موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٣ فبراير / شباط ٢٠٢٢
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج) مع المطران بشار وردة - اللقاء الثامن
"فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً" (تك 12: 2)

أبرشية أربيل الكلدانية :

 

المقدمة

 

أخبرَ موسى فرعونَ برسالةِ الرّب أنّه سيمرُّ في منتصفِ الليلِ على أرض مصرَ (11: 4) ويفعلُ فيها ما لا يقوى حاكمُها على مقاومته، والحديث هنا ليس عن ليلٍ ماديّ فحسب، بل عن ظلمةٍ روحيةٍ، تسود حينما يتشبّثُ الإنسان بأوهامه: "مَنْ هُوَ الرَّبُّ حَتَّى أسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَأطْلِقَ إسرائيل؟ لا أعْرِفُ الرَّبَّ وَإسرائيل لا أطْلِقُهُ (خر 5: 2)، فعرّف اللهُ فرعونَ ومصرَ كلّها مَن يكون الربّ إله إسرائيل من خلال الآيات التسع، فكانم له الكلمة الأولى والأخيرة أيضاً، فهو الذي يضربُ وهو الذي يُخلِّص مصرَ من الكارثة، فكشفَ عن قُدرته وجرّدَ مصرّ ساخراً من آلهتها وسَحَرَتها، وعلى الرّغم من ذلك، واصل فرعون والمصريون احتجاز العبرانيين وإذلالهم بالأشغال الشاقّة (خر 1: 11)، وقتل المواليد الذكور (خر 1: 22)، مع أنّ الله كان واضحاً في رسالتهِ إلى فرعون: "إسرائيل ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي فَأبَيْتَ أنْ تُطْلِقَهُ. هَا أنَا أقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ" (خر 4: 23).

 

فليستِ الضرباتُ إذن ردّات فعل إعتباطية لمواقف فرعون المتعتدة، بل يبقى الله فيها سيّدَ الأحداث، وهو المُبادِر، وهو يريد أن يُعرِّفَ فرعونَ، وكلَّ إنسانٍ، أن لخطاياه أثراً سلبياً على الكونِ كلّه، ومهما كان ذلك الأثرُ سيئاً، فالرّبّ حاضرٌ ليُعيدَ ترتيبَ الحياة مثلما أرادها هو إن تعاونَ الإنسان معهُ. وبقيّ الله إلى جانبِ فرعون ومصرَ في وسط هذه الضرباتِ، بل حذّرهم لينتبهوا إلى كارثةٍ البَرَدِ المُهلكةِ. فكلُّ مَن خافَ الربَّ نجا من الكارثةِ (خر 9: 19- 20). فلم يكن تدخل الله في الضرباتِ من أجل المُعاقبةِ، بل أرادَ إنذاراً وتعليماً وإرشاداً. ولكنه عندما رأى أن العنادَ تغلّبَ على عقلِ الإنسان، ولم يسمع ولم يهتدِ ولم يتُب، سمحَ للضربةِ بأن تبلغ مداها، مثلما قال ربّنا يسوع ليهوذا: "مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ" (يو 13: 27).

 

لكن يبقى السؤال: "لماذا اختارَ الله أبطارَ المصريين ليُعاقبَ فرعونَ على قساوةِ قلبهِ؟ وكيف يسمح الله بأن يموت أطفالٌ أبرياء لمُجردِ أنهم قد وُلدوا لأبوين خاطئين؟

 

 

تأسيس احتفالية الفصح

 

يُمكننا أن نُميّز ثلاثِ رواياتٍ في الفصل الثاني عشر من سفر الخروج:

1. تأسيس عيد الفصح (1- 28)

2. موتُ أبكارِ مصرَ (29- 42)

3. توصياتٌ للإحتفالِ الفصحي (43 – 51)

 

 

