موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٧ ابريل / نيسان ٢٠٢١
تأملات البطريرك بيتسابالا: الأحد الثاني للزمن الفصحي، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين :

 

(يوحنّا ٢٠: ١٩–٣١)

 

تُركّز الفصول الّتي تسبق اعتقال يسوع، في بشارة يوحنّا، على الحوار الطويل الّذي دار بين يسوع وتلاميذه. وهو عبارة عن خمسة فصول كاملة، من الفصل ١٣ حتى الفصل ١٧، تُظهر العلاقة العميقة بينهم. يتحدّث يسوع عن حياته ويُعلن لهم عما سيحدث. يُكلّمهم عن الآب، وعن الروح القدس، ولكنّه يتحدّث أيضاً عن كيف ستكون حياة التلاميذ في العالم بعد رحيله. إنّه حوار حميم للغاية، يصف علاقة قويّة بينهم. 

 

وبعد ذلك صلب يسوع ومات، فتوقّفت هذه العلاقة، وتوقف الحوار ولم يعد هناك المزيد من الكلمات بينهم: لقد أخفق المعلّم وتفرّق التلاميذ.

 

وبالتالي، في ظهوره لتلاميذه، بعد قيامته، يستأنف يسوع العلاقة مع التلاميذ بصبر، وبشكل تدريجيّ وجديد. في الواقع، نحن نجد أنفسنا أمام جماعة مُجزّأة: في اللحظة الّتي يظهر فيها الرب، يجد أنّ أحدهم غائب، والجماعة غير مكتملة. ولذلك يعود الربّ، لأن الجماعة تكون جماعة حقيقيّة عندما يختبر الجميع خبرة القيامة، ويلتقي الجميع بالربّ، دون استثناء أحد.  

 

لا يكفي أن يروي الآخرون لنا هذه الخبرة، ولا يمكن أن تكون سوى شخصيّة: إذ أنّ الخبرة الإيمانيّة الشخصيّة لا يمكن أن تحدث سوى داخل الجماعة، سويّاً مع الآخرين الذين يسيرون معي في الإيمان.

 

كي نفهم ممّا تتكوّن هذه الخبرة، نعود إلى المقاطع الإنجيليّة لآحاد الزمن الأربعيني، حيث أخبرنا يسوع أنّه من أجل أن نؤمن يتوجّب علينا أن ننظر. ومن وحي رواية الحيّة النحاسيّة في الصحراء (عدد ٢: ٤–٩، راجع الأحد الرابع للزمن الأربعيني)، أكّد أنّه كي نتعافى من شرّ الموت يجب أن نعرف كيف نرفع أنظارنا، فنرى محبّة الآب غير المحدودة وغير المتناهية في إبن الإنسان المصلوب، المحبّة الّتي تصل إلينا حيث نحن موجودون، في حالتنا الفانية. إنّ الشفاء متوفّر للجميع، ولكن لا يصل إليه سوى من يرفع نظره، حيث أنّ الشفاء هو العلاقة ذاتها مع الربّ الّذي يُخلّص. 

 

نجد نفس الشيء بالضبط في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد. قام الربّ، وقيامته هي حياة وسلام للجميع. ولكن أولئك الّذين يتعاملون معه فعليّاً يمكنهم وحدهم الوصول إلى حياته القائمة من الموت.

 

يحتاج توما إلى العبور من عدم الإيمان إلى الإيمان. يقول له يسوع: “لا تكن غير مؤمن، بل كن مؤمنا” (يوحنّا ٢٠: ٢٧). لكن العبور من عدم الإيمان إلى الإيمان غير ممكن دون لمس جراح الرب القائم بيديه وبحياته، أي لمس سرّ الحبّ الذي تحقّق في الفصح. سرّ الحبّ هذا الّذي من أجله بذل الربّ حياته، وهو الآن حيّ بين تلاميذه من جديد، كي لا يتقلّص الحبّ الّذي يُحبهم به. وكما أنّ العلاقة بين يسوع والآب هي علاقة لا تتزعزع، هكذا هي العلاقة بين يسوع وخاصّته: هذا هو الفصح، وهذا ما يحتاج توما أن يراه ويعترف به ويلتقيه.  

 

ولهذا السبب يُقدّم له الربّ جراحه، الّتي لم تختف بعد القيامة: إنّ الربّ القائم هو الشخص الحيّ كي نتمكّن من أن نحبه دوماً كمصلوب، والّذي يُواصل بذل حياته من أجلنا، كما فعل عندما كان على الصليب. إنّه بذل للذات مستمرّ وأبديّ.

 

من يختبر صداقة يسوع لا يمكنه إلا العبور من خلال تلك الجراح، ولا يمكنه أن يكتفي بالنظر إليها من الخارج، بل عليه أن يدخل فيها بشكل ما: “هات يدك فضعها في جنبي” (يوحنّا ٢٠: ٢٧) وأن يلامس جسمه. يمرّ الحوار، الآن، من خلال تلك الجراح، التي هي ذكرى محبّة المصلوب القائم من الموت.

 

عندما يحدث هذا الاتّصال، يُصبح الربّ حينها “ربّي وإلهي“(يوحنّا ٢٠: ٢٨). لا تخلو الأناجيل الأربعة من الّذين يُقرّون بأنّ يسوع هو ابن الله، وهي تحوي اعترافات إيمانية مختلفة: ولكن توما وحده، بعد أن رأى الجراحات المجيدة، يمكنه أن يقول بأنّ هذا الربّ هو ربّه، وأنّ هذا الإله هو إلهه. والآن، وبعد أن خاض هذه الخبرة، أعاد اكتشاف العلاقة معه. 

 

يقول يسوع إنّ هذا التواصل لم يعد يمرّ عن طريق الرؤية، بل عن طريق الإيمان (يوحنّا ٢٠: ٢٩)، من خلال خبرة الشعور بكوننا مُرحّبا بنا داخل جراحه. وهذا متوفّر وممكن للجميع.

 

وهذا لا يحدث مرّة واحدة في العمر، لأنّ الصداقة تحتاج إلى تغذية متواصلة.

 

إنّ لهذه الخبرة، في الكنيسة، إيقاع اليوم الثامن، إيقاع يوم الأحد، يوم الربّ، حيث يظهر الربّ مرّة أخرى ويُرحبّ بنا في جراح حبّه: إنّ الاحتفال الإفخارستي هو مكان اللمس والاتصال الحميم والأمين، حيث تُصبح العلاقة ألفة وثقة ومعرفة؛ وحيث يستطيع كل إنسان مسيحي، برفقة إخوته، أن ُيردّد كلمات توما ذاتها: “ربّي وإلهي“.