موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٦ مايو / أيار ٢٠٢١
تأملات البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: عيد الثالوث الأقدس، السنة ب

بطريرك القدس للاتين :

 

في تأملنا لإنجيل عيد الثالوث الأقدس، سنتوقف عند كلمتين صغيرتين.

 

الكلمة الأولى هي حرف “الباء“، ونجدها في الآية ١٩: ” عمّدوهم باسم الآب…“

 

أما الكلمة الثانية فهي “مع” الظرفية، ونجدها في نهاية النص، في الآية ٢٠: “هاءنذا معكم…“

 

بهاتين الكلمتين نبدأ احتفال اليوم، ساعين عبرهما إلى التأمل في الحياة الجديدة التي جاء بها يسوع إلى الأرض، والتي كانت قبل كل ذلك داخل علاقات الثالوث الأقدس.

 

يلتقي يسوع بتلاميذه في الجليل بعد قيامته، ويتركهم هناك لكي يعود إلى مجد الآب. ولكنه لا يقوم بذلك إلا بعد أن يأتمنهم على رسالة جديدة تماماً: “اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم باسم الآب والابن والروحِ القُدُس” (متى ٢٨: ١٨– ١٩).

 

يحمل هذا الإرسال طابعاً محيّراً: يقف أمام يسوع ١١ تلميذاً بسيطاً، معظمهم أميّون، إلا أنه يرسلهم إلى جميع أنحاء العالم لإعلان الإيمان للبشر أجمعين. هنالك تفاوت واضح بين فقر المرسلين وعظمة الرسالة.

 

ولا تكمن المفارقة هنا فقط.

 

الأمر المحيّر هنا هو أن هذا الإيمان الجديد ليس منظومة أخلاقية جديدة ولا قانوناً جديداً يجب الامتثال له، بل اندماج الانسان (هذا ما يعنيه التعميد) في حياة الآخر، في حياة الله.

 

ما معنى ذلك؟

 

في الزمن الفصحي، الذي انتهى بالعنصرة، قرأنا الفصول ١٥– ١٧ من إنجيل يوحنا، حيث استعمل يسوع مرة بعد مرة، صورة العيش في الآخر: الغصن في الكرمة، ويسوع في الآب ونحن فيه.

 

الحياة القديمة هي الحياة التي يبقى فيها كل شخص متقوقعا وراء عزلته وأنانيّته؛ صحيح أن هذه الحياة تتيح للإنسان القيام بأمور حسنة والتحلي بحدس عميق إلا أنه يبقى في حدود “الأنا“.

 

أما الحياة الجديدة فهي العيش بعضنا في بعض عيشًا يخلق شعوراً بانتماء، عيش مشترك وعميق لا نستطيع بعده أن نعيش بدون الآخر، بل تصبح حياتنا هي نفسها حياة الآخر.

 

بالنسبة لنا قد تكون هذه الصورة بعيدة المنال، ذلك لأننا معتادون، بحسب خبرتنا، على العيش متجاورين، إن لم يكن متخاصمين.

 

إلا أن العماد يدمجنا في هذه الخبرة الجديدة تماماً، خبرة لا نقدر أن نخوضها بأنفسنا: هي ثمرة الفصح، هي أمر جديد يحققه الروح القدس فينا باعتبارنا خليقة جديدة. إنها خبرة إعادة اكتشاف أنفسنا فقط عبر علاقتنا مع الآخر.

 

ما سبق لا يفسّر العمق المحيّر لهذه الآية. فالحياة التي من الممكن أن ينخرط فيها الناس هي علاقة الأقانيم الثلاثة، أي المحبة التي بها يحبّون بعضهم بعضًا.

 

ستقوم الحياة الجديدة على انخراطنا في هذه المحبة وهذه الحياة. تقوم على العيش في مساحتهم ومحبّتهم وأفكارهم وفيهم، العيش في زخم علاقة الآب والابن والروح القدس.

 

سنتكلم الآن عن الكلمة الثانية وهي كلمة ” مع“.

 

إن الحياة الجديدة، التي سننخرط فيها، هي حياة “مع“.

 

“مع” كلمة ظرفية تسبق كلمات تدلّ على الرفقة والاتحاد والشراكة. كما تدلّ على أسلوب حياة لا يكون فيها الإنسان وحيداً.

 

إن الحياة التي اندمجنا فيها ونعيشها هي حياة شركة ومحبّة.

 

يرفض الله أن يكون منفصلاً، لذا يختار دائماً الوحدة.

 

إنه يعيش الوحدة في إطار علاقاته داخل ذاته كما يعيشها خارج ذاته، مع الخليقة، التي يبقى متحداً بها بأي ثمن.

إن سر التجسد هو ثمرة هذا الأسلوب، ونابع من طبيعة كيان الله، الذي يريد دائما أن يبقى معنا.

 

كذلك الأمر مع حلول الروح القدس في العنصرة: هي الوسيلة الوحيدة الممكنة لله كي يبقى معنا.

 

وعندما يجري تعميدنا، ننخرط في هذه الحياة الجديدة. ننالها كهبة يوم عمادنا. ينبغي على هذه الهبة بعد ذلك أن تثمر في حياتنا من خلال “العنصرات” الكثيرة التي نعيشها.

 

الأمر الوحيد المطلوب منا رفضه هو فهم الحياة وكأنها سعيٌ مستمر إلى السيطرة على الغير والدفاع عن النفس والمحافظة على حدود “الأنا“، كأمر مطلق.

 

كل ذلك يكرّسنا في الوحدة والمحبّة. وتلك هي الحياة الحقيقية.