يُعتقَد أن هذا العيد قد كان في الأصلِ عيدَين: عيدٌ يحتفل به البدو، وكان الرعاةُ يُقدمون فيه ذبيحةً مع بدءِ فصل الربيع حيث تزدهر المراعي الخضراء وكانوا يحتفلونَ به ليلاً، وعيدٌ زراعيّ اعتادت قبائل كنعانية الاحتفال به في الموعدِ نفسه عند مطلع موسم الحصاد. وحتّى لو افترضنا جدلاً قبولَ هذه النظرية، وأن الطقوس التي ترافقها قد أضافها الكهنة لاحقاً إلى احتفالية العيد، إلاَّ أنَّ هناك ما يميّز هذا العيد المزدوج فقد صارَ عند العبرانيين عيداً عائلياً يتمَحوَر حول اختيار الله لشعبٍ على أفرادهِ أن يعرفوا أنهم مُميّزون بسبب اختيار الله هذا. عيدٌ يُعطي للعائلة وللجماعة هويّتها، فهم جماعة عائلية، أمّا تقديم الذبائح فهو ظاهرة شائعة بين الناس، وقد فعل الشعب ذلك على المنوال نفسه، حيث كانوا يُقدمونَ الدم علامةَ الحياة، ضمنَ تجمّع العائلة الواحدة في الرابع عشر من شهر نيسانَ من كلِّ عامٍ، فليست الذبيحة هي المهمة في هذا الحَدَث بقدرِ ما هو التجمّع العائلي في حضور الله الذي دعاهم ليكونوا شعبهُ والتثقيف الذي يرافق الاحتفال بهذا العيد.

 

ينتظر سامع القصّة معرفةَ كيف سيُنفّذ الله الضربة الأخيرة ويجعل فرعونَ يستسلم ويُطلِقَ سراح الشّعب، إلاّ أن الرّاوي ترك قصر فرعون ومصر، ليوجّه حديثهُ الآن إلى العائلة العبرانية، التي يُفترَض أن تشمَت بموتِ أبكار المصريين، فجعلهم منشغلين بالتحضير لطقوس الاحتفال بذكرى ليلة الخروج، لتكون هذه الذكرى قصّة كلِّ يوم؛ قصة موتٍ وحياةٍ جديدة، لذا، قطعَ الراوي الحديث عن الضربة العاشرة وبدأ بسرد طقوس احتفالية الفصح، فكشفَ لنا أن غرض الخروج من مصر ليس الحُرية فحسب، بل التعبّد لله مثلما أعلنَها صراحةً لفرعون: هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ إلَهُ إسرائيل: أطْلِقْ شَعْبِي لِيُعَيِّدُوا لِي فِي الْبَرِّيَّةِ (خر 5: 1)، "هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ الَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ أطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي" (خر 9: 1)، هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ الَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ إلى مَتَى تأبَى أنْ تَخْضَعَ لِي؟ أطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي" (خر 10: 3).

 

الغاية إذن من وراء هذه الدعوة هي تقديم العبادة لله، وسيكشِف الله للشّعب في البرية مضمون وشكلَ هذه العبادة، ولكن قبل أن تبدأ هذه الرحلة عليهم أولاً أن يتعهّدوا لله بالأمانة في كلّ ما يطلبهُ منهم، فهو لن يتربطَ بعهدٍ مع شعبٍ لا يُريد التعبّد له، لذا، لزِم أولاً الاتفاق على المُشترعات، بدءاً من احتفالية الفصح، قبل مواصلة الرحلة. وهكذا نفهم لماذا قطع الراوي حديثه عن الضربات العشر، وقدّم لنا قصّة ما جرى في كلّ بيتٍ عبراني ليلةَ الخروج من مصرَ.

 

"وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ فِي أرض مِصْرَ: "هَذَا الشَّهْرُ يَكُونُ لَكُمْ رَأسَ الشُّهُورِ. هُوَ لَكُمْ أوَّلُ شُهُورِ السَّنَةِ" (خر 12: 1-2). هو بدءُ فصل الربيع، زمنٌ تبتهجُ خلالهُ الأرض كلّها بتجدد الحياة بعد الخريف والشتاء، فتحتفل الطبيعة، التي كانت ومازالت في خدمةِ التدبير الإلهي، بما صنعهُ الله. ومن الطريف أن يكون الاحتفال بتقديم أحد آلهةِ مصرَ ذبيحة لله، إذ يختار الرّب أن تكون شَاةً صَحِيحَةً ذَكَراً ابْنَ سَنَةٍ تَأخُذُونَهُ مِنَ الْخِرْفَانِ أوْ مِنَ الْمَوَاعِزِ" (خر 12: 5)، فلا يُمكن أن تُقدّم ذبيحة مُعيبةٌ للرّب، ويجب أن يكون الاحتفال مُعدّاً على نحوٍ عقلاني من دون تبذير، لذا، يُمكن أن تشترِك عائلتان في تقديم الذبيحة، والتي يجب أن تُحفظَ لأربعة عشرَ يوماً، حيث يلحظ المصريون أن العبرانيين مزمعون على تقديم أحد آلتهم ذبيحة للرّب، فلا يخانفوهم بل يواصلوان التحضير للإحتفال، وهكذا يُعلمهم الله تجاوز الخوف الذي صارَ متلازماً لهم بسبب إذلال المصريين لهم، فيذبحون أحد آلهةِ مُعذّبيهِم حتّى يتمكنّوا من قبول عطية الحُرية، وهكذا يرفضون مصرَ وآلهتها وهم يُعلنون ذلك صراحة عندما يَأخُذُونَ مِنَ الدَّمِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْقَائِمَتَيْنِ وَالْعَتَبَةِ الْعُلْيَا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي يَاكُلُونَهُ فِيهَا" (خر 12: 7). كما أنهم ليسوا مثل الحيوانات التي تقتل وتأكل فرائسها مباشرةً، عليهم أن يضبطوا غرائزهم فلا يأكلون بعد الذبح.

