موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
كتاب: مقالات روحية لآباء من الجبل المقدس (آثوس)، خلال حفل إشهاره في تشرين الثاني 2021 (تصوير: سورين خودانيان / أبونا)
في وقتٍ نحن أحوجُ ما نكون فيه لنافذةٍ تُطِل على الغِنى الروحي المتدفِّق من مقالات وعِظات ومخطوطات آباءِ جَبَل النُّسْكِ والصلاة والقداسة "آثوس"، يُقدِّم قُدس الأب الدكتور إبراهيم دبور لقراء العربية مُنْجَزًا جديدًا إلى جانب مجموعة الكتب التي كان أصدرها عبر السنوات الماضية أسماهُ "مقالات روحيّة لآباء منَ الجَبل المُقدس آثوس". وفي الحقيقة إن مكتبتنا العربية تفتقر لهذا النوع من المؤلَّفات التي تشكل إرثًا روحيًا، وغذاءً فكريًا لازدهارها بالموضوعات التي تُنِير المَرء وتُنقِّي الذات بما يؤول بالتالي إلى النّمو الروحي والعيش على ضَوء الفضائل ليسَ لمعشَر المؤمنين فحسب، بل لقُرّاء العربية مِن المهتمين بسائر أطيافهم وأنَّى كان مُقامهم.
وجبل" آثوس" مِن باب التدليل عليه، هو بستانٌ رَحْبٌ للعبادة والابتهالات وخلاص النفوس، يقع شمال اليونان وقد سُجِّل في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو سنة 1988لأهميته الدينية والتاريخية ولروحانيته المتميزة وَعَبق القداسة المتصاعد مِن أديرته الكثيرة التي يقيم فيها رُهبان ونساك نذروا أنفسهم لله فأشرق مجد الله في حياتهم وانبعث يُنير الآفاق.
جانب من حفل إطلاق الكتاب، برعاية مطران الروم الأرثوذكس في الاردن خريستوفوروس عطاالله
لقد أحسنَ قُدس الأب د. إبراهيم حفظه الله ترجمة تلك المقالات والعِظات والمخطوطات المُنتقاةِ بدقةٍ على صُعوبة العمل وحاجتهِ لدقةٍ فائقةٍ وصبرٍ وتبصُّرٍ لمقاصد أولئك الآباء الذين تسلحوا بدرع الإيمان وارتَقَوا في معارج القداسة. وأرى أنَّ الاشتغالَ على الترجمة كان مُمْكِناً لِما اجتمع في قامةِ أبينا الفاضل مِن خِصالٍ إذ حَباهُ الله مواهب متعددة وتمتعَ بثاقِبِ بَصَرٍ وصفاءِ نفسٍ وَسَعَة اطلاعٍ، واكبَ هذا كله خبرته مِن سِنين طويلة كان أمضاها مع الآباء الأجِلاَّء في جبل آثوس عينه.
لذا فهذا الإرث الروحي يُشكِّلُ صدىً لأصواتِ وكلماتِ وما جرت عليه أقلام اولئك الآباء الذين رَأوا العَالَم من خلال تأملهم وصيامهم وصلواتهم وخدمتهم على نحوٍ أعمق مما يراهُ الإنسانُ العاديّ، فثمارُ الصلوات والتأمل والصمت والإصغاء تتجسَّدُ بتلقي إشعاعاتٍ عُلويَّةٍ، ورؤية تجليات نورانية يتكلم من خلالها الرَّب ويختص بها أولئك الذين فرزهم للكمال الإنجيلي وللتدرج في معارِج السموّ الروحي.
ويقع الكتاب في مائتين وثمانٍ وأربعين صفحة من القَطْع الكبير، قدَّم له سيادة المطران خريستوفورس مطران الروم الأرثوذكس الجزيل الوقار بكلمة جاء في مَطلعها "إنَّ الملكوتَ السماوي هو هدفُ حياةِ الإنسان ونحن نسعى للوصول إلى هذا الهدف النبيل بالجهاد الروحي من خلال محبة الله والقريب، ومحبة الله تأتي عندما نعيش وصاياه وتعاليمه التي أعطانا إياها في الكتاب المقدس ومن خلال أقوال الآباء القديسين وحياتهم، فقد عاشوا هذه التعاليم وجاهدوا الجِّهادات الروحية واختبروا حياة النعمة بالتوبة والصلاة والصوم والحياة النسكية. وَمِن هؤلاء الآباء مَن عاشوا في الجبل المقدس "جبل آثوس" وهو بستان العذراء والدة الإله". هذا وقد شجَّع سيادته في تقديمه للكتاب على قراءَته " للإفادة في الحياة الروحية من مَضمونه".
