موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الإثنين، ٣٠ مايو / أيار ٢٠٢٢
نحو مسيحية خلاّقة وعروبة متجددة

د. شارلي يعقوب أبو سعدى :

 

بدأت الشهادة لإيماننا المسيحي منذ عصور قبل الإسلام. وهنا في فلسطن كان مهد المسيحية وسرعان ما انتشرت في كل بلاد الشام ومصر وبلاد ما بين النهرين. واستقبلتها مختلف الشعوب والحضارات الآرامية والقبطية والأشورية البابلية. وفي القرن الرابع الميلادي آمن الإمبراطور الروماني بالمسيحية، ومعه آمنت شيئا فشيئًا الإمبراطورية بكل شعوبها الغربية والشرقية اليونانية والقبطية والآرامية والأشورية البابلية والعربية. تلك أصولنا نحن الباقين اليوم في كل بلدان الشرق الأوسط، مسيحيين ومسلمين.

 

ومع مجيء الإسلام في القرن السابع، أسلم بعضنا، آراميين أو أقباطا أو أشوريين بابليين وعربًا، وبقي بعضنا مسيحيًّا. وبعد الصدام المسلح بين الجيوش، نشط المسيحيون الذي بقوا على مسيحيتهم، فاستقبلوا الأسياد الجدد، وساهموا في بناء الحضارة الجديدة العربية الإسلامية. فأداروا الدواوين، ونقلوا العلوم والفلسفة اليونانية إلى الحضارة الجديدة. وظلت الحال كذلك، حتى باعدت الحروب والفتوحات المتوالية بين الناس، وظهرت الأحقاد بين ىالأعراق المختلفة، وبين العرب وغير العرب، ثم بين المذاهب في الدين الواحد. وظهرت الروح القبلية، ومثلها الروح الطائفية، التي حولت الأديان من طاعة لله سبحانه وتعالى ومعاملة مع جميع خلقه، إلى طوائف تتخاصم وتعتدي أو يعتدى عليها. هكذا نشأت الطائفية بين المسلم والمسيحي، بالإضافة إلى الاختلاف في العقيدة.

 

وابتداء من القرن التاسع عشر، التف المسيحيون العرب التفافا عضوياً حول الأحزاب السياسية، وبعضهم التفَّ حول النظم السياسية القائمة. هؤلاء يرون في حماية "القانون الواحد" حماية لكل المواطنين. مع أن تلك النظم لم تكن قائمة على أسس سياسية واجتماعية واقتصادية سليمة، فأُجبرت الكنيسة والقادة المسيحيون لأن يُجاروا ويحتموا بواقعً غير سليم. فوقع كثيرون في المحظور واضطروا إلى التغاضي عن الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان بشكل عام، والرسالة المسيحية نقيض ذلك.

 

لقد كانت الكنيسة المشرقية وطوال ألفي عام تقريبا تحت احتلالات مختلفة. ومرت السنين والقرون، وصرنا اليوم وفي بداية الألفية الثالثة ملحاً لا يملّح ونوراً يفتقد إلى التوهج، وفقد العديد لا بل الكثير من شبابنا هويتهم المسيحية، ففقدوا هويتهم العربية، وعندما لا يعرف الملح أنه ملح، فكيف يملح، وكيف يصلح في أي مجتمع مهما كان نوعه؟

 

من حيث المبدأ، المسيحي هو رجل الأمل، لأنه يعلم أن كل شيء في يد الله. وأن جوهر إيمانه وعلاقته بالله هي المحبة التي تربطه بالله وبالناس إخوته. وهذا مبدأ لا يسمح بالتشاؤم ولا بتحويل الكنائس إلى أطلال، ولا يسمح بتحويل المجتمعات إلى طائفيات ممزقة.

 

العيش مع الآخر المختلف هو تحدٍّ كبير للمسلم وللمسيحي في مجتمعاتنا العربية. المسلم والمسيحي عليهم الوقوف وقفة واحدة معًا. هي وقفة الإنسان الذي يرى الإنسان، ضمن عائلة واحدة، ويرى الله أولا، ربًّا خالقًا لكل خلقه، ويرى الوطن وطنًا واحدًا لكل أبنائه على أي دين أو فكر كان. والواقفون هذا الموقف كثيرون. لكن الموقف المناقض أيضًا موجود. ولا بد من العمل معه، والحوار معه، للعودة به إلى أرض واحدة وبيت واحد وإنسان واحد، لتتم الوحدة في الوطن الواحد.

 

من الواضح أن الحل الأمثل لضمان مستقبل مزهر للمسيحيين العرب ولكل فئة في كل مجتمع، أولا، أن يكون المسيحي مسيحيا، وأن يؤمن الإيمان الذي قال فيه السيد المسيح إنه ينقل الجبال، كما يحب أن يكرر البطريرك ميشيل صباح. المسيحية أول حاجتها أن يكون المسيحيون مسيحيين. وبكونهم مسيحيين، صادقين ومخلصين لإيمانهم، يكونون مواطنين مخلصين لوطنهم، وهذا الأمر الثاني الذي يحتاجون إليه، وهو اندماجهم الكامل في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلداننا العربية، مهما كانت صعبة أو معقدة، وبالرغم من كل الجوانب السلبية التي نراها في مجتمعاتنا. إن مثل هذا الاندماج يتطلب رؤية وبرامج وسياسات واضحة وصريحة لدى القيادات الكنسية والمجتمعية والقادة السياسيين ككل، على أساس أن مثل هذا المطلب هو من مسؤولية الكنيسة والحكومات على حد سواء.

 

المسيحيون العرب ليسوا مستوردين من الغرب، فنحن جزء لا يتجزأ من المجتمع العربي الاسلامي في بلاد المشرق. جزء لا يتجزأ من الوطن. الوطن في صراع؟ فنحن جزء لا يتجزأ من وطن في صراع. نحن هنا اليوم. كنا هنا وسنكون، وقد عاش أجدادنا أوقاتًا أصعب من أيامنا هذه، وما زالت الكنيسة تنبض بالحياة. هذه دعوة للمسيحيين في كل بقاع مشرقنا لأن ندرك ذاتنا وننبذ الخوف والتقوقع. علينا المساهمة بإنتاج مسيحية تنبض بالإيمان والحياة، في عروبة جديدة متطورة وحديثة قائمة على المساواة واحترام الآخر. الخطوات العملية للبناء الجديد: مسيحي مؤمن يعرف نفسه مؤمنًا، وقادرًا على نقل الجبال. ثانًيا، مسيحي ومسلم يتكاملان في بناء الوطن، في حوار مصوِّب ومصحِّح. وثالثًا، اندماج كامل في بناء الوطن، في جميع مجالاته في السياسة، والصراع، والاقتصاد. مسيحي عربي ومسلم عربي، هو مسيحي مهتم لكل شعبه ومسلم مهتم لكل شعبه. كلاهما واحد، كلاهما بانيان لوطن واحد. هذا هو الحلم.