 

يُذبح الخروفُ في مساءِ يوم الرابعَ عشرَ؛ نحو الساعة السادسة مساءً، ويجب أكل الذبيحة مشويةً بالنارِ مع خبزٍ فطيرٍ وأعشابٍ مُرّة في إشارة إلى مرارةِ عبوديةِ مصرَ، وفي حالةِ تأهّبٍ للرحيلِ. عليهم إتمامُ أكلهِا من دون أن يبقى شيءٌ، فالذبيحةُ كلّها لله، وهي ليست وليمةَ أُناسٍ مُستقرّينَ آمنينَ، بل أُناس رُحَّل ارتدوا ملابسَ سفرٍ للطريق وانتعلوا أحذيةً في أرجلهم وحملوا عصياً في أيديهم، وكلُّ شيءٍ يجب أن يتم على عُجالةٍ لأنهم راحلونَ، حتّى أنهم سيأكلون خبزاً غيرَ مُختَمِرٍ لأن الرحلة لا تحتمِل أن ينتظرَ الشّعب حتّى يختمرَ العجينُ، ولكي لا تراودهم تجربة البقاء تكاسلاً، عليهم أن يُخرجوا الخميرَ من منازلهِم.

 

تؤكَل الذبيحة خالية من الدم، لذا يجب أن تشوَى، فاللّه حرّمَ أكل اللحم بالدم (تك 9: 4)، وهم ليسوا مثل الحيوانات التي تأكل اللحم نيئاً، بل عليهم أن يأكلوه مَشْوِيّا بِالنَّارِ مَعَ فَطِيرٍ. عَلَى أعْشَابٍ مُرَّةٍ يَاكُلُونَه"، ويُحرَق ما يفضلُ منه (خر 12: 8 – 10)، وعليهم أن يكونوا مُستعدّين للرحيل، لأنّ المصريين سيطردونهم: "تأكلونهُ وأحْقَاؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ وَأحْذِيَتُكُمْ فِي أرْجُلِكُمْ وَعِصِيُّكُمْ فِي أيْدِيكُمْ. وَتَاكُلُونَهُ بِعَجَلَةٍ. هُوَ فِصْحٌ لِلرَّبِّ (خر 12: 11). فصحٌ لأن الرّب سيعبرُ في مصر ويضرب كُلَّ بِكْرٍ فِي أرض مِصْرَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ، ويحكمُ على جميع آلهةِ مصرَ (خر 12: 12).

 

"وَيَكُونُ لَكُمْ هَذَا الْيَوْمُ تَذْكَارا فَتُعَيِّدُونَهُ عِيدا لِلرَّبِّ. فِي أجْيَالِكُمْ تُعَيِّدُونَهُ فَرِيضَةً أبَدِيَّةً" (خر 12: 14)، لهذا الحدث أهميّة كبيرة في حياة الشّعب، فهو الحدث الذي سيُميّزهم شعباً اختاره الله ليعبدوه، وعليهم أن يتذكّروه وهذا التذكّر هو فريضةٌ لكلِّ الأجيال ليتعلّموا منه دروساً للحياة فلا تتكرَّر أخطاء الماضي، بل يتم تصحيح مساراتها، ويتخذ كلّ حدثٍ وكلُّ شخص أهمية متميّزة في التاريخ، فمع أنَّ الإنسان هو ترابٌ ورماد، مثلما أعلن إبراهيم، (تك 18: 27)، ولكن يبقى لحياته، بكل ما تحملهُ من أحداثٍ ومواقفَ، مكانةً في عيون الله، أضف إلى ذلك، أن التذكّر يجعلهم يُدركُون أنهم جزءٌ من قصّة سبقَتهم، وحياتهم هي مواصلة لما بدأ قبل أن يكونوا، فليسوا هم بدءَ الحياة ولا خاتمتها، وهو درسٌ لجميعنا أيضاً، إذ علينا أن نتذكّر أن الله سيسألنا عن كل لحظةٍ من حياتنا، فلا يُمكن تناسي الخير الذي عَمِلّناه، ولا التغاضي عن الشر الذي اقترفناه (متّى 25: 31- 46)، فيضحي التذكّر باعثاً للإمتنان ودافعاً لنعيش حياة صالحةً.