الأستاذ حنا ميخائيل نُعمان خلال مشاركته في حفل إطلاق الكتاب
وتنطلقُ موضوعات الكتاب مِن عنوانٍ حملَ اسم "الخدمة الارثوذكسية للقداس الإلهي بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم". حيث تمَّ تناول القداس الإلهي، قداس المؤمنين بشرحٍ عميقٍ وافٍ لجميع مراحله، ومِن التهيئة المُسبقة لإقامته واستعداد الكاهن لذلك. فالقداس الإلهي هو "ملخص عمل التدبير الإلهي كما أنه ليس رمزًا أو تمثيلاً إنما هو خدمة حقيقية". وجرى التركيز على "حقيقة حضور السيد المسيح نفسه بشكل غير مرئي في القداس الإلهي". أما المناولة فَتُمَثِّلُ "سِّرَ الشكر الإلهي"، ومفهوم سِّر الشكر الإلهي تجلى ليلة العشاء الأخير المقدس "مركز وقمة عمل المسيح الخلاصي، حيث ظهرت وتجلت محبة الله لنا" وجرى استعراض لشروط نَيلِ هذه العطية الإلهية "جسد المسيح ودمه" إذ يتطلب مِن المتناول ليستحقها ضميراً نقياً وتهيئةً روحية واستعدادًا لائقًا وتوبة وانسحاقًا". كما تمَّ سَردٌ وافٍ مع شُروحاتٍ للملابس الكهنوتية ورموزها، والشأن عينه للصلوات والطلبات والأدعية والتسبيحات خلال إقامة القدَّاسَات بمناسباتها المختلفة.
وتمضي في الكتاب فتجد مقالة عن ملكوت السماوات تمَّ فيها تبيانُ أنَّ " ملكوت السماوات هو الله بالذات والله محور هذا الملكوت" هذا بالإضافة إلى أنَّه "ليس ملكوتًا ماديًا ولا تستطيع الكلمات المادية البشرية وصفه، لأن العقل البشري المحدود لا يستطيع أن يستوعب ملكوت السماوات غير المحدود". وهنا تمت الإشارة لانخطاف القديس بولس إلى الفردوس كما جاء في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس "سمعتُ كلمات لا يُنطَق بها ولا يَسُوغُ لإنسانٍ أن يتكلم بها".
وتقلب صفحات الكتاب فتستوقفك هذه الفقرة البالغة الأهمية "إنَّ طريقة الوصول للمعرفة الإلهية تشترط على الإنسان الجهاد الروحي ضد الأهواء الجسدية، والمقصود منها ليست الأهواء التي تخص حاجات الإنسان اليومية كالمأكل والملبس وغيرهما وإنما بالواقع تخص سوء استخدام الأهواء الجسدية". وهناك حثٌ في الكتاب وفي عدة مواقع منه على ضرورة التوبة لنيل الرحمة الإلهية:" الله لا يعذب أحداً نحن نعذب أنفسنا بعدم التوبة.. التوبة لعدم حفظ وصايا الرب وللابتعاد عنه"، "التوبة ابنة الرجاء، والرجاء يحتوي على الفرح، فالإنسان الذي يعيش التوبة يكون فَرِحَاً، والفرح يُبدِّد اليأس".
الأب الدكتور إبراهيم دبور
وتجدُ في موضعٍ من الكتاب تساؤلاً "هل سنبقى مطروحين في براري اختياراتنا الخاطئة؟ وكان الرَّد: "يوجدُ نورٌ، نعم إنه نوُر المسيح الذي ينهي ظلمة الخطيئة، هذا النور الذي يقود إلى المحبة الخلاقة والمبدعة، المحبة التي لا تَطلب ما هو لها، بل ما هو للآخر:" أحبوا بعضكم بعضًا.. من له ثوبان فليعطِ لمن ليس له.. طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون".
