موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

الموت رفيق الحياة

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا
نبيل جميل سليمان، فانكوفر – كندا

نبيل جميل سليمان، فانكوفر – كندا

 

يشكل مفهوم الموت عند الإنسان معضلة كبيرة تقلق فكره، وتهز مشاعره، وتثير مخاوفه. بل لا يزال هو مشكلة المشاكل التي تواجهه. ومن هنا دأب الإنسان الأول – بعد أن أصابه الموت – أن يتدبر هذا المفهوم، محاولاً الكشف عن بعض أسراره ويتعرف على غوامضه. ومنذ قديم الزمان نراه يبحث عن سرّه وكنهه عبر رحلته في العثور على الخلود الأبدي، وهذا الطموح لم يتوقف أبداً على مرّ العصور. وبعكس من هذا هناك من يتعامل سلبياً مع الموت، أو يتعامى ويغفل عنه، ولا يهمه أمره، بل يتهرب من ذكره. لأن هناك من يتمسك بـ “إدمانات” هذا العالم، في محاولة منه لتجاهل الحقيقة العظمى التي تفرض نفسها بأن الإنسان سوف يموت. ومهما كان الأمر، قد يكون موضوع “الموت” في وقتنا الراهن أكثر كثافة لما نشهده من تفشي آلة الدمار والإضطرابات والأوبئة.

 

وفي وسط هذه الكثافة، نرى بإن التائق إلى الملكوت لا يفنى، أي إن المؤمن الحقيقي لا يخشى الموت، حيث “الموت آخر عدو يبيده الرب” كما يقول القديس بولس الرسول (1 كورنثوس 15 : 26). بمعنى إنه “أنت – في – المسيح” تدوسُهُ، مثلما داسَهُ المخلّص وفق إنشودة الفصح القائلة: “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور”. إنّه غلبه، تخطّاهُ في الظفر. فطاقة القيامة هي فينا، والتي يُفعّلُها المخلّص بالروح القدس، ما دعا الرسول بولس أن يقول: “فأين نصرك يا موت ؟ وأين يا موت شوكتك ؟” (1 كورنثوس 15 : 55). وهذا يقودنا إلى القول بأن القيامة تنقلنا إلى المجد كي نعاين وجه الله، والذي يتحقق على “ملكوت المحبة” في كل لحظة نعيشها في الإيمان والرجاء، ومن خلال إرتباطنا الشخصي بالمسيح يسوع. وهنا نستذكر حواره مع مرتا أخت لعازر عندما قالت للمخلّص: “لو كنت هنا، يا سيد، ما مات أخي”، فقال لها يسوع: “سيقوم أخوك”. فأجابت: “أعرف أنّه سيقوم في القيامة، في اليوم الآخر”. فقال لها: “أنا هو القيامة والحياة” (يوحنا 11 : 21 – 25). فلو كان الربّ يسوع مكتفياً بحدث قيامة لعازر، لما أجاب بهذا الجواب. إنّما أطلق في حواره مع مرتا مفهوماً جديداً للقيامة وهو إنه اليوم هو باعث المؤمنين به إلى الحياة، وهو يريدهم أن يؤمنوا به، ويحيوا فيه، ويقيموا معه. أي إن يسوع ينقلنا من التفسير التقليدي لكلمة الـ “أنا” في كلامه: “أنا هو القيامة والحياة” إلى مفهوم روحاني عميق مكنون في ذواتنا، ليكون كل مؤمن هو الـ “أنا” كما هو “المسيح”. أي أن أحيّا أنا القيامة والحياة “مع – في – بالمسيح” نحو الآخرين. وهذا يترجم إن كياني وكيان المسيح باتا كياناً واحداً حيّاً، ليكون فعلاً خلاصياً أعيشه – كل يوم – بالروح والقداسة. وبهذا يتحقق المسيح الكوني من خلال بصمة الروح القدس التي هي وجه الله وصورة المسيح فينا. تلك الروح التي لا تموت حيث تنطلق إلى اللامحدود بعد أن كانت أسيرة المحدود في الجسد.

