موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٧ مايو / أيار ٢٠٢٠

الأحد الخامس للفصح

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
كيف لنا أن نعرف الطريق؟ (يوحنا 14: 1-12)

كيف لنا أن نعرف الطريق؟ (يوحنا 14: 1-12)

 

كيف لنا أن نعرف الطريق؟ (يوحنا 14: 1-12)

 

كم نحن محظوظون اليوم، لأننا بواسطة جهاز التّنقٌّل الدقيق في أيدينا (المعروف تحت إسم Navigator) نلاقي طريقنا بسهولة ونصل هدفنا المنشود بدقّة أكثر. نعم كم نحن محظوظون بهذه التسهيلات الالكترونية المُخترَعة في عصرنا، نستفيد منها لحياتنا اليومية، التي لو عرف عنها أجدادُنا، لحسدونا عليها حتى في قبورهم. إنني أتذكّر اليوم مرارا بعض سفرات لي طويلة في بلدان غريبة، كم من الوقت كنت أٌضيِّع، لأجد هذا أو ذاك الموقع، وكم وكم كنت أقف وأسأل المارّة عن الشارع الفلاني.هذه المواقف صارت كلها ماضي.

 

حياتنا كلُّها، رحلة دائمة إلى هدف واحد: من الله أتينا وإلى الله نعود. لكن الطرق متعددة، بل نقدر أن نقول، إنَّ أمام كل واحد، طرقاً كثيرة، بل تشابك طُرق، كما نشاهدها على ألأوتوسترادرات. وأذكر في هذا المجال مشهداً أدهشني مثلا في نيويورك. هذا المشهد: لربط مدينة نيويورك بولاية فيلادلفيا المجاورة شرقا، هناك أوتوستراد فوق البحر، بسبعة طوابق، بمفارق واتجاهات خيالية، فإن لم يأخذ السائق المَخْرجَ أو الإتجاه الصحيح ويتبعه، يقع في مجازفة وحيرة، حتى يُلاقي الإتجاه الصحيح من جديد.

 

للديانة طرقُها حتى نصل إلى مصدر حياتنا. إن الديانة التي أسّسها يسوع، هي ليست فقط ديانة من بين الديانات، بل هي الديانة الحقيقية التي تمكِّن الإتصال مع الله، وذلك عن طريق ابنه يسوع، الذي قال عن نفسه: أنا الطريق والحق والحياة. الدّيانات القديمة كانت تلاقي أو تمارس طرقاً ليست بالهيِّنة، لتتصل بآلهتها، وهي النّذور، والتقادم كذبح الثيران لها وحرقها، وطبعا الصلاة التي تدل على خوف مُصلِّيها من انتقام إلهه، إذ هو لا يتجاسر رفع العين والنّظر إليه حتّى لا يراه. على اعتقادهم، هذه الآلهة ما كانت تظهر لشعوبها ةتُعرِّف عن حالها، لكنّها كانت ساكنة فوق الغيوم. فبالممارسات المذكورة، كانت تحاول تليين قلب هذه الآلهة التي ما كانت كاشفة عن طبيعتها، لا بوصايا ولا بوحي منها. فهذا كان يخلق فقط خوفا دائماً عند المتعبدين.

 

بعكس الشعب المختار، فقد كانت عنده فكرة، ولو غير كاملة، عن يهوى، حتى قبل ظهور المسيح بآلاف السنين. فهذا اليهوى كان قد كشف عن هُويّتِه بعشر وصايا، من يمارسها يقترب من هذا الإله، ومن لا يمارسها يبتعد عنه. أوّلُ هذه الوصايا: أنا هو الرّب الهُك، لا يكن لك إلهٌ آخر. فهذه الوصايا هي أيضا دليل بل نور لحياتنا، إن مارسناها، رغم ما نلاقي حوالينا من مغريات ومنعطفات جذّابة، فنحن على الطّريق الّذي يقود إليه، حيث يقول صاحب المزامير: وصاياك يا رب نبراسٌ منيرٌ لخطاي، وهي نورٌ يضيء سبيلي (119: 105).

 

يا معلّم! ما أعظم الوصايا، اراد عالم فريسي أن يعرف من يسوع، فأجابه هذا:- أحبب الربّ إلهَكَ بكل قلبك ونفسك. هذه هي أُولى وأهم الوصايا. كذلك الوصية الثانية هي: أحبب قريبك كنفسك. هاتين الوصيّتين كانتا في التّوراة، لكن ليس بين العشر وصايا. وبالرّغم من ذلك فقد جعلهما يسوع، في طليعة كل الوصايا وأهمَّها. في هاتين الوصيتين يتعلّق النّاموس كلُّه والأنبياء(متى 22: 40). فإن حفظهما الإنسان وعاش حياته بحسبهما، فليكن متأكِّداً أنّ حياته ليست سدى، إذ كما قال القديس توما الأكويني: احبب واعمل ما تريد، فإنّ الّذي يحب، لا يعمل شيئاً خطأً.

