موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٢ ابريل / نيسان ٢٠٢١
الجذور والمعاني: سلسلة مواضيع حول الصوم الكبير في المسيحية (3)
المرحلة الثّالثة: لَمساتٌ إيضاحيّة

إعداد الأب فارس سرياني :

 

5) آلية احتساب الصّوم الأربعيني في الكنيسة الكاثوليكية

 

إنّ مجموعَ الأيّام، من أربعاء الرّماد وحتّى سبت النور، هو 46 يوم. ولكنّ الكنيسةَ الكاثوليكية التزَمَت حرفيًّا بصوم 40 يوم فقط، تَبدأ من أربعاءِ الرّماد وَتَنتهي مع نهايةِ يوم سبت النّور، والاحتفال بالعَشيةِ الفصحيّة. فَكيفَ تكونُ آليةُ احتِسابِ أيّام الصّوم في الكَنيسة الكاثوليكية (الّلاتينيّة)؟

 

كما نَعلم، فقد قرّرَ مجمع نيقيا (325م) اعتماد يوم الأحد فقط، يومًا دائِمًا للاحتفال بعيد الفصح كلّ عام. وبذلك أَضحى الأحد اليوم الأسمى بين أيّام الأسبوع، كونه اليوم التّاريخي الّذي فيه جَرت قيامة الرّب. وصار يُنظر إلى جميع آحاد السّنة، على أنهّا فصح مُصغَّر، فالأحد هو (يوم الرّب Dies Domini)، وفيه نحتفل بالفصح الأسبوعي (قدّاس الأحد). ولهذا دَرَجَت العادة في الكنيسة الكاثوليكية، ألّا يُعتبر الأحد يوم صوم، حتّى تلك الواقعة ضمن زمن الصّوم.

 

ونعلمُ أيضًا، قبل ظهور أربعاء الرّماد في القرون اللاحقة، أنّ الصّوم الأربعيني في الكنيسةِ الكاثوليكيّة، كانَ يَبدأ قبل الفصح بِسَتّة أسابيع/ آحاد، وَيَنتهي مع عشية خميس الأسرار، مكوّنًا بذلك ما مجموعُهُ 40 يوم. أمّا الجمعةُ العظيمة والسّبت المقدّس، فكانا يومين مُستقلّين للصّوم، عن صوم الأربعين، بناءً على رؤية البابا لاون الكبير (440-461م). وهكذا كان مجموع الأيام 42 يوم.

 

ولكنّ، بِمَا أنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تُلزِمُ بوجوب الصّوم أيّام الآحاد، حتّى تلك الآحاد السّتة الواقعة داخل الزّمن الأربعيني، فقد صار عدد أيّام الصّوم 36 يوم فقط. فَكيفَ إذًا زِيدَت تلك الأيّام الأربعة الباقية؟

 

اِعتادَت كنيسة روما، كغيرِها من الكنائس، منذ القرون الأولى لِنَشأة المسيحيّة، على إقامة رُتبةٍ مستوحاة من الكتاب المقدس، تُعبّر عن التّوبة والنّدامة، ألا وهي عادة (ذرّ الرّماد). فقد كان زمن الصّوم فترةً فيها يُكفّر كبار الخطأة عن ذنوبهم، خصوصًا أولئِكَ الّذين ارتكبوا ذنبًا جَسيمًا، يشمل: القتل والزّنى وجحود الإيمان.

 

هذهِ الفترة التّكفيرية، كانت تُستَهلُّ بمثولِ هؤلاء الخطَأة، علَنًا أمام الأسقف وعلى مَرأى من جماعة المؤمنين، مُعترفين بخطيئتهم، في يوم الأربعاء الّذي يسبق الأحد الأوّل من الصّوم. بعد ذلك الاعتراف، يُبادِرُ الأسقفُ بِذرّ الرّماد على رؤوسِهم، على أن يَبقى دون غُسلٍ، حتّى يوم خميس الأسرار، علامةً تَدُلّ على توبتِهم. كما أنّهم كانوا يلفّون أجسادَهم بقطعِ ثيابٍ من الْمُسوحِ الخشن، طيلة أيّام الصّوم، تَيَمُّنًا بتوبة أهل نينوى، والتماسًا منهم لغفران الله، حتّى حلول يوم المصالحة في خميس الأسرار، حيثُ يتمّ إعادةُ استِقبالِهم في الجماعةِ من جديد، بعد أن أَمضوا فترة التّطهير الواجبة عليهم.

