع " مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39).

 

ويبدأ التلميذ في تحقيق الزهد في معرفته عندما يتخلى عن تمجيد نفسه بمعرفته؛ بل يجد المعرفة السامية في الصليب كما جاء في تعليم بولس الرسول " فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب" ( 1قورنتس 2: 2) . أوليسَ الصليبُ إتمامًا للشريعة الكاملة وأسلوبَ الحياة الأمثل؟

 

ويبدأ التلميذ في تحقيق الزهد في قوته عندما يتخلى عن تمجيد نفسه بقوته بل يستمدّ من الصليب قوّةً لا تُضاهى "فإِنَّ لُغَةَ الصَّليبِ حَماقةٌ عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الهَلاك، وأَمَّا عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الخَلاص، أَي عِندَنا، فهي قُدرَةُ اللّهُ" (1قورنتس 1: 18).

 

ويبدأ التلميذ في تحقيق الزهد في حريته عندما يتخلى عن الحريّة التي اكتسبتها بذاته ويفتخر بمجد حريته التي اكتسبها من الصليب "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ إِنسانَنا القَديمَ قد صُلِبَ معَه لِيَزولَ هذا البَشَرُ الخاطِئ، فلا نَظَلَّ عَبيدًا لِلخَطيئَة" (رومة 6: 6).

 

ويزهد التلميذ عن الذات عندما يصير على مثال يسوع متواضعاً ومطيعاً حتى الموت على الصليب كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 5-8). وقد صف البابا فرنسيس صورة تلميذ المسيح: "إنه متواضع وفقير، لا يتعلّق بالثروات والسلطة وبالأخص ليس متعلقا بنفسه". إن تلميذ المسيح هو المُرسل الذي أختار هبة ذاته لربّه.

 

ويزهد التلميذ في الذات أيضا عندما يقبل وضعه كمُضَّطهد "وإِذا طارَدوكم في مدينةٍ فاهرُبوا إِلى غَيرِها. الحَقَّ أَقولُ لكم: لن تُنُهوا التَّجْوالَ في مُدُنِ إِسرائيل حتَّى يأتيَ ابنُ الإِنسان. مِن تِلميذٍ أَسمَى مِن مُعَلِّمِه، وما مِن خادِمٍ أَسمَى مِن سَيِّدِه " (متى 10: 23-24).  ويُعلق البابا فرنسيس "المسيحي ليس مُضطَهِدًا بل مُضطَهَدًا. متمشِّيا مع تعليم يسوع "ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20). لنردِّد مع القدّيس الراهب رافاييل أرناييز بارون (1911 – 1938)، "إنّ الله قد سمح بأنّ أحمِل الصّليب. فليكن مباركًا" (كتابات روحيّة بتاريخ 11/08/1934).

 

ونستنتج مما سبق ان  من يعانق الصليب بسخاء يتحوَّل ألمه إلى مصدر فرح، ويُثمر ثمار الخصوبة الرعوية كما يقول البابا فرنسيس "الخصوبة الرعوية، خصوبة إعلان الإنجيل لا ننالها استنادًا للنجاح أو الفشل بحسب المعايير البشريّة، وإنما بالتمثُّل بمنطق صليب يسوع أي بمنطق الخروج من الذات وبذلها، وهذا هو منطق الحب"، لان " المحبة لا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها " كما جاء في تعليم بولس الرسول (1قورنتس 13: 5)، وهذا الامر اختبره بولس الرسول كما صرَّح بقوله " أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! وفيه أَصبَحَ العالَمُ مَصْلوبًا عِنْدي، وأَصبَحتُ أَنا مَصْلوبًا عِندَ العالَم"(غلاطية 6: 14).

