موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ فبراير / شباط ٢٠٢١
رسالة راعوية للمطران كريكور أوغسطينوس كوسا بمناسبة الصوم الأربعيني 2021
الصوم نور يؤدي إلى الحقيقة
المطران كريكور أوغسطينوس كوسا، أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك

المطران كريكور أوغسطينوس كوسا، أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك

أبونا :

 

إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،

وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في الإسكندرية وبلاد الانتشار،

وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،

 

زمن الصوم الأربعيني الكبير مسيرة رُوحيّة نستعد خلالها للعبور مع فصح المسيح إلى حياة جديدة، عبر توبة القلب وثمارها التي تقودنا إلى الحقيقة.

 

لما بدأ يوحنا المعمدان رسالته في إعداد القلوب والنفوس للمسيح بقبول معمودية الماء للتوبة، قال للآتين إليه طالبين هذه المعمودية: "فأثمروا إذاً ثمراً يَدُلُّ على توبتكم" (متى 8:3).

 

الصوم هو السَير في نور الحقيقة ليجعل منه زمناً مقبولاً لدى الله، يُجدّدنا مع الطبيعة التي، من بعد أن تعرت من أوراقها وثمارها في فصل الشتاء، ترتدي ثوب الربيع من أجل مواسم الحصاد والعطاء.

 

 

الصوم والتوبة

 

التوبة فضيلة وسِرٌ مقدس، معروف بسر التوبة او الاعتراف أو المصالحة. وهي فضيلة أساسها رجوع القلب إلى الله بالارتداد عن الخطيئة ومغرياتها، والابتعاد عنها وعن أسبابها، مع كره للشرّ وللأفعال السيئة التي اقترفناها، بالإقرار والاعتراف بها أمام الكاهن، صاحب السلطان الإلهيّ المعطى له بسرّ الكهنوت المُقدّس، الذي يحله منها. وفي الوقت عينه تنطوي على رغبة ومقصد بتغيير المسلك الحياتي، مع الرجاء المتكِل على رحمة الله، والثقة برحمته وبمساعدة نعمته.

 

وهذا السرّ وسيلةٌ تحقق توبة القلب بفضل النعمة الإلهية التي تمحو الخطايا، وتعطي التائب قلباً جديداً وروحاً مستقيمة، وتعضده في مقاصده لئلا يسقط من جديد، ولكي ينتصر على تجارب الشيطان ومغريات الحياة، وبخاصة إذا اقترن سرّ التوبة بسرّ الإفخارستيا "القربان المُقدّس"، لأن فيه ذبيحة المسيح التي صالحتنا مع الله، والتي تغذيّنا وتقويّنا في عيش حياة المسيح. إنها الدواء الشافي الذي يعطينا مناعة ضد الخطايا والسقطات اليومية.

 

 

التوبة الحقيقية هي توبة القلب

 

توبة القلب تستدعي منّا اللجوء إلى نعمة السرّ لتنال مبتغاها، والسر يشترط توبة القلب ليؤتي مفاعيله وثماره. فالتوبة الحقيقية تنطوي على ثلاثة نقاط: الندامة من كل القلب عن الخطايا والذنوب التي فعلناها بالقول او الفعل او الإهمال، عن معرفةٍ او بدون معرفة، عن وعيِ او بدون وعي، والإقرار بها نوعاً وعدداً والظروف والمغريات التي سبَّبت لنا الوقوع فيها، والتكفير عنها بالتعويض المطلوب عدالةً، إذ لا غفران من دون عدالة.

 

هذه العناصر علّمنا إياها الرّب يسوع بالمَثَل الواضح في عودة الابن الضال إلى أبيه. الذي أدرك بالعمق خطيئته، وندم على حالته البائسة بالرجوع إلى نفسه وضميره. عاد إلى أبيه، وأقر بخطيئته، وفرض على نفسه تعويضاً عادلاً (لوقا 17:15-٢١).