 

وقد وقع الاختيارُ على يوم الأربعاء، كيوم اعترافٍ وانطلاقة لمسيرةِ التّوبة، كونهُ اليوم الّذي فيه خانَ يهوذا المسيح، وَأَسلَمَ مُعلّمه إلى عُظماءِ كهنةِ اليهود. ومنذ ذلك الحين، يُنظر إلى الأربعاءِ مع يوم الجمعة، على أنّهما يومان للنّدم والتّوبة، وخلالهما لا يزال كثيرٌ من المؤمنين، يمارسون شريعة الانقطاع، كل أيام السّنة.

أمّا الرّماد فَقد وَرَدَ ذِكرُه في عدّة مواقع، من أسفار الكتاب المقدّس. وله عدّة دلائل ومعانٍ، فهو:

 

أوّلًا: يدلُّ على تواضع الإنسان وإقرارِه بِضعفه، وعلامة انسحاقِه أمامَ ربّه. فَفي سفر التّكوين، يُقرّ إبراهيم بضعفِه، مُتذلِّلًا أمامَ الله، قائِلًا: "قَد أَقدمتُ على الكلامِ مع سيّدي، وأنا تُرابٌ ورَماد" (تكوين 27:18).

 

ثانيًا: وسيلةٌ مادّية لإبداءِ التّوبة وإظهارِ النّدم. فَفي سفر أيّوب البار، نَسمعُه يُجيبُ الرّبَّ، قائِلًا: "فَلِذلِكَ أرجِعُ عن كلامي، وأندمُ في التّرابِ والرّماد" (أيّوب 6:42).

 

ثالِثًا: مظهرٌ للتّعبير عن المرارةِ والحسرة. فَفي سفر حزقيال النّبي، نَسمعُ الرّبّ يخاطبُ حزقيال، قائِلًا: "يصرخونَ بِمَرارةٍ، ويَحثونَ فوقَ رؤوسِهم تُرابًا، ويتَمرّغونَ في الرّماد" (حزقيال 30:27).

 

رابًعا: دونَ أن نَنسى شعبَ نينوى وملكَها، ساعة جلسوا على الرّماد، تعبيرًا عن توبتهم (يونان 1:3-9).

 

خامسًا: وإذا كان الرّماد في بداية زمن الصّوم يدلّ على البكاءِ والانتحاب، فاللهُ الأمين يَعِدُنا على لسان نَبيّه أشعيا، بِبُشرى الخلاص، قائِلًا: "وأُعزّي جميع النّائِحين. لِأمنَحَهم التّاجَ بدل الرّماد، وزيتَ الفرحِ بدلَ النّوح" (أشعيا 2:61-3).

 

هذه العادةُ التّقويّة المؤثّرة، والّتي دَأَبَت الكنيسة عَلَى مُمَارَسَتِها في يوم الأربعاء، السّابق للأحد الأوّل من الصّوم، كوسيلة لِلتّعبير عن توبة كبار الخطأة، أصبحَ لها من الجاذبية، ما دَفَعَ جميع المؤمنين، لأن يطلبوها بدورِهم، كعلامة تدلّ على بدء صومهم، وتعبيرًا عن توبتِهم خلال هذا الزّمن. إلى أن أوعزَ البابا أوربانوس الثّاني، في مجمع عُقِد في مدينة (Benevento)، في القرنِ الحادي عشر، إلى جميعِ الأساقفة الكاثوليك، بأنْ يُوزّعَ الرّماد لجميع المؤمنين في هذا اليوم، وهو ما باتَ يُعرف بأربعاء الرّماد، أي اليوم الّذي فيه يوزّع الرّماد على الْمُصلّين، إيذانًا ببدء زمن الصّوم والتّوبة. وهكذا تمَّ إضافة أربعةِ أيام، من أربعاء الرّماد وحتّى يوم السّبت السّابق للأحد الأوّل من الصّوم. فأصبح مجموع أيام الصوم 40 يومًا.