 

ب) حمل الصليب: الزهد في الدنيا

 

إن الصليب الذي ينبغي على تلميذ المسيح ان يحمله هو ليس علامة لزهده بنفسه فحسب، إنما لزهده في الدنيا أيضا؛ لا نقصد بكلمة الزهد هنا أن نتخلّى عن العادات السيّئة والخطايا والميول المنحرفة والخبرات غير الأخلاقية والاجهاض والطلاق والبُغض والعنف والسرقة...  فالتخلّي عن هذه الأمور امر بديهي تعلنه جميع الديانات، إنما المقصود هو التخلّي عمّا هو غالٍ ونفيسٍ من الأرضيّات التي يملكها التلميذ، ما هو عزيز على قلبه منها، وما هو متعلّق به شديد التعلّق. يتوجّب علي تلميذ المسيح أن يكون فقيراّ، غير متمسك بالمال لكي تظهر فيه قوة الرب.

 

التخلّي عن كلّ خيرٍ خارجيّ أو داخليّ هو صليب مؤلم، وهو أكثر إيلامًا كلّما كان التعلّق أشدّ وأقوى. إن صليب المسيح يفصل بين عالمي الجسد والروح، لأن التلميذ هو ذاته قد صُلب مع المسيح في المعمودية، إلى حد أنه قد مات ليحيا لله (غلاطية 2: 19)، ولم يعد له أي تعلق بالعالم كما صرَّح بولس الرسول "أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! وفيه أَصبَحَ العالَمُ مَصْلوبًا عِنْدي، وأَصبَحتُ أَنا مَصْلوبًا عِندَ العالَم "(غلاطية 6: 14). فالتلميذ الحقيقي يضع ثقته في قوة المسيح وحدها.

 

يتطلب حمل الصليب ترك ملذات العالم، لان المسيح لا يطالب تلميذه ان يكون عالما، بل أن يعيش الإنجيل ويعتبر متاع الحياة ثمنا قليلا لملكوت الله، إنَّ تلميذ المسيح هو من يتمكن من القول مع بولس الرسول " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20)، وهو أيضا من يتمكن من تقديم جسده ذبيحة حيَّه، وقد صلب أهوائه مع شهواته كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة" (رومة 12: 1). ونتيجة لذلك ينال تعزية في الأرض ومجد السماوات، وهذا الامر اكّده السيد المسيح بقوله "مَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39)؛ فمن يقبل هذا الصليب تكون له حياة، والمسيح يحيا فيه. وأمَّا من يتصوَّر أنه يجد حياته في ملذات العالم ناسياً إلهه فهو يخسر حياته الأبدية كما قال يسوع " مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها " (متى 10: 39). "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ "(متى 16: 26).

 

ج) حمل الصليب: الزهد في العلاقات الطبيعية

 

من تعمّد أصبح مسيحيا، والمسيحي يُصبح تلميذا للمسيح عندما يتخذ المسيح معلما لحياته.  والمسيحي لا يكون تلميذا للمسيح بشهادة العماد بل بشهادة الحياة ايضا، وشهادة الحياة هي الالتزام. والالتزام يستلزم قراراً، والقرار هو أن يحب التلميذ الرب من كل قلبه. وكثيرا ما يكون الإيمان بالمسيح سبب الاختلاف بين الأقارب فيضطر الانسان الى الاختيار إمَّا ترك اقاربه واتباع المسيح، وإمَّا إتباع اقاربه وترك المسيح، وفي ذلك امتحان له يتبيَّن به أمؤمن هو بالحق ام لا.  خلق الله الوالدين والأولاد حتى يحب بعضهم بعضاً. فمن أصعب التجارب ان يترك الانسان والديه او أولاده لأجل المسيح. 

 

والقرار هنا قد يفرِّق بين الأصدقاء والاحباء حيث ان البعض يتبعون يسوع، والبعض الآخر لا يتبعونه. فلا بدَّ ان ينشب الصراع. ويحذِّر يسوع تلاميذه من أن إتِّباعه سيخلق انقسامات وسوء فهم في مجالات عديدة من الحياة وحتى داخل حدود العائلة ذاتها، فعلى سبيل المثال كان المؤمن مُعرّضًا في أيام الاضطهاد لأن يُقتل، فتأتى أمه تستعطفه ليترك الإيمان من أجل خاطرها، فيتركوه يحيا. لكن بهذا الامر يصير حبّه لأمه أكثر من حبِّه للمسيح، وبالتالي ينكر المسيح، وبهذا الانكار يصير لا يستحقه.

