موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله

أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله

 

الأحد التاسع والعشرون (متى 22: 15-21)

 

جملة ذهبية مُؤبّدة لا تُنتسى، وقد ختمتْ تاريخ المال بختم أبدي. لمّا حدثت هذه المناوشة بين جماعة من الفريسيين، واسمهم الغيوريّين، كانوا يغارون على شعبهم من حكم وظلم وبطش المستعمر الروماني، كان يسوع قد أمضى حوالى السنتين والنصف في التبشير، وكان قد تجوّل في أكثر مدن وقرى وجبال فلسطين، وكَسِبَ عددا لا يُستهان به من الأتباع. والآن كان قد وصل مدينته المحبوبة أورشليم، وكان واقفاً في ساحة الهيكل، حيث اليهود الأتقياء وغير الأتقياء يقضون يومهم في حراسة الهيكل، والجدال مع هذا وذاك. وفعلا هم كانوا ليس فقط سمعوا عن المُسمى يسوع بل وتجادلوا بحِدَّة معه مرارا، وعرفوا بأفكاره وموقِفِه منهم، هذا وكثيرا ما كان ينتقدُهم، لذا كانوا يحاولون القيام بمعاكساته، خاصة بما يخص الحكم والضرائب. فكانت هذه الفئة غيرَ راضية من تصرُّفاتِ المستعمر الرّوماني مع الشعب، وتقوم بحركات ثورية ضد وجوده. منهم المسمّى برأبا، الذي كان في السجن بسبب مظاهرة قام بها على الرومان المستعمر. موضوع الجدال اليوم مع يسوع كان: هل يجوز دفع الجزية للمسستعمر أم لا؟ أمّا جواب يسوع على سؤال الجزية هذا، فهو كرزة، بل درسٌ أبدي، للناس في كل جيل.

 

كل البلاد وكل الدّول، لها ماليّتُها، ولها  خزينتُها، كما ولها وزاراتها الجمركية. لكنها، أي وزارة الجمارك هي أكره الوزارات عند الصغير والكبير، والكل كان يتهرّب منها ومن موظّفيها ومكاتبها. أمّا موظّفو هذه الوزارات فكانوا دائما من المبغوضين عند الشعب(هذا ولا أظن أنّ سمعتهم اليوم أحسن). هل نسينا قصص متى وزكّا العشارَيْن، وهما رغم أنهما من الشّعب، لكن المستعمِر كان قد وظَّفهما أوّلا كي لا يُجازف بإرسال موظّفين رومان إلى الفريسيين، وثانيا لأنهما كانا يفهمان عقلية شعبهما أحسن من المستَعْمِر، وإن طلب الموظف ضرائب عالية من شعبه، فبحجة أن المُستعمِر يفرض عليه ذلك. لكنه بعد ارتداده، كشف هو سرَّ كذبه وتلاعبه، فقد كان يطلب إلى أربعة أضعاف أكثر من المُقرّر، وذلك لجيبه الخاص. فهؤلاء الموظّفون كانوا يعيشون بفحش ورخاء، لا مثيل لهما. وكانوا أكذب الموظفين ومكروهين عند شعبهم، إذ هم غير صادقين. وقد قال المثل: يد العامل ثمينة ما دامت أمينة! لكن هيهات أن يكون موظف الجمرك أمينا، خاصة وأنه لم تكن قوانين جمع الضرائب واحدة في كل المناطق، لذا كان الموظّف يرفعها على مزاجه، بدون رقابة. لكن الرّومان ما كانوا يقاصصونهم  لأنهم كانوا يجلبون المال الكافي من شعبهم.

 

لكل شعب كتاب قانونه، وجمع الضرائب والجمرك هي من ضمن هذه القوانين، ولو أنها تبدو من أكره القوانين. يمكن لأنّها مرتبطة بمعاملات وأوراق، ولو أننا على علم ومطّلعين أن الحكومة بحاجة إلى مالنا للمشاريع الإجتماعية العامة الضرورية، كجلب الماء والكهرباء والبريد وفتح الشوارع لفائدة الجميع، كما ولا ننسى دفع معاشات موظّفيِّ الحكومة الّذين يخدمون الشعب.وماذا نقول عن بناء المدارس ورياض الآطفال والمستشفيات وملاجئ العجزة. أنسينا مناسبة جمع الضرائب الضرورية في زمان استعمار الرّومان، فكان القيصر أغسطس أوّل من أدخل عادة جمع الضرائب بسبب العجز المالي في صندوق مستعمرته، فوضع القانون أن كل مسافر عن بلده أن يعود اليها ويدفع الضريبة. فكان ما كان من يوسف ومريم أن رجعا إلى بيت لحم، وبتصميم إلهي، وُلِد يسوع هناك.