5) تناول السّمك خلال زمن الصّوم

 

هذا موضوع جَدَلي تُثار حوله الأسئلة كلّ عام، لدرجة فيها ينسى النّاس جوهر الصّوم، ويصبح الأمر سجالًا بين مؤيّد ومعارِض، غافلين أن هذا الأمر هو تقليد وَضعَته الكنيسة، وليسَ جوهرَ عقيدة حتى يتم التّطاحن عليه. ولا نَنسى أنّ المسيح نفسَه، لم يُشرّع لا أنظمة ولا قوانين، ولم يَضع قائمة محظورات ومُباحات، خلالَ الصّوم. لِذلك القضية تحتاج لِبُعد نَظر ووِسع أُفق، وقدرة على تَقبّل تقاليد الآخرين، ما دَامت لا تَنتهك جوهر العقيدة، عوضًا عن إدانتهم والحكم عليه. ويبقى للمؤمن أن يختار ما يناسبه من طُرقِ الصّوم وأشكالِه.

 

لذلك، وَدَدتُ أَن أُخصّصَ لهذا الجدل جُزءًا، فيه أُحاول بيانَ الأسباب أو التّفسيراتِ، الّتي ترتكِزُ عليها الكنيسة الكاثوليكية، في إجازة أكل السّمك خلال هذا الزّمن المبارك.

 

i. في مجموعة الحقّ القَانوني للكنيسةِ الّلاتينية (ر 1251-1252)، نجدُ أنَّ على المؤمن مراعاة الانقطاع عن أكل الّلحم أيّام الجُمعة خلال العام. فهو اليوم الّذي فيه نُحي ذكرى ذبيحة المسيح على الصّليب، وهو يوم يحمل طابع الحُزن والتّوبة. فَفيه توصي الكنيسة بالامتناع عن تناول الّلحوم، كونها تُعتبر من الأطعمة، الّتي تُصاحِب ولائم البهجة ومآدب الفرح.

 

ii. لقد نَشَأَت عادة الامتناع عن تناول الّلحم خلال أيّام الصّوم، بالإضافة إلى أيّام الجُمَع خلال العام، في القرون الأولى من المسيحيّة. ومعها أيضًا نَشَأَت عادة الانقطاع عن تناول جميع المأكولاتِ ذات الأصل الحيواني، مِن ألبانٍ وبيضٍ وأجبان. حيث كانَ الامتناعُ عن أَكلِها خلال هذا الزّمن، شرطًا من شروط الصّوم، وبديلًا يُمارسه المسيحيّون، بعدَ أن انتهى عصرُ الاستشهاد الدّموي، حبًّا في المسيح، ومشاركةً متواضعةً منهم في آلامِه وذبيحتِه العُظمى.

 

iii. وبِما أنَّ زمن الصوم هو زمن تقشفٍ وحرمان، وأنّ الّلحم مَظهر من مظاهر التّرف والمتعَة، كانَ لا بدَّ من الكفِّ عن تناولِه خلال هذا الزمن، إذ أنّه يُعتبر من الأطعمةِ الّتي تُحفّزُ غريزة الإنسان، وتُلبّي شهوته نحو الطّعام.

 

iv. أمّا استثناء السّمك من قائمة الممنوعات خلال هذا الزّمن، فَيَحمل عدّة وجهات نظر، مُستقاة من حياة المسيح وتلاميذه ومِن ممارسة الكنيسة. فَعَدَدٌ من رُسل المسيح كانَ يَعتاشُ من مهنة صيد السّمك، قبل أن يُصبِحوا صيادي بشر (متّى 18:4-22). كما أنَّ الرّبّ أَجرَى في السَّمكِ آياتٍ مُبينَة دَلّت على قدرتِه، عندما أَطعمَ بهِ الآلافَ وأشبَعهم (مرقس 30:6-44). وبعد قيامته، أطعمَ الرّبُّ الرّسلَ السَّمك المشويّ، على شاطئِ بحيرة طبريا (يوحنّا 1:21-14). وكان السَّمكُ آنذاك يُعتبر قوتَ الفقراءِ، إذ يَعتاشون من صيده في الأنهار والبِحار والبُحيرات، دون تَحمّل عناءِ تربيَتِه وتكاليفِها، كما هو الحال في تربية الماشية، وهو لهم طعامٌ لا يمكن الاستغناءُ عنه. أمّا الّلحم فكانَ غالِبًا ما يُقدّم على موائِد الأغنياء.

v. ثمَّ أنّ رسمَ السّمكة أصبحَ له أهمية كُبرى في القرون المبكّرة للمسيحية، خصوصًا إبّان عصورِ الاضطهاد. إذ كانت السَمكة، أَداةً للتّعارُف بين المسيحيين، في تلك الحقبة الصّعبة. فَكانَ المسيحيُّ يرسم نصف سمكة، فإذا قامَ الشّخص الآخر برسم النّصف الثّاني، عَرف الأوّل أنّه مَسيحي. فالسمكة كانت وَسيلةً للتّواصل بينَ المسيحيين، وسببًا لنجاتِهم من المخاطر آنذاك.