 

التوبة الحقيقية المثمرة هي التي تدرك الخطيئة في جوهرها، في أسبابها ونتائجها. الخطيئة ظهرت في مسلك الابن الضال على أنها سوء استعمال خيرات الدنيا، والإفراط في ممارسة الحرية الشخصية، من دون أي رباط وشركة مع الله مانح الخيرات والمواهب. إنها تُعلّق القلب والفكر والإرادة بعطايا الله بالابتعاد عَنهُ او نسيانه. فالابن غادر بحصته من الميراث الذي أخذه من والدهِ وبيتهِ وسافر إلى بلدٍ بعيد، قاطعاً كل الروابط العائلية. فكان أن بدّدَ ماله بالتبذير والطيش، وذهب يطلب العوز حتى بات راعياً للخنازير، يسابقها على أكل الخُرنوب. مما جعله يعاني من الانحطاط الإنساني والأخلاقي والاجتماعي. عندئذٍ رجع إلى نفسه، إلى صوت أبيه الذي في أعماق ضميره، وهذا الصوت هو: "صوت الله" الذي في داخلنا، وأدرك حقيقة واقعه المرّ وخطيئته الفظيعة (لوقا 11:15-١٩).

 

 

في الصفح والمصالحة تتجلى التوبة

 

بعد إدراك الخطيئة ونتائجها القاتلة، والندامة عليها من أعماق القلب، لا بُدَّ من طلب الصفح والمصالحة. هنا تنجلي التوبة - السرّ المقدّس الذي أسسه الرّب يسوع لجميع أعضاء كنيسته الذين، بعد معموديتهم، سقطوا في الخطيئة، وفقدوا بالتالي نعمة معموديتهم التي جعلتهم سكنى الله وهيكل الرّوح القدس، وجرحوا شركة المحبّة مع الله والكنيسة. في ممارسة هذا السرّ المقدّس، الله الذي وحده يغفر الخطايا، ولذلك منح الكنيسة بواسطة سرّ الكهنوت السلطان لمغفرة الخطايا بمحبّة الآب، ونعمة فداء الابن، وفعل الرّوح القدس المُحيي. تمت المصالحة بين الابن الضال وأبيه بأبهى وجوهها. فأبوه كان في انتظاره لكثرة محبته وحنانه وألمه. وما إن رأهُ آتياً من بعيد حتى استقبله وقبّلهُ طويلاً، وسامحه على خطيئته، إكراماً لتوبته وعودته إلى البيت الأبوي، عودته إلى حالة النعمة التي فقدها، وقد رمز إليها بالثوب الأبيض، وردَّ له عهد البنوة بالخاتم الذي وضعه في إصبعه، وفتح أمامه طريقاً جديداً لمسلك جديد، بالحذاء الذي البسه في رجلهِ، وأعاده إلى الشركة الكاملة معه ومع الكنيسة بوليمة العجل المسمَن الذي يرمز إلى حمل الفصح، وليمة جسد المسيح ودمه (لوقا 20:15-٣٢).

 

التوبة ضرورية ولا غنى عنها من أجل خلاص الإنسان. فقد دعا إليها الرب يسوع في أول عظة له، بعد اعتماده وصومه أربعين يوماً، إذ نادى: "تم الزمان واقترب ملكوتُ الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقص 15:1)، و (متى 17:4). وفي موضع آخر نبَّهنا بشدة قائلاً: "إن لم تتوبوا تَهلِكوا بأجمَعِكُم" (لوقا 5:13).

 

القديس بطرس الرسول في عظته الأولى، شرح فيها موت يسوع مصلوباً ليخلّص كل مَن يدعو باسمه، وعندما سأله الحاضرون المتأثرون بكلامه: "ماذا يجب علينا أن نعمل؟" أجابهم: "توبوا، وليعتَمِدْ كلٌّ منكم باسم يسوع المسيح، لِغُفرانِ خطاياكم، فتَنالوا عطيَّةَ الروح القدس” (أعمال الرُسُل 38:2).

