موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الجمعة، ١٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥
بين تركيا ولبنان: البابا لاون بين أطلال مسيحية تتلاشى وجذور تُصارع للبقاء
مقال لـ ألبيرتو فرنانديز - دبلوماسي أمريكي سابق وصحفي

ترجمة موقع أبونا :

 

ستكون أول رحلة خارجية للبابا لاون الرابع عشر إلى بلدين عريقين وتاريخيين، ينتميان معًا إلى أرض الكتاب المقدّس ومهد الكنيسة الأولى. ومع ذلك، فإنّ تركيا ولبنان يجمعهما تاريخ صعب، ويفرّق بينهما حاضر مليء بالتباينات الحادّة.

 

حكمت تركيا العثمانية ما يُعرف اليوم بلبنان لأكثر من أربعة قرون، إلى أن انتهى حكمها لجبل لبنان عام 1918، وسط مجاعة الحرب التي أودت بحياة مئات الآلاف، معظمهم من المسيحيين الموارنة.

 

تركيا اليوم قوّة متوسطة صاعدة ونشطة، تبسط نفوذها بشكل ملحوظ، ولا سيّما في إفريقيا وآسيا الوسطى. وهي عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتلعب دور الوسيط في نزاعات عدّة، فيما تتدخّل في نزاعات أخرى. ويُنظر إلى رئيسها رجب طيب أردوغان بصفته قائدًا ذا رؤية ونفوذ، وفي الوقت نفسه حاكمًا استبداديًا متشدّدًا تجاه المعارضة الداخلية.

 

عندما زار البابا بولس السادس تركيا عام 1967 -وكان أوّل بابا يقوم بهذه الزيارة- أحضر معه بعض الرايات العثمانية التي غنمها المسيحيون في معركة ليبانتو الشهيرة، وأعادها إلى الأتراك كبادرة مصالحة. لكن تركيا في عهد أردوغان فهي قوّة ذات نزعة إسلامية، تفخر بماضيها الإمبراطوري وتسعى إلى نشر نفوذها الديني عالميًا.

 

وفي حين تقيّد هيئة الشؤون الدينية التركية الرسميّة "ديانت" النشاط المسيحي، وتحوّل، ليس كنيسة بيزنطية تاريخية واحدة، بل عدّة كنائس إلى مساجد، فإنها تستفيد من الحريات في الغرب، فتموّل وتدير مئات المساجد هناك، ومن بينها مسجد ضخم على الطراز العثماني في ضواحي ماريلاند قرب واشنطن. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية ستستقبل البابا بحفاوة، فإنّ المشاعر المعادية للمسيحية –وكذلك للسامية والغرب- تبقى واسعة الانتشار في تركيا أردوغان، وغالبًا ما يغذّيها أصحاب السلطة.

 

عدد المسيحيين في تركيا ضئيل للغاية، لا يتجاوز بضع مئات الآلاف، أي أقل من 0.5% من سكان البلاد البالغ عددهم 87 مليون نسمة. في عام 1915، كانت نسبة المسيحيين في الأناضول، البر الآسيوي الرئيسي لتركيا الحديثة، حوالي 20%، لكنّ هذا العدد اختفى.

 

فخلال الحرب العالمية الأولى، قُتل مئات الآلاف من المسيحيين في الأناضول على يد العثمانيين - وهي المجازر التي يدينها العالم اليوم باعتبارها إبادة للأرمن والسريان واليونانيين، بينما لا تزال الحكومة التركية تنكرها. وسيلتقي البابا لاون قادة المجتمعات المسيحية الصغيرة المتبقية من اليونانيين والأرمن والسريان في إسطنبول، بما في ذلك زيارته لكنيسة مار أفرام السريانية الأرثوذكسية، وهي الكنيسة الجديدة الوحيدة (افتتحت عام 2023) التي بُنيت في تركيا منذ أكثر من مئة عام.

 

وعندما يزور البابا لاون الرابع عشر الجامع الأزرق الشهير في حي السلطان أحمد بإسطنبول، سيقع نظره على مقربة منه على مسجد آيا صوفيا، الذي كان لقرون أكبر كنيسة في العالم المسيحي تحت اسم "آيا صوفيا" (كاتدرائية الحكمة الإلهية)، وقد كان متحفًا قبل أن يُعاد تحويله إلى مسجد عام 2020 في خطوة واضحة ذات طابع قومي إسلامي شعبوي.