 

تتطلب شهادة الحياة حمل الصليب ونتبع يسوع، وان ننفصل عن الآخرين، لا يعني ذلك ان نهمل العائلة لكن يجب الا نهمل دعوتنا العليا، بل أن نضع الأولوية المطلقة لله "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي. (متى 10: 37). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " إن أحببنا الرب من كل القلب يجدر بنا ألا نفضِّل عنه حتى الآباء والأبناء".  حقًا إن الله الذي أوصانا بالحب، بل جاء إلينا لكي يهبنا طبيعة الحب نحوه ونحو الناس حتى الأعداء، ولا يقبل أن نحب أحدًا حتى حياتنا الزمنيّة هنا إلا من خلاله. لذلك غير مطلوب منا أن نتخلى عن محبتنا للعائلة بل أن تستنير محبتنا هذه بمحبة المسيح التي هي مصدر محبة العائلة التي تعطيها معنى أسمى. إذ أن حبَّنا للمسيح يُمكّننا من حبّ العائلة بكل أمانة وإخلاص وتضحية.

 

أجل!  يدعونا المسيح الى محبة العائلة، وهي وصية من وصايا الله "أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" (متى 15: 4)، ولكن عندما تكون هذه المحبة عائقا في محبة الله وخدمته تعالى، عندئذ العلاقة مع يسوع تُلغي العلاقة مع الوالدين ومع الأولاد. ويعلق القديس ايرونيموس "يأمرنا الكتاب المقدّس بطاعة والدينا. نعم، ولكن من يُحبّهم أكثر من المسيح يخسر نفسه".

 يسوع هو " الغيور " كما كان الله مع شعبه " أَنا الَرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيور" (خروج 20: 5)، الذي لا يريد ان يقاسمه أحد المكانة التي له في قلب التلاميذ. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " الله الذي يحبّنا كثيرًا جدًا يريد أن يكون محبوباً منّا". وحين يستعدَّ التلميذ ان يخسر كل شيء من اجل المسيح، عندئذ يربح كل شيء. ولذلك يتوجب كل على إنسان ان يختار حتى بين أقرب المقرّبين اليه واعزّهم، وبين المسيح (متى 15: 4). ليسوع الاولوية. يتوجب على التلميذ أن يختار المسيح، لذا على باقي الأمور أن تترتب وفقا لهذا الاختيار. فالقضية هي قضية اختيار.  يدعو يسوع تلاميذه ان وجوب تفضيله على أعزَّ الأقارب (متى 10: 37)، وتفضيله أيضا على الراحة والصيت (متى 10: 38) تفضيله أخيراً على الحياة نفسها (متى 10: 39).

 

3) مكافأة على حمل الصليب

 

يطلب يسوع من تلاميذه حمل الصليب بالزهد في الذات وفي الدنيا وفي والعلاقات الطبيعية من اجل اتباعه، لكنه بالمقابل يعدهم بالمكافئات. في الماضي كان الصليبُ رمزًا للعقاب، أمّا اليوم فهو رمزُ الشرف.  في الماضي كان الصليب جهالة، اما اليوم فهو قوة الله (1 قورنتس 1: 18). في الماضي كان رمزًا للإدانة، أمّا اليوم فهو مبدأ الخلاص لأنّه مصدر خيرات لا محدودة: لقد نجّانا من الخطيئة، وأنارَنا في الظلمات، وصالَحَنا مع الله. فالصليب دمار للكراهية، وضمانة للسلام، وكنز من آلاف الخيرات وفي هذا الصدد يقول الناسك الإنكليزي ريتشارد رول (نحو 1300-1349)" إن الرّب يسوع المسيح ينادي من على الصليب بأعلى صوته. هو يقدّم السلام، ويتوجّه إليك، متمنياً أن يراك تعيش حياة حب" (نشيد المحبّة).

