موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٢ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

الكنيسة.. بعد زمن الوباء

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا
لا شك أن هذا الوباء سيكون له تأثير دائم على الكنيسة في منظورها البعيد

لا شك أن هذا الوباء سيكون له تأثير دائم على الكنيسة في منظورها البعيد

 

أغلقت الكنائس في جميع أنحاء العالم، ولم يتمكن ملايين المؤمنين من المشاركة الفعلية في القداديس الإلهية لأسابيع مضت، وقد لا يتمكنون من المشاركة فيها لأشهر قادمة. ومن منطلق ما يحمله المسيحي من إيمان عميق ورجاء وطيد، بالتأكيد سينحسر هذا الوباء عاجلاً أم آجلاً. ولكن ببساطة، قد يراوده تساؤلات عديدة: هل أن زمن الوباء (فايروس كورونا) قد يغيّر جذرياً علاقة المؤمن بالكنيسة..!؟ وماذا يمكن أن تعني هذه التغييرات على المدى الطويل..!؟ وكيف سيؤثر على قرارات السلطة الكنسية في السنوات القادمة، وخاصة فيما يتعلق بمسائل إدارة الكنيسة ورسالتها الأجتماعية..!؟

 

يبدو للبعض بأن في رؤيتنا هذه، قد نستعجل الوحي الإلهي وما يبثقه فينا الروح القدس من تجدد دائم. ولكن ما أود قوله هو أننا ككنيسة قد إستيقظنا على حقيقة كوننا: "جسد واحد" (1 كورنثوس 12 : 12). كهيئة واحدة، لدينا مسؤولية مشتركة عن بعضنا البعض. ومن هنا قد نستنبط اليوم درساً من مقولة البابا فرنسيس: "إن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان"، وليس العكس. فإذا تعلمنا هذا الدرس جيداً، فإن الإنجيل سيعيش في حياتنا بطرق جديدة. عندما يعيش كل مسيحي في قلب الكنيسة النابض بالحياة، ليعمل من أجل كرامة الإنسان التي هي المفتاح ليكون الجسد كاملاً. وحينها نعمل معاً من أجل العدالة والسلام والرحمة وأحترام الخليقة ورفاهية الجميع، دون أي إنقسامات عرقية أو فوارق أقتصادية.

 

فمن ناحية، كان تأثير زمن الوباء على الكنيسة في "مفارقة" التفاعل الجسدي مع الحدث الأفخارستي. حيث تم تعليقه لفترة غير محددة. وأضحى تأثيره الأكبر في غياب الأسرار المقدسة وحضور المؤمنين. أما من ناحية أخرى، فتأثيره بات واضحاً في "مقاربة" الحضور حول العشاء الأفخارستي - نكسر الخبز معاً - إن كان بين أفراد الأسرة الواحدة، أو فيما بين الأقرباء والأصدقاء في جميع أنحاء العالم. حيث لم تمنعنا المسافة من مشاركة الآخرين - في عصر الإنترنت – من خلال "كنيسة إفتراضية" عبر صلاة مشتركة، ترنيمة، مدائح طقسية، مشورة راعوية وغيرها. وهنا أصبحنا أكثر حرصاً من أي وقت مضى على المشاركة والتفاعل مع حياة الآخرين، في عصر ينحرف فيه الكثيرين أو يبتعدون عن الكنيسة. وقد تكون تجربة الغياب هذه حافزاً للإستعداد والبحث من جديد لممارسة دعوتنا ورسالتنا، بل وأكثر حرية في المطالبة بالعدالة والرحمة في الكنيسة. لأننا في الزمن الصعب، الذي هو زمن الروح القدس الذي يوفر فرصة فريدة لتعزيز النمو الروحي والفكري والأخلاقي. زمن نختار فيه ما هو مهم وما يزول، ونفصل الضروري عن غير الضروري. حان الوقت لإعادة توجيه مسار حياتنا تجاه الله وتجاه الآخرين.

 

يشبه مجتمع كنيستنا اليوم -بشكل لافت للنظر- مجتمع تلاميذ المسيح ما بعد القيامة في خوفهم وضعفهم وضياعهم. ففي لحظة غير متوقعة فوجئنا -نحن أيضًا- وأدركنا ضعفنا وإرتباكنا وقلقنا. فمن غير الممكن أن تبقى جماعة الكنيسة في سراديب الإنعزال و"الأبواب مغلقة" بالتحفظ لحماية ذاتها فحسب. بل أن تنطلق جماعة كنيسة متعافية -ما بعد الفايروس- بأبواب مفتوحة لعنصرة جديدة تزيل المسافات الأجتماعية والهياكل الهرمية والضمائر البيروقراطية. نحلم بكنيسة تتقبل أساليب جديدة في الممارسة والتضامن والرحمة دون تمييز يذكر. لذا فنحن مدعوون جميعاً لإكتشاف مساحات "غير تقليدية" للتواصل ونشر الرسالة، من خلال جعل إيماننا أعمق وأكثر وجودية. نبتكر فيه طرقاً بديلة وفعّالة بمحبة وفرح القيامة. فالرب يستحثنا في خضم آلام صليبنا، ويدعونا إلى إيقاظ إيماننا وتنشيط رجاؤنا.

 

لا شك أن هذا الوباء سيكون له تأثير دائم على الكنيسة في منظورها البعيد. مما يجعلها أكثر وعياً وإدراكاً لأهمية توفير العناية الصحية للإنسان وسلامته وصون كرامته. لأنها أدركت اليوم بأنها قد تخلت أو أهملت في أحدى جوانب رسالتها الإنسانية عما يدعم ويقوّي حياة الإنسان وحصانته لمواجهة الشدائد والأمراض، توازياً مع دورها الخلاصي بما يغذّيه روحياً وإيمانياً. لذا من الممكن اليوم، أن تربط السلطة الكنسية مفهوم "الخلاص" بمفهوم الصحة والسلامة. فالخلاص ليس للبعض وإنما للجميع. ومن هنا يكشف لنا زمن المحنة والأزمات، بأهمية إعادة بناء أولويات وسلوكيات الكنيسة في تمويل ودعم بعض من مشاريع وأعمال مؤسساتها الخيرية والخدمية. وذلك من خلال إستحداث صيغ جديدة لكي تصبح الرسالة الإنسانية والرعاية الأجتماعية والأقتصادية للكنيسة أكثر فعالية وأكثر صدقاً وحيوية في سماع صرخة كل إنسان يعاني من ألم وفقر، وتكون مع اللاجئين والمشردين والأيتام والأرامل والعجزة.