موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٢٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
ما الذي ضيّعناه عندما لم نعُد نضيع
الضياع في مدينة غريبة يخلق حسًا أعلى بالمكان - (أرشيفية)

الضياع في مدينة غريبة يخلق حسًا أعلى بالمكان - (أرشيفية)

باييدو فوك :

 

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 

جعل الهاتف الذكي من التنقل في المدينة ممارسة أكثر أمانًا، ولكن بأي تكلفة على التجربة البشرية؟

 

* *

 

"ذات يوم كنت أسير بين صفوف من المنازل متطابقة الشكل؛ كنتُ ضائعًا". هكذا يقول الراوي، متأسّيًا، في رواية الإيطالي إيتالو كالفينو "مدن غير مرئية" Invisible Cities. كان كالفينو يكتب عن مدينة "سيسيليا" الخيالية، ومن خلالها عن مدينة "البندقية"، لكنه كان من الممكن أن يكون بصدد وصف السير المرتبك في طريق مسدود متقاطع قابل للتبديل في أي عدد من ضواحي ما بعد الحرب.

 

تردد رواية "مدن غير مرئية" رجعًا خالدًا لدى أولئك الذين يبحثون عن مباهج ورذائل الحياة الحضرية. وتعكس مدنُ كالفينو الحضرية الخيالية، المصنوعة، بالتناوب، من المرمر، والقنب والقمامة، الكثير مما يجب أن تقدّمه المدن الحقيقية: الثروة التي بلا حدود؛ وخفاء الهوية المبهِج؛ والرجس. ولم يتجاوز عمر الكثير مما كتب عنه كالفينو نصف قرن.

 

ومع ذلك لا يسعني سوى التفكير بأن الفصل الذي كتبه عن "سيسيليا" فقد بعضًا من صلته بالنسبة للقارئ الحديث. فبعد كل شيء، يكاد يكون من المستحيل أن يضيع المرء في مدينة بعد الآن.

 

يعني الانتشار الواسع للهواتف الذكية التي تدعم نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أن كل شخص أصبح يتمتع بوصول إلى خريطة دقيقة للغاية، في أي وقت من النهار أو الليل. وسوف يظهَر موقعك الدقيق، لدرجة أن هامش الخطأ لا يتعدى بضعة أمتار، على الفور عندما تقوم بفتح تطبيق للخرائط على هاتفك. ويمكن استحضار الاتجاهات، مع عدد من وسائط النقل المتاحة، في ثوانٍ، مصحوبة بالجداول الزمنية -أو حتى مواقع نظام السكوترات القريبة. وحتى في مكان ليست فيه إشارة إنترنت، يمكن لشريحة نظام تحديد الموقع الجغرافي العالمي في هاتفك أن تشير إلى موقعك، متراكبًا على خريطة تقريبية للمضلعات المجردة؛ الخريطة التي تم تفريغها.

 

ثمة، بطبيعة الحال، استثناءات: يمكن أن تنفد بطارية هاتفك أو يتحطم أو يُسرق. ومع ذلك، سيكون أي شخص لا يحمل هاتفًا محمولًا عاملاً في الحقيقة جزءًا من أقلية صغيرة جداً. وتقدر الأبحاث التي أجراها مركز “بيو” للاستطلاعات بأن أكثر من 80 في المائة من الأميركيين يمتلكون هاتفًا ذكيًا، وترتفع النسبة إلى أكثر من 90 في المائة في من تقل أعمارهم عن 50 عامًا. وينظر الشخص العادي إلى هاتفه المحمول حوالي 150 مرة في اليوم -أي كل سبع دقائق من وقت اليقظة في المعدل. وتحتوي هواتفنا على صورنا، ومحادثاتنا، والجانب منا الذي ننشره وذلك الذي نفضل أن نبقيه مخفيًا -ونعم، موقعنا.

 

كل هذا يعني أن الضياع في المدينة أصبح تجربة تم القضاء عليها -في الغالب الأعم. وبهذا، لا أقصد أن تضيعَ قليلاً، كما يحدث عندما تتخطى شارعين في طريق كنت تعتقد أنه مألوف، أو حين لا تستطيع العثور على منفذ معين في مركز للتسوق. إن ما أعنيه هو أن تكون ضائعاً بشكل ميؤوس منه، بشكل مأساوي، مثلما يحدث عندما تغفو في الحافلة الليلية، وتفوتك محطتك ويتم إنزالك في نهاية الخط، وتُترك لتحدق في أسماء الشوارع غير المألوفة؛ أو مثلما تفقد اتجاهاتك عندما تخرج متعثراً من حفلة في جوف الليل. ويمكنك أن تقسم أنك قد مررتَ مسبقاً بشيء قريب من هذا -ألم تفعل؟

 

لهذه الإمكانية الجديدة لعدم ضياع المرء مزايا عديدة. بالنسبة للبعض، يصنع هذا شعوراً بسيطاً بالطمأنينة: كتب عالم الأنثروبولوجيا، فرانكو لا سيسلا، عن الخوف من الضياع، فقال إنه “يكون أحيانًا أقوى وأكثر رعباً من فعل الضياع نفسه، لأنه يعني أن تكون منجرفاً وتائهاً على غير هدى، مجرداً من أي شيء من الأمن المرتبط بالمألوف”. وهو، بالنسبة لآخرين، ذو أهمية حاسمة لسلامتهم: أن ينتهي الأمر بالمرء ثملاً في حي غير مألوف بحس من التهديد، حيث يسمَع جَرْس أصوات مختلفة، على سبيل المثال لأناس من الأقليات أو من النساء الذين يمكن أن تمثل له مدنهم مخاطر معينة.