وتُعرِّج في الكتاب إلى موضعٍ ورد فيه:" في العهد الجديد يُشِع نور الإنجيل المباشر أمام جميع المؤمنين فيصبح المؤمنون بمثابة شهود حقيقين وشهود عيان وشهود سَماع لتعاليم الرب يسوع المسيح كما ويصبحون شهوداً للعمل الخلاصي بكامله من آلام وقيامة وصعود، لذلك نطلب نور الله وليس أيّ نور وإنما استنارة المعرفة الإلهية هذه التي وحده الله قادرٌ أن يرسلها في قلوبنا لنتفهم ونشترك في الحياة الحقيقية للمسيح وفي العمل الخلاصي الذي قدمه لنا".
وفي محاضرة "حول الأفكار" لرئيس دير كسينوفوندوس جاء في رُكنٍ مُهمٍ منها: "عندما تحاربني الأفكار الشريرة أعمل كما يعمل عابر السبيل عندما يرى فجأة في الصحراء حين سيره وحشاً ينوي مهاجمته فيتسلق شجرة لينجو وهكذا أنا التجئ إلى الله بالصلاة وهكذا أخلص من تأثير تلك الأفكار." وجاء أيضاً: " مهما يفعل شريكنا الإنسان علينا ألا نفكر بالشر تجاهه وعلينا أن نصلي بمحبةٍ وأن نفكرَ بالخير دائماً" ويؤكد قُدْس رئيس الدير على أن: "لدى الانسان القِوى المناسبة لنشر الخير أو الشر في محيطه لذا يتوجب علينا أن نرى كل شيء بطريقة صالحة وألا نفكر مطلقاً بالشر عن الآخرين وعلينا أن نزرع الصلاح والمحبة في نفوسنا وأن ننشرهما ".
الأب دبور يوقّع نسخة من كتابه الجديد للأستاذ حنا ميخائيل نعمان
ويتحدث الكتاب عن الإيمان وبُعده الروحي واللاهوتي وعن أهمية الصلاة والتيقظ والصبر للانتصار على الأفكار الشريرة ولتنقية القلوب. كما أنه بالإيمان والرجاء والمحبة يتحقق التفاؤل وتسمو النفس البشرية.
وهناك مقالة عن أقمار الكنيسة الثلاثة " باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم "وفضائلهم وتواضعهم وفكرهم وما سطع عنهم من أنوار هداية تشكل ثماراً وعطايا لهم من الروح القدس، وكي نأخذهم كمثال وقدوة لحياتنا للمحافظة على النفوس والأذهان وجعل النور الإلهي يشع طارداً الظلمة والأهواء المميتة".
وتجد بين دفتي الكتاب مقالات وَعِظات ألقت الضَّوء على موضوعات وعناوينَ جرى اختيارها بفطنةٍ مِثل: سِرُّ الزيت المقدس دواء النفس والجسد"، "هَا أنتَ قد بَرئتَ فلا تخطئ أيضاً"، مبدأ الصليب في الكنيسة، الصيام، مسيرة حياة قديسينَ وفضائلهم، الذخائر المقدسة، رسومات جدران الكنائس الفنية ومعانيها ورموز الأيقونات والذخائر المقدسة. حيث تمَّ جلاء حقيقة "أن الموهبة ليست وحدها المتحكمة برسم الأيقونات المقدسة، بل النعمة الإلهية والإيحاءات الروحية". يجيء هذا إلى جانب الصلاة والتأمل وطلب الإستنارة مَا يُحرك ريشة الرَّسام فتُبدع أروع الرسومات وأكثرها جلالاً ومهابةً وسُموَّاً روحياً.
أهنئ قدس الأب د. إبراهيم دبور على تسليم هذا المِشعَل المُتَّقِد الى جمهور المؤمنين وسائر قُراء اللغة العربية لاستجلاء الآفاق الروحيّة المتوهجة منه، ولاستلهام ما ينعكس على مسيرة حياتهم ولتشتعل القلوب بالمحبة، المحبة التي هي أعظم الوصايا كما علمنا سيدنا يسوع المسيح، المحبة التي من خلالها وليس سِواها نرتقي صُعُدًا نحو الملكوت السماوي.
للمزيد من صور حفل إطلاق الكتاب