 

الصليب صالح البشر مع الله، وخلّص الأرض من الخطيئة ودمّر سلطان الشيطان، ووضع أسس الكنيسة وجعل من الأرض سماءً.  وفي هذا الصدد يقول القدّيس أفرام السريانيّ (نحو 306 -373)، "المجد لك! فقد ألقيت صليبك جسرًا فوق الموت، فيعبره البشر من بلاد الموت إلى بلاد الحياة. المجد لك! (عظة عن الربّ) .

 

ومن يقبل هذا الصليب تكون له حياة ويختبر ان الصليب منذ الآن هو طريق الفرح العظيم العميق؛ فالصليب هو علامة مجد التلميذ "مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي" (يوحنا 12: 26). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (نحو 345 -407)، "إنّ الملكوت المقفل منذ آلاف السنوات قد فتحَه الصليب لنا "اليوم" كما صرّح يسوع للص اليمين " سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس"(العظة الأولى للجمعة العظيمة عن الصليب واللّص اليمين).

 

وإكرام الله للتلاميذ ليس منحصرا في الحياة الأبدية بل أيضا في الحياة الحاضرة.  وفي هذا الصدد يقول القدّيس كيرِلُّس (313 -350)، " سيكون الخوف العلامة لأعداء الصليب. وسيكون الفرح العلامة لأصدقائه الذين آمنوا بالصليب أو بشّروا به أو تألّموا من أجله" (تعليم عن العماد).

 

يُكرم يسوع تلاميذه ورسله الذين يحملون صليبه، ويعتبرهم وكلاءه وأنبياءه؛ وكل قبول لهم هو قبول له، وكل إكرام لهم هو إكرام له، وكل عطيّة تقدّم لهم، إنّما تقدّم له شخصيًا! "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (متى 10: 40) وهذا الاختيار او الالتزام يجب على التلميذ ان يقوم به أولا ثم يُشجّع الآخرين على القيام به بحضوره وعمله. والغريب إننا كثيرا ما نخاف من الذي يعيّنه البشر، ولا نخاف ممن يعيّنه الله، فنحتقر من عيّنه الله ونذمّه ونهينه.

 

وتقاس محبة الانسان للمسيح بكيفية معاملته لتلاميذه "مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال" (متى 10: 41)، والمثل الذي ذكره يسوع عن إعطاء كأس ماء بارد لأحد الصغار العطاش، "ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع (متى 10: 42)، هو مثال طيب للخدمة الخالية من الانانية، فالطفل الصغير لا يمكنه عادة ان يردّ الجميل، وبالتالي فالعمل موجَّه لله.

 

وبكلمة أخرى، إن التلميذ هو من اختار ان يكون للمسيح، وان يكون هو والمسيح واحدا.  وان يكون المسيح الأولوية في حياته واختياراته.  تأتي مكانة المسيح فوق نفسه وأهله، وفوق النفس واهوائها والدنيا ومتاعها.  تلميذ المسيح يحمل كل يوما صليبه ويبذل في سبيله الحياة دونما تردُّدٍ او حياءٍ او تحفظٍ. وبالمقابل الرب يُكرم التلميذ في الدنيا والآخرة، وخير مثال على ذلك الرسول بطرس الذي صُلِب من أجل المسيح؛ فكان الصليب طريقه نحو السّماء. ويعلق البابا فرنسيس "المسيحية بدون الصليب هي مسيرة تنتهي في منتصف الطريق".

 

الخلاصة

 

بعد ان تحدّث يسوع مع تلاميذه عن الجهاد في الشهادة له، وجّه أنظارهم الى الجهاد الداخلي الذي يتمثل في حمل الصليب. فان التلميذ يواجه مقاومة في جسده وعاطفته حتى من أهل بيته.  انها جهاد عنيف لأنه يتمُّ داخل النفس، ويُثيرها العدو ليُقسم الانسان على نفسه، او داخل بيته.  فليس الأصدقاء يقفون ضد الانسان بل حتى الاقرباء والاهل. 

 

يطلب يسوع من تلاميذه محبة شاملة ومُطلقة، تفوق محبتهم لدى الاهل والاقارب. وهذا هو الشرط الوحيد الذي يجعلنا نستحق ان نكون من تلاميذه. الله يقدّم هنا اولويته على الجميع، ولا يسمح لاحد بدخول القلب الا من خلاله.

