موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٥ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

أسوار أورشليم القاتلة فلنبدأ بتهديمها في قلوبنا

غسان صليبي

غسان صليبي

غسان صليبي :

 

يحتفل المسيحيون هذا الأحد والأحد الذي يليه، بعيد "الشعانين"، وهو ذكرى دخول يسوع إلى أورشليم.

 

في المفهوم الشعبي المسيحي، يرمز عيد "الشعانين" الى تواضع يسوع الذي دخل على ظهر أتان، والى حب الناس والأطفال له، الذين استقبلوه حاملين أغصان الزيتون، مرددين "المجد لابن داود، تبارك الآتي باسم الرب، المجد في العلى".

 

لا يربط المفهوم الشعبي المسيحي كثيراً بين عيد "الشعانين" و"الجمعة العظيمة" التي صلب فيها يسوع، مع أنها تأتي بعد أيام قليلة منه. فهم لا يتساءلون كثيراً لماذا أتى صلبه بعد وقت قصير من دخوله الى اورشليم.

 

كانت اورشليم بمثابة عاصمة لليهود، تتركز فيها السلطات الدينية والمدنية، وكذلك العسكرية التي كانت بيد المحتل الروماني.

 

فقد كان يسوع قبل دخوله إلى اورشليم، يعلّم في الجليل، وفي مناطق تبعد عن مراكز السلطات العليا. لذلك يمكن اعتبار دخوله الى اورشليم، دخولا الى عقر دار هذه السلطات، وتحدياً صريحاً لها، وبخاصة الدينية منها، هو الذي ما انفك ينتقدها في تعاليمه. وهذا ما يفسر صلبه، على يد هذه السلطة، بعد فترة قصيرة من دخوله الى المدينة. ولا سيما ان الناس كانوا ينادونه "إبن داود"، الأمر الذي اعتبره رجال الدين تهديداً كبيراً لسلطتهم.

 

لم تكن المرة الاولى التي يواجه فيها يسوع السلطة الدينية، لكنها كانت من قَبْل، مواجهة مع ممثليها، من مثل الفريسيين، الذين تصدى لهم ولخبث تعاليمهم. فدافع عن الزانية، وعاشر المنبوذين والفقراء وانتقد الأغنياء، وشفى المرضى ايام السبت، وهو يوم محرّم القيام بأي عمل فيه عند اليهود. وقد أغضبت كل هذه المواقف والاعمال السلطات الدينية.

 

في اورشليم، تغير الوضع وأصبحت المواجهة مباشرة مع السلطات الدينية العليا. وقد نقل يسوع المواجهة الى داخل الهيكل نفسه، حيث تمارس السلطة الدينية عملية تلقين الشعب وجعله يخضع لمشيئتها. وراح يهاجم أيضا الصيارفة والتجار، الذين يستغلون ساحات الهيكل لممارسة التجارة والاحتيال على الناس، ونعتهم باللصوص. وهذا ما وسّع من دون شك مروحة الاطراف الحاقدين عليه.

 

تلاميذ يسوع ومعهم الرسول بولس، فعلوا مثله بعد صلبه، اذ لم يكتفوا بالتبشير في المنطقة التي ولدوا وعاشوا فيها، بل قرروا الذهاب للشهادة ليسوع في معقل الامبراطورية الرومانية في روما، متحملين كل الاخطار، مما أدى الى استشهاد معظمهم. ولكن بعد اربعة عقود من التبشير والشهادة، خضعت الامبراطوربة الرومانية، مع تبني الأمبراطور قسطنطين للمسيحية.

 

عيد "الشعانين" ليس إذاً احتفالاً للاطفال فقط، ومناسبة لكي يلبسوا الثياب الجديدة. بل هو قبل كل شيء ذكرى حدث الدخول الى اورشليم، وما يعنيه ذلك من تغيير في مسار يسوع.

 

مع إلغاء الاحتفالات الدينية هذه السنة بسبب كورونا، ربما الفرصة سانحة للمسيحيين، للتأمل وهم في الحجر المنزلي، بالمعنى الحقيقي للعيد، ومحاولة إعطائه بعداً أعمق وأشمل.

 

لكن الاهم يبقى، تحويل العيد من مجرد ذكرى، الى مثل يحتذى به من خلال الممارسة.

 

انها دعوة لمسيحيي اليوم، وبعد جلاء كورونا، لأن يدخلوا هم أيضاً الى كل مكان يذكّر بأورشليم في بلادهم. كل مكان فيه تسلط او ظلم ديني او سياسي او اقتصادي او عسكري. تسلط لا يعترف بحقوق الانسان ولا يحميها، بل ينتقص منها ويقمع ممارستها.

 

وليدخلوا الى مواقع التسلط كافة، حاملين أغصان الزيتون، فالمسيحية لا تتعايش مع العنف، مهما ادعى بعضهم عكس ذلك.

 

وعندما يردد المسيحيون عن يسوع قوله "أترك كل شيء واتبعني"، يجب ان يعرفوا ان تعبير "اتبعني" يعني "امش على دربي"، التي تمر حكماً بالدخول الى اورشليم، اي الصراع مع السلطات.

 

هذه الأورشليم القاتلة التي بنينا اسوارها في العائلة وفي المدرسة وفي العمل وفي الدولة، وفي أي مكان في العالم تُنتهك فيه حقوق الانسان. واول هذه الامكنة، اورشليم- القدس، في فلسطين المحتلة من إسرائيل.

 

وليكن الدخول الى اورشليم، كالدخول الى روما، تمهيداً لاستسلام التسلط والظلم امام المحبة.

 

في حجرنا المنزلي، في انتظار العودة الى حياتنا الطبيعية، فلنبدأ بتهديم اسوار أورشليم، في عقولنا وقلوبنا.

 

(النهار اللبنانية)