موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٧ يونيو / حزيران ٢٠٢١
الأب جيجي يغادر سكرتاريا الفاتيكان ليكرّس نفسه للبائسين بإسم الأم سانتينا
الأب جيجي جينامي في كينيا

الأب جيجي جينامي في كينيا

الأب برونو فاريانو، رئيس دير الرهبان الفرنسيسكان، الناصرة :

 

هنالك أناس في الحياة يبهرونك! ونادرًا ما يبهرني أحدهم أكثر من كاهن التقيتُ به في عمر صغير جدًا، عندما جئتُ لإدارة صحيفة "إلتيمبو" عام 2002. الأب جيجي جينامي، من بيرغامو، هو شخص مغرم بالكاردينال كارلو ماريا مارتيني. وبطريقة ما، وصل عمل في روما في مكتب السكرتاريا لدولة الفاتيكان، وتحديدًا في مكتب المعلومات والتوثيق، الذي يوفّر المعلومات الإستراتيجية للبابا الذي كان آنذاك البابا يوحنا بولس الثاني. وبقي هناك لمدة ربع قرن، يقوم بإعداد التقارير الصحافة العالمية، وأيضًا في حبريّة البابا بندكتس السادس عشر والبابا فرنسيس. عندما التقيتُ به، كان كاهنًا دائم الإبتسامة، ويبدو أنه من خارج هذا العالم، دون أن يخلو من بعض البراعة والاندهاش لما كان يحدث في العالم.

 

ومع ذلك، كان عليه أن يعرف الكثير من أسرار العالم، لأنه –لا أعلم كيف- أصبح الكاهن الأكثر طلبًا وإستشارة مِن قِبَل رجال مهمين وذو نفوذ. كان بالنسبة للجميع الأب جيجي، ولكن بكونه الكاهن المثالي، وتواضعه الواضح، كانت له علاقة وطيدة بكثيرة من عائلات ذوي نفوذ في ذلك الوقت. كان معرفًا، وموضع ثقة، معلمًا للأطفال، كان موضع ثقة للأشخاص الذين لم يكن لديهم القدرة على إتمان أحد على فكرة في داخلهم، مثل محافظ بنك إيطاليا آنذاك، أنطونيو فايتسو، أو المصرفي ذا النفوذ الأعلى في تلك الفترة، تشيزاريه جيرونتسي، والعديد من المصرفيين والصناعيين الآخرين، (مثل محرر "إلتيمبو") وشخصيات ذلك العصر. على عكس ذلك، لم يكن معروفًا جيدًا للصحافة. لم يكن يحب الدعاية، كان يحرس بصعوبة شبكة العلاقات هذه التي كان يحسده عليها أكثر من كاردينال، ومن الواضح أنه قد عُهدت إليه كل ثقة.
 

ومضت السنوات، وعملتُ في صحف أخرى. لكنّ اللطف الذي ولد بيننا خلال تلك السنوات فقد بقينا على إتصال عن بُعد. حتى خلال العشر سنوات عندما أطاح به المرض طويل الأمد، وأيضًا وفاة أمه سانتينا تزوكّينيلّي. وقد كتبَ كلمات مؤثرة لأصدقائه، مرسلاً مقاطع من الفيديو لتلك الأشهر الصعبة للغاية، ولكنها مليئة بالخبرة والصلاة في لحظات صعبة ونهاية مؤساوية. إنّ انتقال إمه سانتينا إلى السماء غيّرت الرجل والكاهن، وقد أثارت معجزة حقيقية: تأسيس مؤسسة سانتينا، المنظمة غير الربحية للمنفعة المجتمعية، برفقة جمعية أصدقاء سانتينا تزوكّينيلّي.

 

ذكرى وفاة أمه أصبحت منذ ذلك اليوم المحرّك لحياة الأب جيجي، الذي انضم إلى عشرة أشخاص في كل جزء من العالم من أجل مساعدة الذين كانوا يواجهون صعوبات أكثر، وتحقّق ذلك بفضل الأعمال الخيرية التي عرفت تحريك بشكل غير عادي أعمال الخير الصغيرة والكبيرة. من غاريسا، المكان الذي وقعت فيه مأساة الكراهية الدينية حيث تم إبادة الطلاب المسيحيين على يد الأصوليين الإسلاميين، وبالتعاون مع مؤسسة سانتينا إستطاع إعادة بناء الكنيسة، وآبار المياه التي أقيمت في القرى النائية في أفريقيا، إلى إنشاء مؤسسة للتبني عن بعد للعائلات الفقيرة في وسط أمريكا الجنوبية التي أبادتها حروب تجار المخدرات، حتى المجاري التي أقيمت في البيرو، أو رياض الأطفال في المناطق الأكثر فقراً في الفيتنام.