 

دفع الجزية يعني الإعتراف بالحكم السياسي القائم، ولو كان مستّعمِرا، كما كان الحال في إسرائيل قبل ألفي سنة. هل يجوز دفع الجزية؟ سأل الفريسيون يسوع، بظنِّهم أن الّذي يطلب الجزية منهم، هو حاكم مستعمِر، وليس منتخبا شرعيّا من الشعب، فأي حق له؟ ظنّاً منهم أنّ يسوع، كرجل يدافع عن الحق، سيشعر معهم ويعطيهم حقّاً على سؤالهم، خاصة وأن أكثر الشّعب ما كان مطّلِعا رسميا عن أسباب إرغامه لدفع الجزية، وعن المشاريع الرسميّة التي تقوم بها الحكومة، شّرعية كانت أو غير شرعيّة، مُعترفٌ بها أو غير مُعترف، فهي حكومة استعمارية، تحكم البلاد باسم قيصر روما، وتحرم المواطنين من أهم حقوقهم. تمنعهم من استعمال عُمْلَتِهم الخاصة، التي كانوا بأمس الحاجة لها، للإعتناء بالهيكل وموظّفيه. أمّا العملة المُتداولة، فعليها صورة القيصر المستعمر، لذا طلب منهم يسوع أن يرى العملة اليومية التي بين أيديهم وجيوبهم، ليعطيهم الجواب على سؤالهم المُحرج. فهم كشعب يؤمن بربه ما كان يحق له أن يعبد إلها آخر في الأرض، التي أعطاهم إياها، ولا يحق لهم أن يحكموا على مبشّرٍ بديانة أخرى بالموت، لذا لجأوا إلى المستعمِر أن يحكم هو على يسوع بالموت. ولإهانتهم وإذلالهم الدّائم، أرغمهم المستعمر أن يعترفوا بقيصر روما إلها جديدا لهم، ويُقدِّموا له ذبائح التكريم والتبجيل في هيكلهم، هذا وكان تمثال القيصر تيبيريوس، بوقفة رياضية عارياً وعلى رأسه إكليل الظفر، منصوبا قريبا من باب الهيكل على منصّة، فَفُرض عليهم عندما يمرّون قدام هذا التمثال أن يحنو رؤوسهم وركبهم له، وذلك قبل أن يحنو رؤوسهم قدام يهواهم، هو يهوى الّذي كان حرّم عليهم الإعتراف بأي إله آخر غيره. لكنْ إلى هذه الدّرجة من الإذلال أوصلهم الإستعمار. لذا فسؤالهم، بل الجواب عليه، سيكون بمثابة تنفيس لهم، ليحتجوا ويرفضوا دفع الجزية.

 

فالضرائب وإن كانت تضرِّر المواطن الفردي وتُذِلُّه، إلاّ أنها تُستعمل لفائدة المُجتمع. لذا فقانون دفع الجزية لا يَعفي أيَّ مُواطن. لكن سؤال الفرِّسيين ليسوع كان سيفا ذي حدّين، أي هم كانوا بحاجة إلى شخصية قوّية تدعمهم، يعتمدون عليها بالإحتجاج بل بالثورة على المستعمر ورفض دفع الجزية. لكن أيضا من جهة أخرى كان في بالهم اصطياد خطإٍ على يسوع، الذي كانت شعبيته تزداد يوما بعد يوم بين الجماهير، إذ كان يعارض تعليمهم علنا بين الشعب، وذلك ليتّهموه أمام محاكمهم بأنه عميل مع المُستعمِر ضدَّ إرادة الشّعب، المُعارض لدفع الجزية. إنّ هذا ليس بالجديد، فهي الجماهير التي ترفع صية شخصيّة أو تسقِطُها إلى الحضيض. ومحتوى إنجيل اليوم يُثبِت ذلك.

 

سألوه وانتظروا جوابه، لكنهم تفاجأُوا من جوابه المحرج لهم، لأنه ما كان لا لصالحهم ولا لصالح مخطّطِهم. فالسُّؤال كان دينيّا سياسيّاً قي نفس الوقت. فأيَّ جواب كان يسوع سيعطي، كان فريق منهم سيلاحقه. وإني أظن أنّه لو كان جوابه: أعطيكم حقّاً، فلا يجوز دفع الجزية للمستعمر الرّوماني، لكانوا اعتبره صاحب ثورة، ولكانوا قبضوا عليه ه عدة أسابيع قبل التاريخ الذي صُلِب فيه، من الرّومان وليس بشكاوة من الفريسيين.

 