 

vi. أضف إلى ذلك أنّ أحرف كلمة سمكة في اليونانية (ΙΧΘΥΣ ichthys)، تُشكّلُ مجتمعة ما هو اختصار لجملة: "يسوع المسيح ابنُ الله المخلّص/ Ἰησοῦς Χρῑστός Θεοῦ Υἱός Σωτήρ

 

vii. والّلاهوتيّ الكبير القديس توما الأكويني، صاحب (الخلاصة الّلاهوتية)، يكتب، قائِلًا: (الصّوم وُضِعَ من قِبلِ الكنيسة لكي تُساعد المؤمن على لَجم شهوات الجسد، الّذي يبحث ويتعلّق بالشّهوة المستمدَّة من الطّعام. لذلك، مَنَعت الكنيسة الصّائمين، من الاشتراك في الأطعمة الّتي تحمل لذّة كبيرة ومتعةً، عند تناولِها في الفم، والّتي تُثير وتُحفّز شهوات الإنسان أيضًا، ومنها لحوم الحيوانات الّتي تدبُّ على الأرض، وفي السّماء، وما نتجَ عنها).

 

viii. والملاحظ هنا أن القدّيس توما أَجملَ الّلحوم الّتي يُمنع تناولها خلال زمن الصّوم، بلحوم تلك الكائنات الّتي تدبُّ على الأرض، وما يطيرُ منها في السّماء فقط، دون أن يتطرّقَ إلى الأسماك.

 

ix. ومع القرن الثّالث عشر، نجد أن عادة أكل السّمك خلال زمن الصّوم، كانت قائمة في الكنيسة الغَربيّة.

 

x. هذا الاعتبار عند القديس توما له أُصوله في الكتاب المقدس! فَفي الرسّالة الأولى للقديس بولس إلى أهلِ قورنتوس، يقول: "ليست الأجسامُ كلُّها سواء، فلِلناسِ جسم، وللماشيِة جسمٌ آخر، وللطّيرِ جسمٌ، وللسَّمكِ جسمٌ آخر" (1قورنتوس 39:15). هذا التّمييزُ الّذي يستخدمه بولس الرّسول، هو التّمييز الّذي يستعمله اليهود للفصلِ بين الكائنات والأطعمة. فَبِحَسب العقلية اليهودية تُقسّمُ الأطعمة إلى: فئة الّلحوم وتشمل لحوم الطّيور والمواشي، والألبان الحيوانيّة، وهذه تسمّى (كوشير/ Kosher). وفئة أُخرى تضمّ الفواكه والخضروات والحبوب والبقول والزيوت النباتية، واعتُبِرَ السّمك أيضًا ضمن هذه الفئة، وهذه تُسمّى (باريف/ Pareve).

 

xi. وهكذا نجد أنّ السببَ الأوضح هو ما ذُكِرَ في رسالة بولس، بتأثير من الأحكام والممارسات اليهودية. إذ كان لها تأثير على بعض جوانب الصوم المسيحي، وخاصّة في موضوع أكل السمك، كونه لم يُدرج ضمن فئة الطّيور والمواشي. وهذا ليس بغريب، فَنحنُ نعلم أن المسيحَ ورسلَه والجماعةَ الأولى كانوا من اليهود، وأنّ تأثيرًا للشّريعة اليهودية، نَجدُه في بعض الجوانب الّليتورجيّة والممارسات المسيحية.

 

xii. وربّما يكون هذا أيضًا ما يُعلّل قبول الكنائس الأرثوذكسية الشّرقية بتناول الأسماك خلال زمن الصوم، وإن كان فقط في يوم عيد البشارة ويوم أحد الشّعانين. فَلِمَاذا تمّ السّماح بأكل السّمك فقط، خلال هذين العيدين، ولَم يُسمَح بأكل لحومِ سائر الحيوانات؟! نرجو أن نُعطى الإيضاحات من أصحابِ الاختصاص، إذا كان هناك أسباب أخرى. فالفرق في نظري، ليسَ في جوازِ أَكل السّمكِ أو عَدَمه خلال هذا الزّمن، بقدر ما هو الفرق في الأيّام الّتي يُسمح فيها بتناول هذا الطّعام.

