موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٤ سبتمبر / أيلول ٢٠١٦

حكمة الصليب إذا تكلمت أُفرغت من ذاتها

بقلم :
الأخت برونا عودة - الأردن
حكمة الصليب إذا تكلمت أُفرغت من ذاتها

حكمة الصليب إذا تكلمت أُفرغت من ذاتها

 

تحتفلُ الكنيسةُ في الرابع عشر من أيلول في كل عام، بعيد إرتفاع الصليب المقدس. وأريد أن أتأمل بمعيتكم بحكمة تجلت على خشبة الصليب، وأَبت هذه الحكمة أن تتكلم، لأنها إذا تكلمت أفرغت من ذاتها.

 

"صمت الحكمة" المسيح هو الحكمة بالذات، لم يتكلم كثيرًا، لكن صمته وعمله كانا فعلا حب معبران أكثر على خشبة الصليب، وحكمة الصليب لا زالت صامتة، تختلف كليًا عن حكمة العالم التي تريد دائمًا أن تتأكد بحواسها ولاسيما البصر لتتأكد من صحة العقائد.

 

صمت يسوع بحكمته ثلاثين عامًا، مختفيًا متأملاً مصليًا وصلاته تجلّت في الحكمة في التصرف "إذ كان يتسامى بالحكمة والنعمة أمام الله والناس". لم يتكلم عن إرادة الله الآب فيه إلا في الوقت المحدد ليتمِّم إرادة الآب وحكمته فيه من أجلنا نحنُ البشر. نرى يسوع صامتًا في كثير من المواقف التي رافقته في حياته على الأرض، منها الحزينة ومنها المفرحة، ومنها ما إعتصرت قلبه لقلة إيمان من إلتقى فيهم وعايشهم، ولكن في نفس الوقت كان يسوع يخترق صمته ليقول: الطوبى لمن يؤمن ولا يرى، لمن يحفظ كلمة الله ويحفظها، الطوبى لمن يثبت إلى المنتهى بصمت ليخلص، ومنها العظيمة التي تتحدث عن مجد الله.

 

وعاش يسوع صمت البرّية. صمت الصحراء العارية. لكنه خرج من صمته ليردَّ على تجارب الشيطان الذي أراد أن يلوّث صوم وصمت يسوع الصائم الصامت بحيله التي تُعكر صفوَ شفافية يسوع وسلامه. لكن رب الحياة والموت وسيّد هذا العالم الذي مصدره كل خير، خرج من صمته لينطلق بقوه أكبر وتحدي أقوى بالرد بكلام كله حكمة مولود من الصمت الفطين. "ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان بل بكلِ كلمةٍ تخرج من فم الله". "لا تجربنّ الرب إلهك"، "للرب وحده تسجد وإياهُ وحدهُ تعبد".

 

أخلى يسوع ذاته ونزل من السّماء ليتواضع كإنسانيتنا فيرفعنا بلاهوته إلى مستوى السماء حيث هو هناك حيث الطمأنينةُ والسلام والهدوء، حيث تملك المحبة فهناك الله، أراد أن يعطينا فرح البنوة الإلهية حيث أن الله أبونا ونحنُ أبناؤه. "صمت المحبة" حكمةُ الصليب، حكمة المحبة الصامتة التي لا تتكلم، لأن من يحب، يتألم بصمت من أجل أحبائه، وهذا ما فعله المصلوب، وما يريد منّا أن نفعله. ليست المسامير هي التي ثبتت السيّد المسيح على الصليب. إنما هي محبته لنا، ولكن نحن بماذا نكافىء هذا الحب.

 