كنت أتلقى كل شهر صورًا ومناشدات من الأب جيجي، وكذلك مذكراته التي تأتي في موعدها، محدّثة عن أيامه في جميع أنحاء العالم. أعمال الخير الكبيرة والصغيرة. ولكن العمل الأساسي كان هو، جسم كاهن لم يعد مونسنيور، مُجرّد من ملابس الكاهن العاديّة ومرتديًا بعض الخرق، وقد صنع رفقة وإحسان للأقل شأنًا في العالم. نادرًا ما تحدثنا مع بعض، لكني قد ذهلت لرؤية صور له وهو يحمل جسد إمرأة معذبة ومحكومٌ عليها بالموت بالإيدز، وهي هيكل عظمي به أجزاء من الجلد وعضلات مضمرة، وكان يحملها في الماء من أجل فرحة آخر حمام وعلى وجهها المعذب تظهر ابتسامة فرح كانت تساوي أكثر من بناء العديد من رياض الأطفال.

 

رأيتُ الأب جيجي يدخل أفظع سجون أمريكا الجنوبية، يحتفل بالقداس أمام أشد تُجّار المخدرات قسوة وعطشًا للدماء. كان يحتضنهم ويمنحهم سرّ التوبّة (الاعتراف)، وكان يركع ليغسل أرجلهم. رأيته مع أطفال مرضى، عراة وبائسين، تجد النور في عيونهم عند حضوره. لقد رأيتُ يومًا بعد يوم معجزة الحياة التي لم أكن أتخيلها، وما يمكن أن أتصبح عليه عندما تصبح أداة رحمة ومحبة الله. نعم، لقد أذهلني الأب جيجي، وفي كثير من الأحيان كنتُ أشعر بالإطراء للتحدث عنه، ولكني كنت أخشى فقط تواضعه.

إذا تحدثت عنه الآن لأنه حدث الشيء الذي لم يفاجئني. لعشرة سنوات كان يعود من كل رحلة خيرية، حتى ولو كانت لأبعد الحدود، إلى مكتب سكريتاريا دولة الفاتيكان، يكتب كل ما رآه. وفي بعض الأحيان يرويه مباشرةً للكرادلة، وللبابا فرنسيس بذاته. في فترات الإستراحة من عمل الخير كان يواصل عمله في ذلك الوقت بنفس التفاني والإخلاص كما كان من قبل. لكن حياته أصبحت مليئة بأشياء أخرى، ولم تكن جدران ليونينه سوى كبح لإنفجار ذلك الحب الخيري. هكذا حدث كل ما قد تخيلته: إختار الأب جيجي مؤسسته سانتينا والحب للعالم.

 

وبعد 25 عامًا يترك سكرتاريا دولة الفاتيكان، واضعًا نفسه على أهبة الإستعداد من الأول من تموز في أبرشيته في بيرغمو، حيث يمكنه بكل حرية من متابعة تقديم المساعدة لبائسيه حول العالم والذين ينتظرونه بفارغ الصبر. كما ذكر الأسقف داريو إدواردو فيغانو عندما أعلن عن عودة الأب جيجي إلى وطنه، في بيرغمو: "يريد أن يكرّس نفسه بشكل أفضل، بشغف أكبر، لأعمال الرحمة الخيرية وبالأخص لحياة مؤسسة سانتينا".

ليس بمحض الصدفة أن يعود قريبًا وبشكل دائم إلى بيرغامو، ويبدأ حياته الرعوية الجديدة برحلة التضامن السادسة والأربعين. كما أريد أن أعلن لكم أن رحلة التضامن هذه ستكون في البيرو نيابةً عن مؤسسة سانتينا، وأيضًا عن الأبرشية، لأن كاريتاس بيرغامو قامت بتقديم التمويل الكامل لترميم جزء من المعهد الإكليريكي في بويرتو مالدونادو في أمازون البيرو".

 

أتمنى رحلة موفقة إلى الصديق والكاهن الذي استطاع أن يبهرني كثيرًا في السنوات الأخيرة....