بجوابه على سؤالهم سَدَّد هو السّلاح عليهم، الذي كانوا هم سدّدوه عليه: ببساطة قال لهم: بما أن هذه العملة آتية من روما، وتحمل صورة قيصر روما، فهي له. إذن أعطوا للقيصر ما هو للقيصر. بهذه العبارة يعترف يسوع بحقِّ الحكومة القائمة، التي تنظِّم حياة المواطنين في زمانها وأثناء حكمها "إذ كل سلطة هي من الله" يقول بطرس الرّسول(2 بطر1. 3). ومن كتاب التكوين نعرف أنّ الله سلّط الإنسان على التنظيم في عالمه، فيجب القبول به: سواؤ حكومة ملوكية أو جمهورية، أو استعمارية أو شيوعية أو إسلامية أو مسيحية أو اشتراكية. هذه الحكومات يجب قبولها ما دامت قائمة بواجباتها الإجتماعية الشرعيّة، كدفه معاشات الموظّفين، وتأمين الحماية والخدمات العامة، ويجب دفع الضرائب لها، وإلاّ فإن الله حق أن يُطاع أكثر من البشر، كما قال الرسل لرئيس  المحفل الّذي طلب منهم ألآّ ينشروا خبر القيامة، أو كما قال يوحنا لهيرودوس: لا يحق لك أن تتزوّج إمرأة أخيك!. وهذا هو ميزان حياتنا مع كل حكومة نعيش تحتها كمسيحيين. ومن ناحية ثانية، فبما أنّكم تدّعون أنّكم أتقياء ولكم ربّكم، إذن أيضا أعطوا لله ما هو لله! كونوا أُمناء لوصايا الله. فهذا الجواب يقول أكثر ممّا كان في عقل السّائلين، ويُعطي لكلٍّ حقّه. أنتم أبناء هذا المجتمع، إذن عليكم إلتزامات وواجبات تُجاه من يتحمّل مسؤولية تجاه الشّعب، ويقدم خدمات واضحة لهذا المجتمع. فمن يريد أن يُلاقي خبزا طازجا كل صباح ليأكل وماء نقيّا ليُطفئ عطشه، وطريقا صالحا للوصول إلى عمله، ومدرسة قريبة لأولاده ومستشفىً ملائما لعلاجه حينما يمرض، وووو. لا يحق له أن يُلاقي عذرا، ويحرِّر نفسه من دفع الجزية المُستَحقّة، فهذا اسمه أنانيّة وبخل مخزيان حتى لا نقول مؤلِمان، خاصة وأنه يحق للمسيحي الأوروبي أن يعلن خروجه من الكنيسة ليوفّر الضريبة الكنسية، فهذا قانون غير منطقي. فلو كان ألإيمان قويّا لما أقدم أحدٌ على هذه الخطوة المخزية. فهل يا ترى علاقة الإنسان بالله والإيمان مرتبطة بالمال؟ وهذا تكرار لما فعل يهوذا، الذي باع سيده بثلاثين من الفضة. ولا يفهم ما معنى المسؤوليّة تُجاه الآخر. لكن الإنسان بخيل بمشكلة المال ولا يفكّر إلا بنفسه: يا تفسي! كلي وتنعمي، فلديك غلة لسنين كثيرة. هذا اسمه يهوذا الذي يبيع سيده بثلاثين من الفضة "ماذا ينفع الإنسان، لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه". سؤال بسيط: ٍ تُرى، لوكان عند الله مالا، فماذا كان سيفعل به؟ بنك؟ تجارة؟ مشاريع مربحة؟ الجواب أبسط من ذلك. الله ما عنده أيُّ مال، فلقد أعطى كل المال لي ولك، لنعمل به خيرا. لا تهتموا لأنفسكم بماذا تأكلون أوتشربون. أنظروا إلى طيور السّماء فإنها لا تزرع ولا تحصد، لكن أباكم السّماوي يُغذيها. لا تنسوا، إنكم أفضل من الطيور. إكنزوا لكم كنوزا في السّماء.  أدّوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

 

فلسُ الأرملـة ودفع الجزية

 

هُنَاكَ وَقَفْتَ تُراقِبُ أَفْواجَ الدَّاخِلينَ للصّلاه

وإِذا بِأَرْمَلَةٍ مُتْقِعَةٍ تُعْطِي فِلساً ما لَها سواه

 

تَبِعَهـا تَحِيَّةُ غَنِيٍّ طَبَّلوا وَصَفَّقوا وَهَلَّلوا لَـهُ شاكرين

فَحَسَنَتُهُ لا يَقْدِرُعليها ولا تَأْتِي إلّا مِنْ أَيْدي النّادِرين

 

أذْهَلْتَهُ بِذَمِّهِ لا بِمَدْحِهِ إذْ قُلْتَ أَعْطى مُراآةً لِأنّهُ شبعان

وأمّـا جَزاءُ تِلْكَ الْأَرْمَلَةِ الْفقيرةِ فكبيرٌ لا يُقاسُ بميزان

 

سَأَلوكَ هَلْ يَحِقُّ دَفْعُ الجِزْيَةِ لِلْقَيْصَرِ وَحُكومَتِهِ الرّشيدة

فَلَمْ تَتَوانَ بِالْإعْتِرافِ بِحَقِّ خَدَمـاتِهِ للشَّعبِ وَهْيَ عديدة

 

أَدُّوا ما لِقَيْصرَ لِقَيْصَرْ فَالْحـاكِمُ رَمْزٌ للسُّلْطَةِ المَحَلِيَّة

وأَدُّوا ما لله لله بإِتْمامِ الْواجِبِ وَالطَّاعَةِ لَهُ بِكُلِّ حُرّيّه

 

مَنْ ظنَّ أنَّ السُّلْطَةَ هِيَ حقٌّ لِكَسْبِ الْمَصالِحِ الشَّخْصيِة

فَقَدْ أَخْطَأَ الْهَدَفَ إِذْ الْحُكْمُ ما كانَ بَدِيـلا للسُّلْطَةِ إلإلهية