 

ومع ذلك، إذا كنت آمنًا جسديًا، فإن هناك متعة خاصة تتأتى من كونك تائهاً في مدينة، قديمة كانت أو جديدة، حيث تكون باحثاً عن إلماحات حول المكان الذي تجبرك فيه الوجهة على مراقبة بيئتك عن كثب وبعناية أكبر، مفتشاً عن أدلة في الهندسة المعمارية المحيطة، ورافعاً من حدة حواسك. ويمكن أن يمنحك النظر حولك، إلى بيئتك -بدلاً من هاتفك- حساً أفضل بالمدينة، بالتحديد لأنه ذلك أقل فاعلية من امتلاك اتجاهات محددة بالضبط.

 

تستطيع المدينة الأميركية النموذجية، بشبكتها المرقمة من مقاطع المباني المربعة، حتى أن تكون حليفًا في البحث عن الاتجاهات. كان مخططو القرن التاسع عشر في العالم الجديد قد عملوا على ترشيد التصميم الحضري، ورسموا مخططاتهم الهندسية الصارمة مستندين إلى تقليد يعود إلى الإمبراطورية الرومانية. "في نيويورك لا تضيع أبدًا؛ تكفي نظرة سريعة حولك لتظهر لك أنك على ’الجانب الشرقي‘، عند زاوية ’شارع خمسون ثانية، ووليكسينغتون". هكذا كتب جان بول سارتر، ملخصًا انطباعاته عن الشبكة الشبيهة بورق الرسم البياني للشوارع في مانهاتن من خلال عدسة أوروبية.

 

على النقيض من ذلك، في أوروبا، تكون الشوارع الملتوية غير المرتبطة بنمط شامل واضح أكثر قابلية بكثير لأن يضيع فيها المرء. ويتطلب تحديد المرء موقعه غريزياً في شوارع تشبه العصور الوسطى، مسماة على اسم جنرالات ماتوا منذ زمن طويل، معرفة موسوعية بالمدينة المعنية، والتي لا يتم اكتسابها إلا من خلال خبرة طويلة أو دراسة مكثفة. ويعلق الراوي المراهق غير اللطيف في رواية حنيف قريشي، "بوذا الضواحي"، على الحس الضعيف بالاتجاه عند والده المولود في الهند والذي يعيش في جنوب لندن: "لقد تعرَّقت من الحرج عندما… سأل عن الاتجاهات إلى أماكن كانت على بعد مائة ياردة في منطقة عاش فيها ما يقرب من عقدين".

 

في الواقع، يُطلب من سائقي سيارات الأجرة في لندن اجتياز اختبار يسمى ببساطة "المعرفة"، والذي يتطلب حفظ كل شارع في لندن. وهو واحد من أكثر التمارين الفكرية قسوة والذي يستغرق إتقانه أعواما، وهو أيضًا مفارقة تاريخية كاملة.

 

كان التوجه لا إلى مكان على وجه الخصوص عند وصولي إلى مدينة جديدة هو طريقتي المفضلة في التعرف إلى المكان الجديد. عندما وصلت لأول مرة إلى تبليسي، جورجيا، أمضيت أسابيع في التمشي عبر الشوارع الضيقة المتبقية من زمن العظمة الإمبراطورية الروسية المتداعية، والتي تخفي وراءها الأفنية التي تتخللها حبال الغسيل المتشابكة والرجال المسنون الذين يلعبون الدومينو. وكنت أتوقف في المخابز الصغيرة وألتقط شريحة من "الخاشابوري" -كتلة الجبن والخبز التي تسد الشرايين، والتي تشكل الوجبة الخفيفة الجورجية المميزة- لوقود رحلتي إلى لا مكان محدّد على وجه الخصوص؛ لينتهي بي المطاف في كنيسة مدمرة، حيث اللبلاب يلعق الطوب الأحمر المتهالك.

 

في ظل الظروف المناسبة، يظل ضياع المرء إحدى أكثر الطرق إمتاعًا لاكتشاف الجوانب التي لا تُلاحظ بخلاف ذلك في المدينة. ويمكن أن يكون الضياع أيضًا مرعبًا وخطيرًا. وللأسباب الأخيرة، يجب أن نكون ممتنين لأن التجربة قُضي عليها عليها بالكامل. ولكنني، حتى مع ذلك، أتساءل عما إذا كنا قد فقدنا شيئًا للحكمة مطلقة المعرفة للهاتف الذكي.

 

*Ido Vock: هو مراسل دولي لمجلة “ذا نيو ستيتسمان”.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: What we lose when we no longer get lost