موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ مارس / آذار ٢٠٢١
تأملات البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الثالث للزمن الأربعيني، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين :

 

لقد بدأنا الزمن الأربعيني مع إنجيل القديس مرقس. ومنذ اليوم وحتى أحد الشعانين، سنبدأ قراءة إنجيل القديس يوحنا. يسرد نص إنجيل اليوم (يوحنا ٢: ١٣– ٢٥) قصة دخول يسوع إلى الهيكل وطرده للباعة والصيارفة. من أجل أن نحسن فهم هذا النص، لنبدأ من بعيد.

 

كل إنجيلي يبدأ سرده بحدث يقلب الأمور رأساً على عقب، وبكلمات قادرة على التعبير عما هو جديد وثوري في التاريخ.

 

يستعمل جميع الإنجيليين في سردهم بعض العناصر المشتركة والأساسية التي يمكن أن نلخصها بالتالي: لقد تم ما جاء في الكتب المقدسة، وقد بدأ زمن خلاص جديد لجميع المحتاجين. من أجل دخول هذا الملكوت كلّ ما على الإنسان فعله هو الاهتداء وترك الأسلوب القديم في عيش العلاقة مع الله، والانفتاح على نموذج علاقة جديد معه.

 

في إنجيل القديس متى على سبيل المثال، وبعد روايته لقصص الطفولة حيث يسجد الوثنيون للمسيح المنتظر، يبدأ الإنجيلي حياة يسوع العلنية بعظة الجبل الرائعة: إنها حصيلة الجديد في الحياة والذي يمكن أن يختبره كل من يُدعى إلى الملكوت من تلك اللحظة وصاعداً.

 

يكتب القديس مرقس أن المسيح سكن وسط البشر مؤكداً أن الله قد أصبح قريباً منا.

 

يروي القديس لوقا أيضاً أحداث ميلاد يسوع. من خلال “تُعظّم نَفسي الرَب” تلفظ العذراء مريم العبارة التي قلبت التاريخ رأساً على عقب، من منظور العذراء نفسها: “حطَّ الأقوِياءَ عنِ العُروش ورَفَعَ الوُضَعاء” (لوقا ١: ٥٢). بعد عمّاد يسوع وتجاربه، يبدأ رسالته في الناصرة، حيث يدخل مجمعاً يوم السبت ويلقي خطاباً يدل على برنامج عمله، فسرعان ما قوبلت كلماته بالعدوانية والعنف. في هذا الخطاب يقول يسوع أن سنة رضى ورحمة قد بدأت لأفقر الناس في التاريخ.

 

في إنجيل القديس يوحنا، يأخذ الانقلاب شكلاً ملموساً بحادثة “تطهير” الهيكل. يروي باقي الإنجيليين هذه الحادثة في نهاية أناجيلهم أي بعد دخول يسوع المهيب إلى القدس، بينما يضعها القديس يوحنا في البداية.

 

بعد لقائه مع يوحنا المعمدان واختياره للتلاميذ الأوائل، يبدأ يسوع رسالته في مكانين جوهريين: الأول في قانا حيث يجري عرس في بيت ما والثاني في هيكل القدس.

 

في قانا، يكثّر يسوع النبيذ الجديد إيذانا بعهد جديد حانت ساعته. في الهيكل، يقوم يسوع بعمل هام ورمزي: يؤكد أن العبادة بالمال لا ترضى الله إذ هي عبادة أوثان. ويعتبر يسوع عبادة أوثان كلّ علاقة مع الله يعتقد خلالها الإنسان أنه بإمكانه الحصول على الخلاص عبر المال أو أية تقدمة أخرى.

 

يقول يسوع أن وقت “التجارة” مع الله وما ينطوي على ذلك النوع من العبادة قد انتهى، وأن أسلوباً جديداً من عيش الإيمان قد بدأ. لقد تم الانقلاب على غرار قلب طاولات الصيارفة (يوحنا ٢: ١٥).

 

يمثل الانقلاب أيضاً العلاقة بين المقدّس والدنيوي وكذلك بين الصورة المحرفة عن الله ومعاني العبادة والتضحية والهيكل والتي يردّها يسوع إلى بُعدها الأساسي ألا وهي المجانية.

 

إن ما قام به يسوع يذكّرنا بالآية الأخيرة في سفر النبي زخريا وما سيجري في الأوقات المسيحانية إذ لن “يكون من بعدُ تاجِرٌ في بَيتِ رَبِّ القُوّاتِ في ذلك اليَوم” (زخريا ١٤: ٢١). لا عجب أن رؤساء الشعب كانوا قد طلبوا من يسوع علامة (يوحنا ٢: ١٨) ليبرّر أمامهم شرعيّة تصرفه المشين.

 

ما الأمر الذي يعطي الشرعية لادعاء يسوع بدء زمن جديد؟ يجيب يسوع مشيرا إلى آلامه التي ستتمّم ما عمِلَه اليوم. وسيكون جسده العظيم، والذي أقيم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام (يوحنا ٢: ١٩)، الهيكل الجديد ومكان اللقاء الجديد بين الله والإنسان، بين الله وكل إنسان.

 

لا عجب أن رؤساء الشعب والفريسيين لم يفهموا شيئاً، وكذلك التلاميذ. وعليه تبدأ هنا سلسلة من حالات سوء الفهم تستمر في إنجيل يوحنا. إن حقيقة عدم فهمهم لا تعني أن خطاب يسوع لا فائدة منه. يتوقع القديس يوحنا مسبقاً أن قيامة يسوع ستُذكّر التلاميذ بكلماته وأفعاله وسيؤمنون لاحقا.

 

ستكون قيامة يسوع الحدث الأساسي الذي سيساعد التلاميذ على الفهم. سيذكرهم الروح القدس، بأسلوب جديد، جميع الأشياء الذي قالها لهم يسوع (يوحنا ١٤: ٢٦).

 

إن مسيرة الصوم أصبحت تمثل تحدّياً، ليس بمعنى أننا مطالبون بالقيام بأمر إضافي، بل بالأحرى أن نترك المجال للرب بالتحكم بهذا الانقلاب داخلنا تماماً كما فعل بطاولات الباعة في هيكل القدس.