موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٩ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١
عظة غبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الرابع من الزمن العادي، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

يتحدث نص إنجيل اليوم (مرقس ١: ٢١- ٢٨)، بأسلوب القديس متى المقتضب، عن الخطوات الأولى لرسالة يسوع برفقة تلاميذه الأولين.

 

العنصر الأول الذي يجب ملاحظته، من بداية الإنجيل، أن يسوع لا يتحرك بمفرده، بل يرافقه التلاميذ دائمًا (لقد أتوا إلى كفرناحوم)، وهم في هذه الحالة التلاميذ الأربعة الذين سمعنا دعوتهم الأحد الماضي وهم أول الشهود.

  

يبدأ يسوع خدمته في الجليل، في المجامع المختلفة (اليوم في مجمع كفرناحوم)، أي في مراكز اجتماع الشعب، والأماكن التي يلتقي الناس فيها للصلاة وإعلان كلمة الله أو حيثما يجتمعون بكل بساطة. يكون يسوع حاضرًا حيثما يعيش الشعب في سياقات الحياة العادية، على خلاف الكتبة والفريسيين الذين تواجدوا في أوساط النخبة الخاصة بهم ولم يخالطوا عادة الشعب البسيط.

 

يبدأ يسوع بالتعليم (٢٢ و٢٧) ويقوم بذلك بسلطان يُثير الإعجاب (آية ٢٢) الممزوج بالخوف (آية ٢٧)، على خلاف الكتبة.

 

يرى الحاضرون فيه سلطانًا، يختلف عن ذلك الذي يمارسه الكتبة، وتعليمًا جديدًا: "ما هذا؟ إنه لتعليم جديد يلقى بسلطان!" (مرقس ١: ٢٧). وعليه فإن المستمعين ينبهرون بسلطان يسوع.

 

ما معنى هذا السلطان؟ وما مصدره؟ متى يكون التعليم ذا سلطان؟ حينما لا يتوقّف يسوع عند تعليم الشريعة وتفسيرها وحسب؛ كما أنّه لا يتحدّث عن شيء ما خارج ذاته، بل يتحدّث عمّا هو له وعمّا يخصّه، ذلك أن الملكوت يتحقق في يسوع.

 

ثمة اختلاف عندما يتحدّث شخص ما عن أمور سمع عنها، أو حتّى عن أمور تعلّمها أو، بدلاً من ذلك، عندما يتحدّث عن نفسه وما يهتم به وما يمثل جزءًا من حياته.

 

أما السبب الثاني لهذا السلطان فيشير إليه سُكان كفرناحوم أنفسهم: "حتّى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه” (مرقس ١: ٢٧). إنّ تعليم يسوع ذا سلطان لأنّه تعليم مُحرِّر. سوف يُوبّخ يسوع الكتبة والفرّيسيّين، مراراً وتكراراً في الإنجيل، لكون تعليمهم قمعيّ ويُلقي أحمالاً ثقيلة على أكتاف الناس. بينما تعليمه ليس كذلك، بل يُحرّر ويُعزّز ويُعيد الكرامة، ويُعيد الأمور إلى أصلها.

 

إنّ تعليمه جديد. ليس لأنّه يقول أشياءً جديدة وحسب، بل لأنّه يُحوّل الحياة، ويجعلها جديدة.

 

إنّه لا يزيد معرفة مستمعيه بإضافة معرفة أخرى، بل إنّه يُفعّل التوبة والارتداد.

 

ومع ذلك، فإنّ هذا التعليم هو دمار بالنسبة للبعض (مرقس ١: ٢٤). إنّه دمار لأولئك الّذين يقهرون الإنسان ويقمعونه، ويُحطّون من قيمته، مثل الروح النجس الّذي كان مُستولياً على الرجل الموجود في المجمع. إنّه دمار حتّى بالنسبة لأولئك الّذين يرفضون الدخول في ديناميكيّة التغيير والتحوّل الّتي ينشرها يسوع. إنّه دمار لأولئك الّذين يرون سلطتهم وقوّتهم مُهدّدتين.

 

ومن المهم أن نلاحظ أن الروح النجس لا يقول أي شيء خاطئ، أو أيّ شيء غير مستقيم، ولكنّه يعلن هويّة يسوع بشكل صحيح، بأنّه حقّاً “قدّوس الله” (مرقس ١: ٢٤).

 

بالنسبة لإعلان الإيمان الذي يقوم به الروح النجس، فإن ما ينقص هو الإيمان ذاته، وهو التواضع اللازم لقبوله كقدّوس الله. يشعر الروح النجس أنّ يسوع عقبة، عقبة أمام سلطته على الإنسان، ولا يريد أن يكون له أيّ صلة به (مرقس ١: ٢٤).

 

إن ما ينقص هذا الإقرار، قبل كل شيء، هو الصليب: سوف يكون الإقرار “حقيقيّاً” فقط تحت الصليب، كما سوف يفعل قائد المائة عندما يرى يسوع يموت: “كان هذا الرجل حقّاً ابن الله” (مرقس ١٥: ٣٩).

 

نجد في هذا المقطع القصير جميع المواضيع التي تتكرر في الإنجيل، ربما بأسلوب مختلف، والتي تمثل اليوم نواة رسالة الكنيسة. يلتقي يسوع وتلاميذه الناس حيثما كانوا فهو يذهب إليهم، ويُعلّم بسلطان شخص يَعلم أنه مكرّس من الله. ويغيّر تعليمه حياة الذين يرحبون به. ذلك أن هذا التعليم يَشفي ويُحرر. يولّد تعليمه وأفعاله الإعجاب والخوف فضلًا عن النبذ والمعارضة. في الحقيقة، سيحاول الشيطان أن يعرقل مجيء الملكوت حتى اللحظة التي سيُعلّق فيها يسوع على الصليب، متحديًا وساخرًا لآخر مرة من شرعية سلطانه. إلا أننا نعلم أن يسوع، وهو على الصليب، قد حقق الشفاء الذي بدأه في المجمع.