 

دعاء

 

 أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع المسيح، ان تمنحنا القوة كي نحبَّك فوق كل شيء فنحمل الصليب ونتبعك ونكون على مثال معلمنا الإلهي نوراً وبلسماً للجروح التي لا تحصى والتي تمزّق البشرية اليوم. امنحنا النعمة ان نفقد حياتنا في سبيل المسيح على هذه الارض كي نحفظها للحياة الأبدية. نسجد لك أيَّها المسيح ونباركك، لأنّك بصليبك المُقدّسَ قد خلَّصت العالم. آمين

 

قصة: ارملة وصليبها

 

لاحظت الأرملة الجميلة أولادها الصغار يهربون من أمام وجهها عندما تعود من عملها مرهقة للغاية. تساءلت في نفسها: لماذا أحمل هذا الصليب الثقيل؟

 

لقد مات زوجي الحبيب وأنا في ريعان شبابي تاركًا لي 3 أطفال. وها أنا أكدُّ وأشقي كل يوم، ولا تفارق العبوسة وجهي. كرهني الجميع حتى أطفالي، ولكن ما ذنبي؟ صليبي أثقل من أن يحتمل!

 

ركعت الأرملة في إحدى الليالي تطلب من الله أن يأخذ نفسها منها.  فان صليبها لا يحتمل. وإذ نامت رأت في حلم أنها في غرفة مملوءة صلبانًا، بعضها كبير والآخر صغير، بعضها أبيض والآخر أسود، وقد وقف بجوارها السيد المسيح الذي تطلع إليها في حنو وقال لها: "لماذا تتذمرين؟ أعطني صليبك الذي هو ثقيل عليك جدا، واختاري لنفسك صليبا من هذه الصلبان التي أمامك، لكي يسندك حتى تجتازي هذه الحياة.

 

سمعت الأرملة هذه الكلمات. قدمت صليبها بين يدي المسيح، ومدت يدها لتحمل صليبا صغيرا يبدو أنه خفيف. لكن ما أن رفعته حتى وجدته ثقيلا للغاية. سألت عن هذا الصليب، فأجابها السيد المسيح: " هذا صليب شابة أصيبت بالفالج في سن مبكرة وستظل كسيحة كل أيامها، لا تري الطبيعة بكل جمالها. ويندر أن يلتقي بها صديق يعينها أو يواسيها".

 

تعجبت المرأة لما سمعته، وسألت السيد المسيح: "ولماذا يبدو الصليب صغيرًا وخفيفًا للغاية؟

 

أجابها السيد المسيح: "لأن صاحبته تقبلته بشكر، وتحملته من أجلي فتجده صغيرا وخفيفا للغاية".

 

تحركت الأرملة نحو صليب آخر يبدو أيضا صغيرا وخفيفا، لكنها ما أن أمسكت به حتى شعرت كأنها قطعة حديد ملتهبة نارا. صرخت المرأة من شدة الحرق، وسقط الصليب من يدها. صرخت الأرملة: " لمن هذا الصليب يا سيدي؟

 أجابها السيد المسيح: "انه صليب سيدة زوجها رجل شرير للغاية، عنيف جدا معها ومع أولادها. لكنها تحتمله بفرح وتصلي لأجل خلاص نفسه.

 

انطلقت نحو صليب ثالث يبدو أيضا كأنه صغير وخفيف، لكن ما أن لمسته وجدته كقطعة جليد. صرخت: لمن هذا الصليب يا سيدي؟

 

أجابها: "هذا صليب أم فقدت أولادها الستة. ومع كل ولد ينتقل ترفع قلبها إلى تطلب التعزية. وها هي تنتظر خروجها من العالم بفرح لتلتقي معهم في فردوس النعيم!"

 

انطرحت الأرملة أمام مخلصها وهي تقول: سأحمل صليبي الذي سمحت لي به ان احمله. لكن ساعدنا ان احمله، أنت تحول آلامي إلى عذوبة، أنت تحوِّل مرارتي إلى حلاوة.