لا زالت حكمة الصليب صامته لا تتكلم، لأنه لا يوجد كلام أقوى من الصمت لنتكّلم به إلاّ الصلاة، وهذا ما علمنا إياه المصلوب وهو على صليبه، رغم شدة الألم والمعاناة والترك والإستفزاز ونكران الجميل والشعور بالوحدة. لم تسمح له محبته إلأّ أن يصلي من أجل مضطهديه، لأنه مضطهد على البر "إغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون". لقد تألم المسيح على خشبة عامودية واحدة، ولكن حكمة الحب دفعته إلى أن يسمّر على الخشبتين، أفقيًا وعاموديًا، وعند هذا العناق القاتل المحيي. تجلّت حكمة الله وانشق حجاب الهيكل من الوسط، وتوسط الصليب والمصلوب الجلجلة رمزاً لربط العهدين القديم والجديد، لتتم الآيه جئتُ لأكمل لا لأنقض. والصليب بزواياه الأربعه يربط بين الأرض والسماء ويجمعنا من الرياح الأربع. كان الفرس يستخدمون الصليب للتعذيب ويرفعونه عن الأرض حتى لا يدنسوها لأن الأرض لإله الخير (أهرومزدا) ولكن المسيح ارتفع على الصليب ليرفع خطيئة العالم وليرفع أنظارنا إلى فوق، حيث هو وحيث المحبة المعلقة بين الأرض والسماء، ليعلمنا يسوع بحكمته أنّ الصليب هو السلم الوحيد إلى السماء ولرؤيتها، إنه مرحلة عبور عندما نقرن الصليب بالألم يصبح له معنى آخر إذ يتحول شيئاً فشيئاً برفقة يسوع القائم إلى مجد. فنصبح بصليبنا شهود حقيقين لقيامه أكيده مع المسيح فنشاركه المجد.

 

"حمل الصليب" تذكروا إخوتي أننا عندما نحمل صلباننا وما أكثرها. من مواجهة للواقع ورفض لذواتنا وللآخرين والقانون ورسومه، والواجب الذي يلاحقنا ما حيينا، ومزاجنا المتقلب، حياتنا المشتركة، وصحتنا عينها، مشاريعنا، ضعفنا، فشلنا في مساعينا، وتحطُّم أمانينا، وغربتنا في عدم فهم الآخرين لنا، كبرياءنا وميولنا وغرورنا والتجارب التي تعترضُنا وتداهمنا والمرض الذي يعترينا ويعيقُنا من إتمام واجباتنا كما نريدها، والمحن والحروب التي تئن من ثقلها طبيعتنا البشرية. ولا يخفى عليكم فلائحة الصلبان تطول ولن تنتهي وحملها ثقيل، يثقل كاهلنا إذا لم نذهب إلى من وحده يستطيع أن يريحنا (أي السيد المسيح). ولنتذكر دائماً أننا عندما نحمل صليبنا بصبر نفتح ذراعينا كما فتحها السيد المسيح المصلوب لنكمل نحن ما نقص من آلامه، عندها لن يتركنا وحدنا بل ينزل عن صليبه ويقاسمنا الألم إمتداداً واكتمالاً لآلامه الخلاصيه من أجلنا نحن.

 

"مريمُ والصليب" أمُّ المصلوب وأمنا أبت إلا أن تتمثل بإبنها، باتخاذه معلماً بالصمت والحكمة والمحبة، إذ أنّها أتقنت فنّ الصمت الأصيل إلى حدِ قبول الألم تحت الصليب حتى اللحظة الأخيرة، مع أنها الوحيدة التي يحق لها ان تعبر عن مكنونات قلبها الحزين، لكنها بارعة في حكمة. صمت الألم ليحول إلى المجد. وليمنحها جانبًا كبيرًا من القوة والكثافة الحقيقية التي تطهر ذاكرتنا من الألم والغصات المره من الماضي المرير، الذي لطالما جاهدنا ليكون غيرما نحن عليه. صمت مريم الحكيم يوطد السلام في القلب والإراده، ويهدىء الاحقاد والغيرةُ، ويحرر القلب من العصيان، ويرمي السلام والهدوء في النفس، فنعيش صمت الإستسلام الحر الواعي.

 

ونعاود السؤال؟ كيف يمكن أن نتقنَ حكمة الصليب الصامتةِ في خضم هذه الحياه الهائجة وظروفها الصعبة العسيرة التي تتطلب منا الطاقات الهائلة والقوى بأكملها لمجابهة المعضلات والصعوبات التي تواجهنا؟ ما علينا إلا بالصمت المصلي الحاضر والله هو الذي يعمل فينا ومن خلالنا وعندما نتقبل آلامنا بصمت نكون قد صلبنا نحن ذواتنا على الصليب، لتصبح مصلوبًا، فنكون بذلك قد رافقنا يسوع على طريق الصليب وفي ظله مطمئنين فلنا خير نصيبٍ.