 

وفي هذا السياق، نكتشف بإن هناك دائرة مغلقة ما بين الولادة والموت في نظر الغير المؤمن، بينما المؤمن يستطيع الخروج من هذه الدائرة من خلال “القيامة”. بما يكشفه نور المسيح في عتمة ظلام الموت بالرجوع إلى بيت الله الحقيقي: “في بيت أبي منازل كثيرة” (يوحنا 14 : 2). ومن هنا نستشف بإن الموت – في حقيقته – ليس ضداً للحياة، وإنما هو إمتداد لها. لتغدو به إنبثاقاً روحياً ولقاءاً جديداً، كنعمة من الله على ماهيّة الحياة وديمومتها. أي إن هناك إلادة “أبدية – أزلية – سرمدية” تتحقق في آن واحد. “فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح” (فيلبي 1 : 21)، إنه العبور أو الإنتقال يكون فيها الموت رفيق الحياة، بل هو الكائن المتآلف معها، والحياة بدورها متآلفة معه. وما أمجدها من حياة يحييها المؤمن مع المسيح في الله، في شهوة الموت وموت الإشتياق. يحمل مع المسيح صليبه في المحبة الحقة، وتعب الخدمة، وفرح العطاء، وقبول الإضطهاد، وإصطبار الظلم، وتحمل الأوجاع. وهنا لابد أن يقف المؤمن موقفاً منسجماً ومتوازناً بين هذا التضاد المتآلف – لأن الشئ لا يظهر قيمته إلا بالضد – من خلال الإستعداد لهذه المواجهة. فالذي يحب الحياة ويكره الموت والعكس صحيح أيضاً، تراه يعيش حياة غير مستقرة، وغير هادفة، وغير واعية. حياة عقيمة من كل إبداع، وبعيدة عن الأصل المعنوي والروحي في الوجود.

 

وهنا قد نصل إلى قراءة جديدة لمفهوم الموت، بأنه ذلك الحاجز “شجرة معرفة الخير والشر” (تكوين 2 : 16 – 17)، الذي يكسر تسلطنا وكبريائنا وسيطرتنا كي لا نصير آلهة تدمر كل شئ. وهذا ما أراده الإنسان عندما كسر الوصية وتحوّل إلى آلة لتدمير نفسه وتنفيذ كل مخططات الشر في هذا العالم. وأحياناً قد يفهم هذا الحاجز بأنه خوف أو مخافة، لأن فيه النجاة من الموت. فالذي يعيش في مخافة الرب، يتّقيه ويتمتع برفقته كل الحياة، ليتمم خلاصه ويرث الحياة الأبدية. أما الذي يتجاسر ويتعالى ولا يبالي بخوف الله، فأنه يسير في ظلام الموت. والمخافة هنا فيها من التوقير والخشوع والتقديس والشكر، لأنها تعبير عن “محبة الله”: “لا خوف في المحبة .. ولا يخاف من كان كاملاً في المحبة” (1 يوحنا 4 : 18). لأن هناك من يقول بإننا نستطيع أن نتغلب على الخوف من الموت بالإيمان بحياة ما بعد الموت.. أما المفكر الفرنسي إدغار موران، فيقول: “أنا لا أؤمن بذلك، لكنني أتغلب على خوفي بقوى الحياة الموجودة فيَّ، وقوى المشاركة، والحماس، والإندهاش، والصداقة، والحب. إنها تجعل كل المخاوف تتراجع”.

 

واختتم كلامي بالقول: أنا لن أموت لأن الحياة لن تموت، والموت سيكون رفيقي وكإني أحيّا به للحياة الآتية. كما أراني في حالة إستيقاظ من حلم في هذه الحياة، هكذا سأرى نفسي أستيقظ من حلم آخر إسمه الموت لأرث الحياة. مستذكراً قول القديسة تريزا الأفيلية: “تذكر إن لديك روحاً واحدة، وموتاً واحداً، وحياة واحدة. عندما تدرك ذلك، ستعلم إنك أهملت الكثير من الأشياء في حياتك”. فالموت هو درس يعلمنا كيف نتصالح مع الحياة لنكتشف معناها، لأن الكثير أضاع الحياة وهو يبحث عنها.