 

وأيضاً، خاطب بولس الرسول أهل أثينا قائلاً: "فقد أَغضى اللهُ طَرْفَه عن أيام الجهل وهو يُعلِنُ الآنَ للناسِ أنَّ يَتوبوا جَميعاً وفِي كلِّ مكان، لأنه حَدَّدَ يوماً يَدينُ فيه العالم دينونةَ عدلٍ عن يَدِ رَجُلٍ أقامٓهُ لذلكَ، وقد جُعِلَ للناس أجمعينَ بُرهاناً على الأمر، إذ أقامهُ من بين الأموات" (أعمال الرُسُل  30:17-٣١).

 

أمام كل هذا، علينا ان نغفر ونسامح. وعلى الكنيسة بسلطتها الممنوحة بسرّ الكهنوت المُقدّس للأساقفة والكهنة، ألا تتأخر بممارسة هذا السرّ، ولا يستطيع الأسقف أو الكاهن إهمال خدمة سر التوبة التي ائتُمنوا عليه بحكم رسامتهم الكهنوتيّة. فهم أمام الله مسؤولين عن موت الخطأة في خطاياهم، كما نبَّه الربُ بلسان حزقيال النبي: "أنا جعلتك رقيباً على شعبي، فتسمع الكلمة من فمي وتنذرهم عني. فإذا قلتُ للشرير: يا شرير إِنَّكَ تموتُ موتاً، ولم تتكلّم أنتَ مُنذِراً الشرير بطريقهِ، فذلك الشرير يموت في إثمه. لكني من يدك أطلبُ دمه. أما إذا أنذرتَ الشرير بطريقهِ ليتوب ويرجع عنه ولم يرجع عن طريقه، ولم يتب، فإنه يموت في إثمه، لكنك تكون قد خلَّصتَ نفسك" (حزقيال 7:33-٩). وإذا قُلتَ للشِّرِّير: إِنَّكَ تموتُ موتاً، فإن رَجَعَ عن خطيئَتِهِ وأجرى الحقَّ والبِرّ، وردَّ الرَّهن، ذلك الشِّرِّير، وأعاد ما اختلسَه، وسارَ على فرائِضِ الحياة من دونِ أن يصنعَ إثماً، فإنَّه يحيا حياةً ولا يموت. جميعُ خطاياهُ التي خَطِئَها لا تُذكَرُ له، إنَّه أجرى الحقَّ والبِرَّ فيحيا حياةً" (حزقيال 14:33-١٦).

 

 

الصوم مسيرة في نور الحقيقة

 

الصوم الكبير زمن سماع كلام الله "كلمتك مصباحٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي"، ويتم ذلك من خلال الرياضات الرّوحية التي تقام في الكنائس الرعوية والأديرة، وعبر البرامج الرّوحية التي تبثها وسائل الإعلام المسيحية، والقراءات الإنجيلية والتأملات الفردية والجماعية، التي تقام في البيوت على الصعيد العائلي، وفي الكنائس مع الأخويات والأنشطة الرسوليّة. فكلمة الله تغذِي العقول والقلوب بنور الحقيقة الموحاة، وتحيي الضمائر كي تتمكَن من سماع صوت الله الموجه من الداخل إلى فعل الخير وتجنُب الشر".

 

نصوم عن الطعام، ونعيش التقشف والإماتة والحرمان، كي نتغذى من كلام الله الإلهي، إذ نجلس إلى مائدة كلمة الله التي تعلمنا الحقيقة، والحقيقة تنير عقلنا، وتعطي الحرية إطارها، وهكذا نتمكَّن من معرفة الله ومحبته. وبهذا نصلي مع صاحب المزامير: "أَشرِقْ علينا بنور وجهك، يا رب" (مزمور 7:4).

