موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٠ أغسطس / آب ٢٠٢٠

أيُّ نِعمةٍ هذه نِلْتِها أنْ تكوني راهبة!

بقلم :
حنا ميخائيل سلامة نعمان - الأردن
أيُّ نِعمةٍ هذه نِلْتِها أنْ تكوني راهبةً!

أيُّ نِعمةٍ هذه نِلْتِها أنْ تكوني راهبةً!

 

أيُّ نعمةٍ هذه نِلْتِهَا حينَ أضاء المُعلِّم الإلهي عليكِ مِن شُعاع نورهِ واختاركِ للحياة الرسولية من خلال تكريس ذاتِك للحياة الرهبانية!

 

أيُّ حُظوةٍ هذه نِلْتِها عند الفادي الطاهر القدوس حين تحركت أوتار قلبكِ لنداء مَحبَّتِه الإلهية فَأقدَمْتِ بإرادةٍ واعيةٍ، وثقةٍ، ودونَ تَردُّدٍ لتلبية النداء، فتركتِ ذوي القُربى ورفيقات الدَّرب وتخلَّيْتِ عن عَرَض الدنيا الزائل "مِن أجل الرِّبح الأعظم يسوع المسيح" ليمتلئ قلبكِ بحُضورِهِ الإلهي، فيملك فيه، ويجعل منه هيكلاً حياً لخدمته ومجده ولبذلِ حُبٍ أعظمَ إتماماً لمشيئته القُدُّوسة في خلاص النفوس وحَملِ سراج إنجيل المحبة والفداء، والعمل على نشر الرحمة الإلهية وتفعيلها لجعلها واقعاً ملموساً، مع ما يواكب هذا من أعمال التقوى والبِرِّ والإماتةِ لبلوغ درجة الكمال الروحي وللظفر بالكنز المُعد لكِ في ملكوت السَّماوات!

 

أيُّ تشريفٍ هذا وأيُّ إحسانٍ خصَّكِ به ينبوع النِّعمة عَيْنهِ بأن يقود روحه القدوس خُطاكِ نحو أديارَ عابقة بالإيمان والقداسة حيث الصلاة والتأمل والزُّهد والتَّبَتُل والاتضاع والخدمة، مَا يُشكِّل مَعِيِنَاً للفضائل الرَّهبانية وللارتقاء الروحي وذلك لتهيئتِك للمهمة السامية، ولتُنَمِّي في تلك الأديار دَعوتكِ على هَدي قوانينَ مُشبعة بالمحبة والرحمة والالتزام والمسؤولية للوصول إلى جوهر رسالة الرَّهبنة وغاياتها. وليتحقق لكِ في الوقت نفسه، المزيد من العِلم الوافر والخبرة الواسعة بهدف نُمُوِّكِ الرُّوحي المقرون بالمَعْرفي لرؤية الأمور بعين الإيمان. إن إبراز النذور المقدسة العِفَّة والفقر والطاعة والمحافظة عليها مدى الحياة يُعدُّ تتويجاً للرسالة الرهبانية المقدسة من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر يُعتبرُ تجسيداً حياً لأسمى المُثُلِ والقِيَمِ والفضائل السامية لِمَن صَفَتْ قلوبهنَّ للحقِّ فاصطفاهُنَّ الحقُّ!

 

وها أنتِ ذا تُؤثِرِينَ الصَّمتَ، فلا تتحدثينَ عن نفسكِ تواضعاً مِنكِ واتضاعاً، والتزاماً بقُدُسيَّة رسالتكِ، ذلك أن المجد الزمني ليس في خاطِركِ.. أنتِ يا مَن وجَّهتِ بَصَركِ وَبَصِيرتكِ نحو مجد الله في العُلى. ولأنَّ في الصَّمت تعملُ النِّعَم وتزدهر فإنَّ أنوار تقواكِ وَوَرعكِ وأعمال الرحمة والبِرّ ِوالبذل والتفاني وما تُنجِزينَ مِن خِدْمَاتٍ روحيةٍ وإنسانيةٍ وتربويةٍ واجتماعيةٍ وخيريةٍ نجدها تُشِعُّ ساطعة فَتُحدِّثُ عن فيض نِعَمِ الله عليكِ، وتبوحُ بمجده العامِل مِن خلالِك..

