موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٨ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١
تأملات البطريرك بيتسابالا: عمّاد الرب يسوع، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

نجد في رواية عمّاد يسوع وفقا للقديس مرقس اختلافات ملحوظة مقارنةً مع الإنجيليَّيْن الإزائيّين الآخرين. في بشارتيّ متّى ولوقا نجد أن رواية ميلاد يسوع تسبق عمّاده، وتُقدّم باختصار صورته قبل أن يدخل مسرح الحياة. لا يحدث ذلك في بشارة مرقس، بل يدخل يسوع المشهد مباشرة، مع حدث العمّاد.

 

يدخل المشهد، ولا يبدو أنّ أحدًا يلاحظ وجوده: فهو واحد من الآخرين، واحد بين كثيرين (مرقس ١٥) يندفعون نحو المعمدان للاعتماد، إلى حدّ أن أحدًا لم يلاحظه، ولا حتّى يوحنّا، الّذي كان ينتظره ويتحدّث عنه. وبالتالي فإنّ الحوار الّذي يُسلّط الإنجيليّون الإزائيّون الضوء عليه مفقود هنا، وهو الحوار الّذي يُعبّر فيه المعمدان عن حيرته أمام قبول يسوع في طقوسه العمّاديّة.

 

كما هو الحال لدى الإزائيّين الآخرين، يُرافق العمّاد هنا ظهور رسمي للربّ: يرى الآب الابن منخرطا تماماً في خبرة بشريّة، ويُعلن عن رضاه الكامل عنه. ولكن حتّى هنا، خلافا للإزائيّين الآخرين، الشخص الوحيد الّذي يُلاحظ هذا الحدث هو يسوع نفسه: هو وحده يرى السماوات مفتوحة ويسمع صوت الآب (مرقس ١: ١٠). ولكن هناك اختلافا آخر.

 

في متّى ولوقا نقرأ عبارة "تنفتح السماوات" بينما يستخدم مرقس عبارة أخرى هي "تنشقّ السماوات". وكلمة "تنشقّ" أقوى من "تنفتح" لأنها تدل على تمزق أكبر لا يمكن إصلاحه. وهذا التعبير (skizo) يتكرّر ذكره في مرقس مرّة واحدة فقط، في مقطع مهمّ. عند موت يسوع، ينشق حجاب الهيكل إلى شطرين (مرقس ١٥، ٣٨) من أعلى إلى أسفل.

 

ماذا يمكن أن نفهم من هذه المقاربة؟ كان حجاب الهيكل يُشير إلى حدود المنطقة المقدّسة، الّتي لا يمكن لأيّ أحد أن يدخلها. كانت مكان وجود الربّ. الحجاب هو رمز الفصل بين الأرض والسماء، بين الربّ والإنسان وبين المقدّس والنجس.

 

إنّ حجاب السماء هو الذي ينشقّ هنا. وهذا هو الخبر السارّ (مرقس ١، ١)، الّذي جاء يسوع به. اعتبارًا من اليوم، وبهذه المبادرة المتواضعة، الّتي يختار الربّ فيها مشاركة ضعفنا نحن الموسومين بالخطيئة، يحدث "شقّ" وتجري عمليّة ولادة. عالم ينتهي ويبدأ مخاض عالم آخر. شيء جديد يبدأ، ونحن لا نعرف عنه أيّ شيء بعد، غير أنّ السماء سوف تتّحد بالأرض، وسوف يتّحد الربّ بالإنسان.

 

وهذا "الشقّ" سوف يكتمل على الصليب، حين يأخذ الربّ لعنتنا على عاتقه، ليعطينا حياته بالمقابل: وهناك، بالتأكيد، سوف يتحطّم كلّ حاجز، وسوف تكون السماء والأرض شيئًا واحدًا حقًّا. هذا "الشقّ"، إذًا، هو العنصر الأوّل الّذي يربط المعموديّة بالصليب. ولكنّه ليس العنصر الوحيد.

 

"المعموديّة" هي اسم يُطلقه يسوع على آلامه، ويتحدّث عنه في ردّه على ابنيّ زبدى (مرقس ١٠، ٣٨- ٣٩)، الّلذين يطلبان منه المشاركة في مجده: هذه المعموديّة، الّتي، في الوقت الراهن، كان يسوع على وشك عبورها، هي الممرّ الّذي ينتظر الجميع. هي الباب الّذي يجب أن يعبره كلّ من يرغب في الدخول إلى الحياة الجديدة، في المجد.

 

وعلاوة على ذلك، هناك حضور للروح القدس، سواء كان في العمّاد أو على الصليب. هنا، في العمّاد، ينزل الروح على شكل حمامة (مرقس ١، ١٠)؛ وعلى الصليب يسلّمه يسوع للجميع، عندما “يلفظ الروح” (مرقس ١٥، ٣٧). والروح القدس هو، على وجه التحديد، الحياة الجديدة الّتي تنشأ من “الشقّ“. ويمكنه، من خلال “الشق“، أن ينتشر وأن يوحّد من جديد: حياة واحدة، حياة الربّ، تدور الآن بين الربّ والإنسان، كما هو الحال بين الكرمة والأغصان (راجع يوحنّا ١٥).

 

هناك، في الختام، عنصرٌ مشترك أخيرٌ. بعد "الشقّ" يتمّ إعلان رسميّ أن يسوع هو "ابن الله". الآب هنا هو الّذي يفعل ذلك. عند صليب يسوع سيعلن ذلك قائد مائة وثنيّ (مرقس ٣٩، ١٥). يبدو أنه ممكن التعرّف على الربّ على وجه التحديد من قدرته على شقّ السماوات والحجب، وإعطاء الروح. وها إن الأرض والسماء تعترفان به من خلال هذه العلامة، كما لو كانت السماء والأرض لا تتجّهان نحو شيء سوى نحو هذه الوحدة العميقة. يُقرّ الآب بكون يسوع ابنه، وهكذا يفعل أيضا قائد المائة، هذا الانسان الوثنيّ، البعيد. لماذا؟ لإن الشخص الّذي يشقّ السماء لا يمكن أن يكون سوى ابن الإله.

 

كلّ هذا، كما قلنا، لا يستوعبه سوى يسوع.

 

قد يكون هذا الظهور الإلهي قويًّا جدًّا ومُبهِرًا جدًّا بالنسبة للآخرين مثلما كان تجلي الربّ على جبل سيناء؛ ويلزمنا كلّ الوقت وكلّ مسيرة الإنجيل كي نكون قادرين على الدخول في هذا الخلق الجديد حيث السماء والأرض قريبتان ومتواصلتان مرّة أخرى.

 

إنّ عمّاد يسوع هو إعلان إعادة الوحدة بين السماء والأرض، بين الإله والإنسان، بين الخالق والمخلوق. وهذه الوحدة يصنعها الربّ نفسه، الّذي صار طفلاً، وظهر للرعاة وللعالم بأسره. واليوم يتسلَّم أوراق اعتماده ويقبل رسالته الخلاصيّة ويستعد للقيام بها. وسوف تقوده هذه الرسالة من نهر الأردن إلى أورشليم، حيث سوف تتجلّى محبّة الربّ دون حواجز أو حُجُب.