 

ما عرف التاريخ والعالم وصايا وكتب قوانين مثل في زماننا اليوم، كلُّ دولة وحكومة لها كتبها التي فيها ألاف الشرائع والوصايا، ما هو مسموح وما هو ممنوع، وكلما حدثت مخالفة غير مذكورة في هذه الكتب، تُضاف قوانين جديدة لمنع حدوثها. إنه لا يوجد حقل من حقول الحياة بدون عشرات الشرائع والقوانين والتهديدات، فكأنّ الحياة كلَّها داخل سياج القوانين، المعروفة وغير المعروفة، ويفتكر كاتبوها أنهم بكثرتها ينظّمون ويحمون الحياة أحسن، وبالرّغم من ذلك ، فما اقْتُرِفت جرائم، وما دُوسَت العدالات والكرامات والشّرفُ بالأقدام، مثل اليوم. فللتسهيل والتحذير، قد اختصر يسوع كل الشرائع والوصايا وكُتُبِ القوانين، بهاتين الوصيّتين. إنه ما أراد أن يزعج البشر كالفريسيين مع 614 وصية إضافية إلى العشر وصايا، حتى يُطَمْئِنوا الناس، أنهم إن حافظوا عليها سيدخلون الجنة. فبسبب خلاف يسوع العلني مع الفريسيين، بسبب تحميلهم للناس بوصتيت كثيرة هم لا يلمسوها بإصبعهم، حدثت بينهم مناوشات مرارا وتكراراً، بحسب المواقف الموجودة في الأناجيل، وصلت إلى مئة مناوشة، وثارت ثائرته على تصلّبهم وتمسُّكهم بالحرف :الحرف يقتل وأمّا الرّوحُ فيُحي"، فلم يقبل بسلطتهم وحذّر منهم. "هم يحمِّلون النّاس أحمالا ثقيلة، أمّا هم أنفسهم فلا يلمسونها باصبعهم". موسى سمح لكم بالطّلاق رأفة بالنساء، أي لأجل قساوة قلوبكم.. الويل لكم، يا أولاد الأفاعي! أنتم تأكلون بأيدي مغسوله وأما قلوبكم فقبور مُجصّصة. لماذا تلاميذك لا يصومون؟ أيجوز دفع الجزية للمستعمر؟ أمّا طريقة حفظ الوصايا عند يسوع فهي عن سبب آخر: قيل لكم... أمّا أنا فأقول لكم!...إنه ليس ما يدخل القلب يُنجِّس الإنسان، بل ما يخرج منه: الغضب، النميمة، الحسد، قتل، زنى، سرقة، شهادة زور، تجديف. هذي هي الّتي تُنجِّس الإنسان (متى 15:15).

 

فالعشر وصايا هي فقط ما يجول في القلب والفكر، وما يستطيع الإنسان بأقصى حدٍّ، من مُمارسته في حياته، لذا فهو للحياة اليومية لا يحتاج إلاّ إلى هاتين الوصيّتين. فلو حافظ الإنسان عليهما مئة بالمئة، لما كُنّا احتجنا لا لشرطة ولا لجيوش، ولا لمحاكم ولا لسجون. إن الإنسان يلد في هذه الدنيا، قاصرَ النّظر والقوى الرّوحية، لا يفهم لماذا عليه أن يعيش قي نطاق لا يُطابق شهواته، كما قال بولس: "إني لست أفعل الصّالح الذي أُريده، بل الشرَّ الّذي لا أٌريده، فإيّاه أفعل"(روم 7: 19). والسبب يوضّحه لنا بولس أيضاً: لأننا وقعنا في الخطيئة: برجل واحد دخلت الخطيئة وبرجل واحد تدخل النّعمة فينا.

 

فلو لم يُخطئ الإنسان، يقول بولس أيضا، لما احتاج الله أن يكتب عليه وصايا، وما احتاج إلى وصايا وإرشادات حتى يلاقي خالقَه. لكن خطيئة آدم، قد أعمت بصيرته وقواه الرّوحية، لمقاومة الشرّ، وما عاد يرى الطريق الصحيح، ليصل سالما إلى البيت الأبوي. فبوصاياه، قد أراد الله أن يُنير إرادتنا، لنسير في الإتجاه الصّحيح. فكما السائق يحتاج لإشارات السير،فكم بالحري نحن على طريق حياتِنا المُعتمة. نعم بمعونة هذي الوصايا، صار بوسعنا أن نلاقي اتّجاه الطريق الصحيح: لأن وصاياك يا رب نور لعيني، يقول صاحب المزامير.

 

في خطاب وداعه لتلاميذه، قد وعدهم يسوع بأن يُرسل لهم المُعزي الذي سيبقى معهم، وهو روحه القدّوس. إنه سيعلِّمكم ويُذكِّركم بكلِّ ما قلته لكم. فلنفتح قلوبنا لحلوله القادم فينا، ليعطينا القوّة لمكافحة الشر وحفظ الوصايا، فالسير وراءه على الطريق الصحيح، فنصل كذلك إلى ميناء الحياة الأبديّة. آمين