موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٤ أغسطس / آب ٢٠٢٢
انطاكية تجمعنا

الأب الياس كرم :

 

أنطاكية ليست جغرافيا، أنطاكية قلوب خاشعة وإيمانٌ راسخ. هذا التمسته من جديد عندما زرت مؤخرًا بعض الأماكن الدينيّة المسيحيّة في سوريا. صلّيت مع الإخوة وأضأنا شموعًا ورفعنا الدعاء إلى الله أن يرسل مراحمه الغنيّة على شعبينا.

 

لفتني في هذه الزيارة بعض الإنطباعات، أبرزها قوّة الإيمان عند الشعب، ومحبّة بلدهم. هذا الشعب الذي يعاني منذ سنوات حربًا خارجيّة شرسة، لا يزال يكافح على كافة الصعد والمستويات، متخطّيًا الصعاب الجمّة، الأمر الذي انعكس سلبًا على معيشة الشعب، وأدخله في تقشّف وحرمان كبيرين من أبسط سبل الحياة، هذا واقع نفهمه لأنّنا نعيش أزمة مماثلة، مع حرب من نوع آخر. لكنّ إيمان الشعب، ولا سيما الجماعة والأماكن التي زرتها، دفعني إلى شكر الله على صمودهم وتحمّلهم مع باقي أبناء بلدهم، في مواجهة صعوبة الحياة، لأنهم مؤمنون بربّهم وبأرضهم.

 

حجّ اللبنانيون وغيرهم إلى دير صيدنايا ودير مار تقلا في معلولا، كما دير القدّيس جاورجيوس-الحميراء، في وادي النصارى، وأماكن أخرى دينية متعدّدة، هو تقليد قديم يطول الكلام عنه، لأهميّة وتاريخ هذه المواقع الدينية المسيحية، وما تمثّل وترمز في وجدانهم. فهذه المواقع الدينية الأثرية حمت نفسها، بشفاعة أصحاب المقام، من نتائج الحرب، التي لم تنتهِ مفاعيلها لتاريخه. في إحدى الكنائس الأثريّة والعجائبية، التي تحمل شفاعة العذراء مريم، في ناحية طرطوس، كان لي أن أشهد على بعض من الإحتفالات بعيد رقاد العذراء مريم، حيث طاف المؤمنون والكهنة بأيقونتها، بعد القدّاس الإلهي، فملأوا ساحات الكنيسة، مردّدين الابتهالات إلى مريم العذراء، من أجل نجاة بلدهم، والعالم أجمع، من كل الشدائد والضّيقات.

 

من جملة المشاهدات والإنطباعات أيضًا، رغم كل الظروف الصعبة، هو حفاظ هذا الشعب على حسن الإستقبال واللياقة والتواضع، مع الإحترام المطلق للضيف وللتنّوع الموجود في هذا البلد، فالأوضاع المعيشيّة والأمنيّة لم تغيّر في نفسيتهم، وبقوا حريصين على كل أنواع التهذيب والترتيب في التعاطي مع بعضهم البعض. هذا بالإجمال.

 

أمّا أبرز إنطباع لفتني وسرّني، فهو إلتزام الشبيبة بالكنائس والتعمّق بالإيمان والمعرفة الدينية، من خلال مدارس الأحد، التي تتنوّع نشاطاتهم، بين أمور روحية وكنسية واجتماعية وثقافية، وحتى رياضية. وقد صدف أن مررت بمخيم كنسي يضم حوالي مئة ولد، محاطين بعدد لا بأس به من المسؤولين والمرّشدين الكبار، فوجدت عندهم الحماس المطلق للعمل البشاري، دون تعب أو تأفف، تجمعهم روح النهضة مع شبيبة أرثوذكسية في لبنان. هؤلاء الشباب مع باقي أبناء الرعايا، يقدّمون الإحترام لكهنتهم، الذين بات عدد المتخرّجين منهم، من معهد القدّيس يوحنا الدمشقي في البلمند، على ازدياد، وقد سجّلوا فرقًا في العمل الرعائي والبشاري.

 

لا تدخل ديرًا أم كنيسة إلا وتسمع بالعجائب التي تحصل في هذه الأماكن. لكن تبقى العجيبة الكبرى، في محبّة الناس لبلدهم وكنيستهم وأرضهم، ولروح الخدمة، وعدم الشعور باليأس والإحباط والإستسلام رغم كل ما عانوه ويعانونه. محبة بلدهم من المقدّسات، كما محبة الشعب والإحترام لكل حامل للهوية اللبنانية من المسلّمات.

 

نعم إنطاكية تجّمعنا، فالكنيسة الأرثوذكسية في لبنان وسوريا، وامتدادًا إلى الخليج، تنضوي تحت لواء بطريركية إنطاكية وسائر المشرق، التي يقود لواءها اليوم البطريرك يوحنّا العاشر يازجي، حاملاً همّ شعبه في سوريا ولبنان تحديدًا، وفي كافّة أماكن انتشار الكنيسة الإنطاكية، في ظروف صعبة ومعقّدة، وقد دفع شخصيًا، ثمن الحرب، مع أبرشية حلب، منذ بداية الأزمة في سوريا، إختطاف شقيقه متروبوليت حلب المطران بولس اليازجي، مع مطران السريان يوحنا ابراهيم، إلى كهنة آخرين وعدد من أبناء الرعايا.

 

رغم كلّ ما مرّ علينا من أزمات بين البلدين، هناك أمور كثيرة تجمعنا، من وحدة الإيمان والعادات والتقاليد الدينية والإجتماعية والمصاهرة والقربى العائلية، ومحبتنا للحياة وللوطن الذي ننتمي إليه، وقد لمست لمس اليد حبّ الناس للحياة، من خلال السهر والرحلات الداخلية وطلب العلم بقوة، رغم ظروفهم الصعبة، دون أن أنسى زيارة المغتربين السوريين لأهلهم وبلدهم، فالإنتماء إلى الضيع والبلدات مقدّس، وتكريم الأهل واحترامهم من المسلّمات.

 

تعود من سوريا بانطباع جميل، وفرح كبير لصمود الشعب وإيمانهم الصادق والطيّب، كما أن حُسن الضيافة، رغم صعوبة الحياة والخدمات، تشجّعك على العودة مجددًا إلى قلب إنطاكية، لتحجّ في أماكنها المقدّسة، وتشرب من نبع إيمانها الشيء الكثير.

 

 

(النشرة اللبنانية)