 

كانت آيا صوفيا يومًا، إلى حد ما، أشبه بـ"بازيليك كاثوليكية"، إذ إنّ بطريركية القسطنطينية كانت في اتحاد كامل مع روما عند سقوط المدينة عام 1453، نتيجة مقررات مجمع فلورنسا. كما كان آخر إمبراطورين بيزنطيين في شركة كاملة مع روما. وكان أول قرارات محمد الفاتح بعد انتصاره هو تعيين بطريرك أرثوذكسي يوناني جديد معارض للوحدة مع روما.

 

لن يزور البابا آيا صوفيا، على الأرجح احترامًا للأرثوذكس. ففي عام 1967، قيل إنّ البابا بولس السادس ارتكب هفوة دبلوماسية عندما صلّى أثناء زيارته للكنيسة التي حُولّت آنذاك إلى مسجد ومتحف. لقد كانت تلك أول صلاة كاثوليكية علنية في ذلك المكان المقدّس منذ أكثر من خمسة قرون.

 

وعندما يزور البابا مدينة إزنيق (نيقية القديمة) لإحياء الذكرى الـ1700 للمجمع المسكوني الذي عُقد هناك، لن يعقد لقاءً في المكان الذي عقد فيه المجمع فعليًا. لا يستطيع. سيكون ذلك في كنيسة آيا صوفيا في إزنيق، التي حُوّلت أيضًا إلى مسجد منذ عام 2011. لا توجد في المدينة اليوم جماعة مسيحية حقيقية.

 

وإن كانت تركيا دولة ديناميكية ومتنامية، وتكاد تكون خالية من المسيحيين، فإنّ لبنان هو النقيض تمامًا. فالبلاد عانت، ولا تزال، من أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، ويهجرها جزء كبير من شبابها، بمن فيهم المسيحيون. البلاد تحتضر جراء الإهمال السياسي، وتعاني من التضخم والبطالة والجريمة والحرب. وبشكل غير رسمي (لا يوجد إحصاء رسمي)، ما يزال المسيحيون يشكّلون نحو ثلث سكان لبنان البالغ عددهم حوالي 6 ملايين نسمة.

 

وفي حين أن البصمة المسيحية في تركيا غالبًا ما تنتمي إلى الماضي، أثريًا أو تاريخيًا، فإنّ لبنان ما يزال يحتضن كل العناصر التي تُشكل وجودًا مسيحيًا حيويًا ونابضًا بالحياة - وخاصةً الموارنة. فالمسيحيون ما يزالون يشغلون نصف مقاعد البرلمان، ويتولّون مناصب حكومية أساسية، من بينها رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش اللبناني، ولا يزال تأثيرهم واضحًا في المجتمع اللبناني.

 

وإذا كانت تركيا لا تضم سوى بقايا مسيحية ضئيلة، فإنّ المجتمع المسيحي في لبنان لا يزال كبيرًا وفاعلاً – وإن كان مهدّدًا بشدة بالظروف القائمة. فما تزال هناك بلدات وقرى كثيرة ذات غالبية مسيحية شبه كاملة، كما أنّ جزءًا كبيرًا من منطقة جبل لبنان الممتدة من شرق بيروت إلى الجبال المحاذية لمدينة طرابلس شمالاً يبقى ذا غالبية مسيحية. هذا الحزام هو آخر ما تبقّى من "القلب" المسيحي في غرب آسيا.

 

لبنان، إلى حد ما، يشبه تركيا قبل عام 1915، بلد يضمّ عددًا كبيرًا من المسيحيين، لكنّهم معرّضون لخطر التراجع وربما الزوال. رغم أنّ أحدًا لا يتوقع حصول مجازر بحق المسيحيين في لبنان، إلا أن الخطر يكمن في أن تؤدي الأزمة الاقتصادية والتضخّم وانعدام الأمن إلى اندثار مجتمع مسيحيّ عريق بطريقة مختلفة، ولكن مؤلمة بالقدر نفسه.

 

سيلتقي البابا لاون بالإسلام وينخرط في حوار بين الأديان في كلا البلدين. غير أنّ لقاءه مع المسيحيين سيكون مختلفًا: ففي تركيا، يسعى البابا إلى نفخ الروح في جمرٍ يكاد ينطفىء، بينما يسعى في لبنان إلى ضمان بقاء شجرةٍ حيةٍ ضاربةٍ في جذورها، لكنها تتعرّض اليوم لرياح عاتية.