 

xiii. بناءً على كلّ ما ورد، أرى أنّ أكلَ السّمك أو عدمه سيان. لذلك، الأفضلُ عدم الانجرار وراء جدالات دُنيويّة لا تتوقّف، والالتِفاتُ إلى جوهر الصّوم، والغايات الرّوحية السّامية المرجوة من ورائه. مُتَمنّين ألّا يُخطّئَ أحدٌ غيرَه في حال أكل سمكًا خلال زمن الصّوم. لأنّه، كما أنّ للبعضِ أسبابًا مانِعة، فهناك أيضًا لآخرين أسبابٌ تَسمح بذلك. وهُنا، يُترك الأمر للمؤمن الحرّيّة في تقرير إذا ما أرادَ أن يأكل أو أن يمتنع، عن تناول السّمك.

7) معاني الصوم

 

للصّوم معانٍ كَثيرة، أَبسطها المعنى المادّي، أو جانب الطّعام، الّذي مع كلّ أسف يتوقّف الكثيرون عندَه، دون أن يُزيّنوا صومهم، بالمعاني الأخرى الأعظم. لِذلك، فإنّ كلّ صوم يُقتصر فقط على طعام وشراب، هو صوم مبتور. وفي هذا يَقول القديس باسيليوس: ((إنَّكَ رُبَّما لا تَأكُلُ لَحمًا لكنَّكَ تَنهشُ أَخاكَ. الامتناعُ عن الأكلِ فَقط هو حطٌّ لكرامَةِ الصّوم. مَا مَعنى أن نَنقطِعَ عن أَكلِ الّلحمِ، وَنحن لا نَنقطِعُ عَن أكلِ لَحمِ قَريبِنا بالنَّميمَة والغِيبَة؟ وما معنى أن نصومَ عن الأكل، ونحن لا ننقطعُ عن الأفكارِ الرّديئة والحِقدِ والبُغض؟)). أمّا القديسُ غريغوريوس النيصي، فكتب يقول: ((مَاذا يَنْفَعُكَ أَنْ تَصومَ وتَحْرِمَ نَفْسَكَ من اللُّحومِ، إِنْ كنتَ بَعدَ ذلِكَ كُلِّهِ لا تَقومُ سِوى بِنَهشِ أَخيكَ بدناءَتِكَ؟))

 

أمّا أهمّ معاني الصّوم، فهي: 

 

التوبة: فالصّوم وسيلة مادّية به نُعبّر عن توبة داخلية، وهو وقفةٌ أمام الله، فيها نُراجِع حياتِنا، بهدف الارتداد والتغيير. "اِرجعوا إليَّ بكلِّ قلوبِكم، بالصّوم والبُكاءِ والانتحاب" (يوئيل 12:2).

 

الصلاة: فالصّوم الّذي لا يوفّر لَكَ مساحة أفضل لِكي تُصلّي، هو صوم فارغ. وكم هو جميلٌ خلال زمن الصّوم، أن تُغلقَ أجهزةَ الهاتف والتلفاز والمذياع، حتى تُوجِدَ لنفسِك فُسحات من الصّمت، فيها تُصلّي وتُناجي أباك الّذي في الخفية: "فإذا صَلَّيتَ، فادخُل حُجرتَكَ، وَأغلِق عَليكَ بابَها، وَصَلِّ إلى أَبيكَ الّذي في الخُفيَة" (متى 6:6). وكَم هو أجمل عندما تجتمع العائلة لتُصلّي معًا السبحة الوردية، أو تقرأ فصولًا من الإنجيل المقدّس. فالقدّيس يوحنا فم الذهب يُشبِّهُ الصّلاة البيتيّة بقِمّة البناء الْمُكَمِّلَة للبيت (سقف)، حتى إذا اكتمل بيتُك أصبح أهلاً للرب.

 

الصدقة: فالصّوم لا يكتملُ دون الصَّدَقَة، فَما توفّره في صيامِك ليسَ لك، كما يقول القدّيسون. هو ليس فائِضًا به أذهب في رحلة استجمام إلى شرم الشيخ أو تركيا، وليس هو توفير به أشتري هاتفًا جديدًا، أو هدية لزوجتي. بل هو للفقير. وعندما يكون خلاف ذلك، فالصّوم يُصبح تَعَدٍّ على حقوق الفقراء، أو مجرّد ممارسة مَشروعة للبخل. ولا تكون الصّدقة فقط بالأموال، فزيارة مريض، وتَشديد مُحبَط، وتعزية مَحزون، والغفران لِمُذنِب، ومصالحة خَصم، هي من أعمال الصّدقة (الرّحمة) الروحية. "أَلَيسَ هذا هو الصّومُ الذي آثرتُهُ؟ أَليسَ هو أن تكسرَ للجائعِ خُبزَكَ، وأن تُدخِلَ البائسينَ المطرودينَ بيتَكَ، وإذا رأيتَ العُريان أن تَكسوه، وألّا تَتوارى عن لحمِكَ؟" (أشعيا 7:58).