 

هنا نفهم أهميّة خطاب موسى هذا، فمع أنّهم مازالوا عبيداً في مصرَ ولم يحصلوا على حرّيتهم، بل يبدو من المستحيل نيلها مع فرعون قاسي القلب، إلاّ أنَّ موسى طلب منهم تذكّر هذا اليوم عيداً، وكأنه يقول لهم: إذا نسيتُم هذا اليوم، ونسيتم كيف كُنتم تعيشون ومَن الذي اختاركم وحرركم، فستضيعون بين الأمم، لأنّكم إذا نسيتم قصّة التحرر ستخسرون الحرية لاحقاً.

 

"سَبْعَةَ أيَّامٍ لا يُوجَدْ خَمِيرٌ فِي بُيُوتِكُمْ. فَإنَّ كُلَّ مَنْ أكَلَ مُخْتَمِراً تُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ جَمَاعَةِ إسرائيل الْغَرِيبُ مَعَ مَوْلُودِ الأرض. لا تَأكُلُوا شَيْئاً مُخْتَمِراً. فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ تَأكُلُونَ فَطِيرا" (خر 12: 19- 20). على الجماعة أن تستعد بكليّتها للإحتفال بهذا العيد ولسبعةِ أيامٍ كما أن الخليقة صارت في سبعة أيام، فالخروج من مصر هو خلقٌ جديد، بدءٌ جديد للعبرانيين وللإنسانية. فأول طقوس الاحتفال إذن هو التخلّص من الخميرة القديمة من البيوت. ويُعتقَد أنَّ المصريين هم أول مَن خمّرَ الخبز، وتُعدّ الخميرة، وهي نوعٌ من الفطريات، إفساداً للعجينة إذ تقوم هذه الفطريات بتعفين العجينة وتفسِّخها، في إشارة إلى الموت، والذي شغل مكانةً كبيرة في حضارة مصرَ، لذا، طلبَ الله من الشّعب التخلّص من الخميرة القديمة لتبقى منازلهم خاليةً منها لسبعة أيامٍ قبل أن يأتوا بالخميرة الجديدة، وكلّ مَن لا يلتزم بهذه الطقوس يُبعَد عن الجماعة، فمثل هذه الشخصيات غير المُلتزمة، تُفسِدُ الجماعة، مثلما تُفسد الخميرة العجينة. هكذا تبدأ العائلة العبرانية رحلة الايمان السنوية في حالةِ الطهارة والتطلّع نحو الحياة، وذلكَ بانتقالِ الإنسان من حالة الفساد القديمة، بسبب الخطيئة، نحو حالة الطهارة كونه تحت حمايةِ الرّب الآب الذي يعتني بشعبه ويوفّر لهم الخبز، حتّى وإن كان خبزاً غير مُخمّر، فخيرٌ لك أن تأكل خبز الفقراء وأنت حُرٌ من أن تأكل خبز الأغنياء وأنت مُستعبَدٌ، فمع الحُرية يُمكن للإنسان الفقير أن يجتهد في العمل ليُحسِّن من حالته المادية، أمّا العبد فيبقى عبداً سواءٌ كان لأشخاصٍ أم أموال.