 

فها أنتِ ذا تُوْليِنَ الكنيسة، بيت الرَّب، ومذبحها المقدس اهتماماً بالغا ًلائقاً ليكونا في أبهى حُلَّة وسَناء، وَتُعِدِّينَ سُرُجَ الزيت، وتُوقِدينَ الشموع، وتُنظِّمين جَوقات المُرَتِّلين المُسبِّحِين، وتُهيِّئِينَ المُتقدِّمينَ للأسرار المقدسة بتعليمهم عن ماهيتها وقُدُسِيَّتها، وتُشرفينَ على تنظيمهم لأداء طُقوسها بخشوعٍ والتزامٍ، وغير ذلك من مُهماتٍ تدفعكِ إليها غيرتك الرسولية وحرارة إيمانك وقوّة الزاد السماوي القربان المقدس" سِرّ حُبِّ الله للبشر" الذي تتناولينَ كلَّ يومٍ.

 

كما يُشِعُّ ساطعاً مجد الله وإنعامه الوفير عليكِ فيتحدَّثُ عما تؤدِّينَ مِن جهودٍ وعطاءٍ في رعايتك وخِدمتك لملاجئ المُسِنِّين والعَجَزَة والمُهمَّشينَ، ودُور الأيتام، والجمعيات الخيرية، ومراكز العناية بأصحاب الإعاقات، والمشافي المختلفة حتى تلك التي تستقبل مَن اجتاحتهم الأوبئة على خطورة العمل فيها، يجيء هذا كلّه تطوعاً وبمحبةٍ خالصةٍ لا مِنَّة فيها أو ابتغاءَ مُقابلٍ، وبصرف النظر عن عقيدة مُتلقي العون والخِدمة أو بلدهِ أو أصلهِ أو هُويته أو جِنسِه!  وَتُشِعُّ ساطعة أضواء ما تبذلين بنعمة الله في ميدان التعليم الرَّحب في المدارس المختلفة والكليات المتخصِّصَة بما في ذلك مراكز التربية والثقافة الدينية. وليس يغيب عن الذهن تلك الأضواء المُنبعِثة من حُضورك للتوجيه والإرشاد في جمعيات الرعايا بمسمياتها المتعدّدة، وفي تجمعات الشبيبة الجامعية والعاملة بما يُضفي على أنشطتها طابعاً تَقَويَّاً ومُعتبَراً. وليس يخفى على أحدٍ زيارتكِ -حسب ما تأذن ظروفكِ- لتلك الأُسَرِ التي تُعاني ضَرَبات الزمن أو فقدان أحِبَّة فتمسحين الدموع وتُبلسمين الأوجاع وترفعين معهم صلاة السُّبحة الوردية فتتشدَّد العزائم ويزول اليأس. ولعلَّ في تعميم مثل هذه الزيارات وتوسيع مجالاتها لتشمل عائلات تعيشُ في غَمٍّ وقنوطٍ أو فراغٍ روحيٍ والتواصل معها مَا يجعلها تتوهج من جديد بالرجاء والأمل!

 

 وها أنتِ ذا بمعونة الروح القدس وبقوة الصليب الذي يُطوِّقُ عُنُقكِ وبما أُولِيتِ مِن نعمةٍ وبصلواتكِ تتغلبين على ما قد يعترض مسيرتكِ من تحدياتٍ وصعوباتٍ، ومِن أمامَكِ تتوارى قِوى الشّر وأباطيل قِوى الظلام فتُهزم كما يَهزم النور الظلمة!  وها هي ذا السُّبْحَة الوردية ترافقُكِ على مدار الساعة حُباً منكِ وتكريماً لوالدة الله المُمَجدة مريم العذراء.  فترفعينَ الصلوات من خلال تَسْلسُل حبَّاتِها وتتأملينَ في أسرارها" الفرح والحزن والمجد" التي تُمثِّلُ جميع مراحل حياة يسوع وأمّه الممتلئة نعمة الواقفة على شُرفة التاريخ بشُعاعها الآسِر منارة رجاءٍ وأملٍ وعون.

 

أُختاهُ الرَّاهبة، الطُّوُبى لكِ.. فقد أَصَبْتِ خيراً.. فها أنتِ ذا تَمْضِينَ على درب القداسة مِن خلال إتمامِ رسالتكِ المقدسة الشريفة السامية بإيمانٍ مقرونٍ بالمثابرة والتفاني والاتضاع والصَّمت.. فَلَيتَنا نتعلم منكِ ونقتديَ بك!

 

ويتخطَّرُ في البالِ وأنا أختتمُ ما سَطَّرت قول جُبران:

 

"وهناكَ الذين يُعْطونَ ولا يَعرفون معنىً للألم في عطائِهم، ولا يَتطلّبون فرحاً، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم. هؤلاء يُعطونَ مما عندهم كما يُعطي الرَّيحان عَبيِرَهُ العَطِر في ذلك الوادي. بمثل أيدي هؤلاء يتكلمُ الله، ومن خلال عيونهم يبتسمُ على الأرض".