 

عندما نعرف الله الذي كشفه لنا يسوع المسيح الإله المتجسّد "إنَّ الله ما رآه أحَدٌ قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عَنهُ" (يوحنا 18:1)، نعرف “سرّ الإنسان الذي لا ينجلي إلا في سرّ الكلمة المتجسّد، الذي أظهر نفسه للإنسان، وكشف له سموّ دعوته، ونعرف أيضاً، كيف نُميّز بين الخير والشرّ، مُدركين ما يجب علينا فعله أو تَجنّبه، وينجلي لنا وجه الكنيسة الذي يضيء عليه نور وجه المسيح، ونفهم معنى الحياة وغايتها. وهكذا نطرح السؤال الأساسي في حياتنا كما طرحه ذاك الشاب على يسوع: "يا مُعلِّم، ماذا أعملُ من صالحٍ، لأرثَ الحياة الأبدية؟" (متى 16:19).

 

 

الصوم الكبير زمن الإصغاء لصوت الله

 

يكلّمنا الله بشخص السيد المسيح، من خلال تعاليمه ومعجزاته وأفعاله. يقول لنا القديس برنردوس: "الكلمة المسموعة بالأذن، والمرئية بالعين، والملموسة باليد". كلمةُ الله تنبع من قلبه، وتريد الوصول والدخول إلى قلب الإنسان، كما قال لحزقيال النبي: "كلماتي التي أقولُها لك، احفظْها في قلبك” (حزقيال 10:3). لذا، يشترط الرّب يسوع علينا، من أجل قبولها وعملها فينا، ثلاثة نقاط: سماعها بالقلب وليس فقط بالأذن والعقل، وحفظها كالخميرة في العجين والزرع في الأرض الطيبة، والعمل بها بأفعال وأقوال ومبادرات تعكس عملها وتفاعلها مع كياننا الداخلي "إنَّ أُمّي وإخوتي هم الَّذِينَ يسمعونَ كلمةَ اللهِ ويَعملونَ بها" (لوقا 19:8-٢١)، وأيضاً "بل طوبى لِمَن يسعُ كلمةَ الله ويحفَظُها" (لوقا 28:11).

 

 

الخاتمة

 

كلمة الله كالمطر والثلج، لا يرجعان إلى السماء، بل يرويان الأرض كما يقول الله على لسان أشعيا النبي: "لأنّهُ كما يَنزِلُ المطرُ والثلجُ من السماء ولا يرجعُ إلى هناك دون أن يُروِيَ الأرضَ ويجعلها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتيَ الزارِعَ زرعاً والآكِلَ طعاماً. فكذلك تكونُ كلمتي التي تَخرُجُ من فمي: لا ترجعُ إليَّ فارغة بل تُتِمُّ ما شئتُ وتنجَحُ فيما أرسلتُها له "(أشعيا 10:55-١١). وهي: "سيفٌ مُرهَفُ الحدَّين" (رؤيا 16:1). إنها "سيف الرُّوح، أي كلمة الله" (افسس 17:6) الذي حيث يدخل يقطع كالمنجل في الأدغال، وكالفأس على أصل الشجرة، يقطع كل يابس. بهذا المعنى يقول لنا الرب يسوع: "أنُتمُ الآنَ أطهار بفضلِ الكلام الذي قُلْتُه لكم" (يوحنا 3:15). في ضوء كل هذا، يدعونا القديس يعقوب الرسول قائلاً: "كونوا مِمَّن يعملونَ بهذهِ الكلمة، لا ممَّن يكتَفون بسِماعِها فَيخدعون أَنفُسَهم. فمن يسمَعِ الكلمةَ ولا يَعمَلْ بها يُشبهْ رجُلاً ينظُرُ في المرآةِ صورةَ وَجـهِهِ، فما إن نظَرَ إلى نفسِهِ ومضى، حتى نٓسِيَ كيف كان" (يعقوب 22:1-٢٤).

 

إخوتي الأحباء: أتمنى لكم جَميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة رُوحيّة مشتركة وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً يقودنا إلى نور الحقيقة، تحت عناية الرّب يسوع ونظرهِ، بشفاعةِ العذراء مريـم أُمٓنا، وبصلوات القديس كريكور (غريغوريوس) المنوِّر، والطوباوي اغناطيوس مالويان وآبائنا القديسين.