 

"وَيَكُونُ لَكُمْ فِي الْيَوْمِ الاوَّلِ مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ. لا يُعْمَلُ فِيهِمَا عَمَلٌ مَا ألاّ مَا تَأكُلُهُ كُلُّ نَفْسٍ فَذَلِكَ وَحْدَهُ يُعْمَلُ مِنْكُمْ" (خر 12: 16). يُسمَح للمُحتفِلين بهذا العيد بالطبخ فقط، كون الفصح، مع احتفالية العنصرة والمظال، يتطلّب السير مشياً على الأقدام حجاً إلى هيكل أورشليم، ويُعتَقّد أنَّ الملك يوشيا هو الذي فرضَ أن تكون احتفالية الفصح حصراً في أورشليم ليتمركَزَ كل الاحتفال حول الهكيل (2 مل 23: 21- 23). ولأنّ هذا العيد هو إحتفالٌ بحدث عظيم فيجب على العائلة التي اجتمعَت خلف أبوابٍ موصدةٍ أن تُعلِم أبناءها معنى هذه الاحتفالية وإن كانوا في أرض الحُرية. فإذا سألَ الابن الذي يتعإلى على الجميع وكأنّه ليس واحداً من الجماعة فيقول: "مَا هَذِهِ الْخِدْمَةُ لَكُمْ؟ فتجيبونه قائلين: "هِيَ ذَبِيحَةُ فِصْحٍ لِلرَّبِّ الَّذِي عَبَرَ عَنْ بُيُوتِ بَنِي إسرائيل فِي مِصْرَ لَمَّا ضَرَبَ الْمِصْرِيِّينَ وَخَلَّصَ بُيُوتَنَا" (12: 26-27). يُرادُ بهذا أن يزرع في حياة الطفل مخافة الله، ورأس الحكمة مخافة الله (مز 111: 10)، الله الذي يخلق وينقذ ويُطهِر الأرض من الفساد، والذي يرأفُ بالمُضطهَدين ويُحقق العدالةَ لهم. فيكون هذا العيد مناسبة للإجابة عن أسئلة حياتية مهمّة: مَن نحنُ؟ وما الذي يُميزنا عن الآخرين؟ ولماذا اجتمعنا معاً؟ وما معنى هذه الطقوس؟ وكيف نعيشُ حياتنا؟ فيأتي الجواب واضحاً: أنت عضوٌ في جماعة المؤمنين بإلهِ إبراهيم وإسحق ويعقوب، الإلهُ الأمين في وعده لنا، والذي خلّصنا من عبودية مصرَ، من أجل أن نبني جماعة أحرار لتعبدهُ، فنحن لم نُخلَق للعملِ فحسب، بل للراحةِ والفرح مع الرّبِ.

 

أثناء هذه الرحلة، سيعبرُ الله على الأرض مُمِّيزاً ما بين الذين خضعوا له وأطاعوا كلمتهُ، وما بين الذين عصوا أوامره وقسّوا قلوبهم، لاسيما الذين اتبعوا تلك الآلهةِ التي كانت سبب عصيانِ الشّعب وطغيانهِ. هنا يُعرّفنا الراوي بالعنصر الثالث للاحتفالِ بالفصح: (الدم) الذي على يُوضَع على الأبواب والذي به سيُميّز الله العبرانيين عن المصريين، ويُعطي العبرانيين هويةً خاصةً لأنهم أطاعوا الربَّ في كلِّ ما أوصى به، فهذه العلامة هي تعليمٌ موجّه إليهم، ليعرفوا أن الله أتمَّ وعدهُ مثلما سبقَ وأشارَ في بدءِ الفصل: "وَيَكُونُ لَكُمُ الدَّمُ عَلامَةً عَلَى الْبُيُوتِ الَّتِي أنْتُمْ فِيهَا فَأرَى الدَّمَ وَأعْبُرُ عَنْكُمْ فَلا يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاكِ حِينَ أضْرِبُ أرض مِصْرَ" (خر 12: 13)، فاللّه سبَق وميّز بيوت العبرانيين في ضرباتٍ سابقةٍ (خر 8: 22-23/ 9: 4، 26، 10: 23)، ولكنّه عندما سيجتازُ بين البيوت الليلة، يريد أن يُميّز مَن اختار الحياة فجعل الدّم على باب بيتهِ، فالحياة هي في الدّم (أح 17: 11، تث 12: 23)، ومَن رفض الحياة لأنَّ الله مُقبلٌ على خلقٍ جديد وفداء خليقتهِ.

 

ولأولِ مرّة تأتي استجابةُ الشّعب لما أعلنهُ موسى وهارون كاملة: "فَخَرَّ الشّعب وَسَجَدُوا. وَمَضَى بَنُو إسرائيل وَفَعَلُوا كَمَا أمَرَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ. هَكَذَا فَعَلُوا" (خر 12: 27- 28)، وهو مؤشرٌ لبدءِ عملية الخروج من مصرَ.