8) خلاصة

 

زمنُ الصّوم هو من أجمل الأزمنة الّليتورجيّة خلال العام وَأغناها، بما يوفّر من وسائل عظيمة وممارساتٍ تَقويّة، تُساهم في تعزيز نموّ المؤمن روحيًّا وإيمانيًّا. ولكن، مع كل أسف، هناكَ كثيرون مِمّن يُفقرونَه، عندما يتحوّل عندهم زمنًا للمقارنة المعتلّة والمماحكة المريضة. حتّى أنّ البعضَ، يحاول أن يَصبغَ هذا الزّمن بصبغة طائفيّة، تُساهم في توسيع الشّرخ، لا في رأبِ الصّدع.

 

مُؤخّرًا قرأت معلومة جديدة مفادُها، أنّ واحدًا من الأسباب الْمُلحّة الّتي دَفعت الكنيسة الّلاتينيّة إلى تخفيف شريعة الصّوم، هو الحرب العالمية الثّانية، الّتي حَصَدَت أرواح عشراتِ الملايين، وَأَحدَثَت مجاعة شديدة في القارّة العجوز، الأمر الّذي دفعَ الكنيسة الغربية إلى التّخفيف مِن شريعة الصّوم. فالنّاسُ آنذاك، لم يكن عندهم حتّى الخبز ليأكلوه، فَكَيفَ لهم أن يصوموا عن الّلحمِ وغيره؟! وهي لأنّها الأمّ الّتي تُعنى بأبنائِها وتهتمّ بهم، عَمِلَت بما أَجَازَه المسيح، عندما عَلّمنا أن خيرَ الإنسان وخلاصَه وَنجدتَه، تَفوق كلّ قانون وشريعة، حتّى لو كانت شريعة السّبت، ومثلها أيضًا شريعة الصوم!

 

من ناحية أُخرى، كثيرًا ما يفتخر المسيحيّون في الشّرق بَتَشدّدهم في الصّوم عن الطّعام. في المقابل تراهم يمارسون نوعًا من التّوفير المالي، بما يمتنعون عنه خلال هذا الزّمن، الّذي يُفترَضُ أن يكون امتناعًا بهدف الصّدقة، الّتي هي ركن جوهري من أركان هذا الزّمن، ولكنّه شبه مفقود. بينَما المسيحيون في الغرب، قَد لا يصومون عن الطّعام كصيام إخوتِهم في الشّرق، لكنّهم قادرون أكثر على مدّ أيديهم إلى جيوبهم، وإخراج ما وَفَّروهُ في صيامهم، للصّدقة وإغاثة المحتاج. وأكبر دليل على ذلك، أنّ معظم الكنائسِ ورَعاياها في الشّرق، تعيش على المساعدات والهبات القادمة، من إخوتهم المسيحيّين في الغرب.

 

مِن هنا أريد أن أقول أنّه لا يحق لأيٍّ كان، أنْ يُخطّأَ غيرَه في صومِه! مُعتقدًا بهتانًا أنّ صومَه فقط هو المقبول عند الله، وصوم أَخيه مرفوض. تماما كذاك الفريسي المتبجّح، الّذي لَم ينجح في النّزول إلى بيته مَبرورًا، أمّا العشّار الّذي كان محطَّ انتقاده وسُخطه، فَقَد نزل إلى بيتِهِ مبرورًا! (لوقا 9:18-14).

 

فاحرص إذًا أن تعودَ إلى بيتِ الآب مبرورًا، عِوَضًا عن النّظر إلى غيرك، والانشغال في تجريحِه وانتقاده، قبل أن يفوتَك الرّكبُ والأوان، إذ هناكَ البكاء وصريف الأسنان. أليسَ في النّهاية، هذا هو الهدف مِن كل هذا الزّمن، أن: إغسِلني كثيرًا من إثمي، ومِن خطيئتي طهّرني (مزامير 4:51).

 

 

لقراءة الحلقة الأولى، والحلقة الثانية